نرى على الخريطة مواقع جميع المنشآت الهيدروليكية القديمة التي أُنشئت بغرض الاستفادة من مياه العاصي، منذ القرن الخامس قبل الميلاد، واستمرّ وجودها وصيانتها واستخدامها حتى عصر المحركات البخاريّة والكهرباء.

لنهر العاصي أهميّة كبيرة خلال العصر الرومانيّ الأوّل كون وادي العاصي كان المصدر الأول لصادرات سوريا الغذائيّة، اليوم تقع منابع العاصي في أراضي لبنان ويعبر سوريا ليصب في البحر الأبيض المتوسط عن خليج السويديّة في تركيا.
يجري العاصي على مسافة ٥٧١ كلم أغلبها في سوريا، وترفده الكثير من الأنهار الموسميّة الوافدة من جبال لبنان السوريّة.
يشتهر نهر العاصي بالنواعير التي اختُرعت زمن الآراميّين بغرض نقل الماء من مجرى النهر أسفل الوادي إلى الأراضي الزراعيّة المحيطة بمجرى النهر. والنواعير هي آلات مائيّة خشبيّة تدور بالقوة المائيّة وتنقل الماء منه بواسطة صناديق إلى حوض علويّ ومنه يجري في قنوات محمولة على قناطر ليسقي المدن وبساتينها.
أصل تسمية الناعورة لغويّاً من فعل نَعَر بمعنى احدث صوتاً فيه نعير، والنعير هو صوت يصدر من أقصى الأنف فسميت بالناعورة لصوتها. وأقدم صورة للناعورة عُثر عليها في صورة لوحة من الفسيفساء يعود تاريخها للقرن الرابع قبل الميلاد، وقد عُثر على اللّوحة في مدينة أفاميا الأثريّة بالقرب من مدينة حماة، وتتواجد اليوم في حديقة المتحف الوطني في دمشق.
أما العاصي فقد سُمّي بأسماء عديدة عبر التاريخ منها نهر الأرنط وأورنط وأورنطس وأورند والمقلوب والميماس والكبير والعاصي، والأخير هو الذي غلب عليه اليوم لأنّه يجري من الجنوب نحو الشمال بعكس اتجاه أنهار المنطقة، فيعصي العادة.
ولتأصيل أسماء نهر العاصي نستقي من الأستاذ ملاتيوس جغنون، أحد السوريّين النشيطين في علم النقائش، الإپگرافيا Epigraphia علم دراسة النقوش والكتابات القديمة.
إنّ أقدم اسم عُرف به العاصي هو ما تورده المصادر قاطبة وتجمع عليه وهو الأُرُنط أو الأُرُند، ولكن هذه المصادر تجهل كلّها منشأ هذا الاسم أو أصله أو معناه.
إن لفظة الأُرُنط أو الأُرُند مردّها الكلمة الآرامية السريانية “أُرنوتو” وتعني اللبوه حرفياً، أي أنثى الأسد.
وبعد دخول الثقافة اليونانيّة سوريا مع الاسكندر المگدوني، حُرفت اللفظة لتصبح (أُرُونتِس) باليونانيّة.
ولمّا كانت هذه الكلمة تكتب أُرونتِس (بالتاء)، وتُلفظ أُروندِس (بالدال) أصولاً باليونانيّة فإنّ الفاتح العربيّ أخذها من اليونانيّة لتصبح الأُرُند.
أما عن لفظة الأُرُنط (بالطاء)، علماً بأن الأصل الآرامي هو أُرنوتو بالتاء وليس بالطاء، رغماً عن توفر حرف الطاء في الأبجدية الآراميّة، فإنّه يؤكّد على أن الاسم وصلنا عن طريق اليونانيّة حتماً وليس عن طريق الأصل الآرامي. إذ أنّ حرف الطاف اليوناني في الأسماء ينقلب إلى طاء عند تعريبه.
ثمّ أخذت اللّغات الغربيّة اللاتينيّة والجرمانيّة اللّفظة وأصبح اسم العاصي هو أُرُنتِس Orontes بالإنكليزية وأُرُنته Oronte بالفرنسيّة وهلمّجرّا.
إذاً الاسم يعني اللبوة. أوليس نهر العاصي ينبع من نبع اللبوه بشكل أساسي؟ حيث بلدة اللبوه في هرمل لبنان اليوم.
ولم يكتف الإغريق بإطلاق هذا الاسم المحرّف عن الأصل، بل أطلقوا أسماء أخرى عليه أولها نهر أكسيوس، ولعلّ هذه اللفظة تحريف لكلمة آتزويو الآراميّة التي تعني السريع، الغزير.
أمّا الاسم الثاني الذي أطلقه اليونان على العاصي فهو طيفون ومعناه الدوّامة أو التنّين أو الإعصار.
أما الاسم الثالث فهو مارسيَّس گامپُس Marsyas Campus أطلقه اليونان على عاصي البقاع قبل بلوغه الأراضي السوريّة، وأصل التسمية نجده في الأسطورة اليونانية التي تحول فيها مارسيَس إلى نهر في فريجيا لأنّه أخفق في تحديه لأپولُن إله الفنون الجميلة في مبارزة مع هذا الأخير في العزف على المزمار فقام أپولُن بالانتقام لنفسه وصلبه على شجرة أولاً، ثم ما لبث أن ندم فحوّل متحدّيه الفاشل مارسيَس إلى نهر. ويعني الاسم بالعربيّة حَرًم أو حِمى مارسيَس.
كما أطلقوا اسماً رابعاً وهو پيلوس، على نهر العاصي في منطقة الغاب وما يليها. وليس پيلوس هذا إلا أغرقة (أو يوننة) لاسم كبير الآلهة البابلي بيل المولّج شؤون الخصب وعطاء الأرض.
أما الاسم الوطني الأصيل الآخر لنهر العاصي، فهو ما يطلقه عليه أهل مدينة حمص محلياً الميماس، وتوصّلتُ إلى أنّ اللّفظة أصلها آرامي “مايو مَس” وتعني “يوم الماء” أي يوم أو عيد التقديس أو التطهير بالماء، وهي مكافئة للفظة “بيتو مارسيَس” أي بيت مارسيَس أو حِمى مارسيَس التي وجدناها سابقاً حيث عَثَرْتُ على هذا التكافؤ في وثيقة خارطة مادبا في الأردن والتي تعود إلى القرن السادس الميلادي.
يبقى الاسم العربيّ المتعارف، وتأويله الأكثر احتمالاُ أنّ النهر عصى باتجاه جريانه كلّ اتجاه مألوف لبقيّة الأنهار في سوريا، ولذلك فإن بعض المصادر تدعوه أيضاُ بالنهر المقلوب للسبب ذاته.
اترك تعليقًا