نعرف جميعاً الموسيقى الكلاسيكية الأوروپية التي تبلورت في فرنسا والدول الألمانية في الفترة ما بين القرنين ١٧ وبداية ١٩، هذه الموسيقى ذاتها التي تصاحبنا اليوم في تشكيلات جديدة خلف صور الأفلام السينمائية والتلفزيونية.
كذلك نعرف تطوّرات الموسيقى الكلاسيكيّة التي تفرّعت صوب أنماط جديدة من المدارس الموسيقية كالهيڤي ميتال مثلاً، التي ظهرت في بريطانيا في النصف الثاني من القرن العشرين، مازجة الكلاسيكية بموسيقى الروك، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والتي ظهرت كذلك في بريطانيا.
مع هذه المعرفة نادراً ما نسعى إلى التعرّف على أصول الموسيقى الكلاسيكية، أين منشأها وكيف كانت مسارات تطوّرها، وقد تفاجئنا هذه المسارات بجذور لموسيقى الهيڤي ميتال تسبق وجود الموسيقى الكلاسيكية نفسها. حينها لا تكون الروك سوى رافد أيقظ روحاً كامنة داخل كلاسيكيات الموسيقى الأوروبيّة وجرّدها من مظاهر المجتمع “الكلاسي” الأرستقراطي، لا أكثر.
هذه المقطوعة في الڤيديو المرفق معزوفة من القرون الوسطى يعزفها أندريه ڤينوگرادوڤ Andrey Vinogradov على آلة موسيقية قديمة اسمها {الزنفونة}، يعود تاريخ انتشارها في أوروپا إلى الفترة ما بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر، وهذه الآلة تعود إلى أصل مشابه يسمّى {السيمفونيا} التي تعود إلى القرن ١٣، والتي تعود بدورها إلى أصل آخر من الآلات الموسيقية هي آلة {الأورگَنيزترُم} التي تعود إلى القرن التاسع، وتعود بدورها إلى آلة أخرى تسمّى {ليرا} تطوّرت خلال القرن السابع عن الرباب العربية.
سأتحدّث عن تاريخ هذه الآلات بإيجاز، وسأترك صوراً لها للتعرّف عليها.
أقدم توثيق لذكر هذه الوتريات في أوروپا يعود إلى الجغرافي البغدادي {أبُو القَاسِم عُبَيد اللّه بِن عَبد اللّه اِبن خُرْداذَبِه} الذي وضعه في القرن التاسع في كتابه {اللّهو والملاهي} حين دوّن ذكر اللّيرا والأورگَنيزترُم والسلنچ (القربه) واتّساع انتشارهم في الامبراطورية البيزنطيّة، وتحدّث عن ارتباط أصول الليرا بالرباب التي كانت شائعة في شبه الجزيرة العربيّة والهضبة الإيرانيّة، وقارن بين استخدام الآلتين. خلال القرن ١٣ عادت وتلاقت من جديد آلتي الليرا والرباب في شبه الجزيرة الإبيريّة، فولدت عن هذا التلاقح الجديد آلة الربك أو الربكه.

تحوّلت آلة الربك سريعاً إلى الآلة الموسيقية الأولى لعرب أوروبا والمغرب ووُلدت معها الموسيقى الكلاسيكيّة العربيّة، التي بقيت تراثاً في المغرب ونزحت كذلك مع المهجّرين اليهود والمسلمين من الأندلس وقشتالة، وصارت سريعاً الآلة الموسيقيّة المفضّلة في البيوت الملكية في عموم الإمبراطوريّة العثمانيّة. هذه الربكه هي التي تطوّرت إلى آلة الكمان التي نعرفها اليوم.



وتعود تسمية آله {الربك} لغوياً إلى فرنسيّة القرن ١٥ rebec التي تعود بدورها إلى الفرنسيّة القديمة من القرن ١٣ ribabe التي تعود إلى العربيّة الإبيريّة {ربابة} التي تعود إلى العربية {رباب}. وبرغم انتشار هذه الكلمة rebec في أوروپا عن العرب اسماً لآلة {الربكة}، غير أنّها بقيت يتداولها الفرنسيّون ولوقت طويل اسماً للكمنجة كذلك. وأمّا آلة {الكمان} بشكلها المعروف اليوم ظهرت لأوّل مرّة في مدينة البندقيّة في النصف الثاني من القرن ١٥، حَسَبَ الموسيقي {ييان لى تَينِتنيير} Jehan le Taintenier، المعروف لاتينياً باسم {يونس تنگتورس} Johannes Tinctoris.
ترجع تسمية آلة الربكة العربية بـ{الكمان} أو {الكمنجة} إلى اللغة الپهلويّة، حين اشتقّت من الكلمة التي تعني القوس {كمان} مع إضافة لاحقة النسبة {ـچه} فصارة {كمانچِه} أي القوسيّة… أو ذات القوس؛ بتعريب أدقّ.
ووَفْقاً لـِ{خير الدين الزركلي} فإنّ أقدم ذكر لآله تشبه {الزنفونة} (هُردي-گُردي) يعود إلى مقطوعة موسيقيّة مكتوبة خصّيصاً لآلة {الأورگَنيزترُم} في القرن العاشر، وهي محفوظة مع منحوته لعازفين يلعبون على آلة {الأورگَنيزترُم} تعود إلى القرن ١٢ في كنيسة {شنت ياقُب} في گليقية شمال غرب إسپانيا المعاصرة، والتي تحتوي ضريحاً يُفترض أنه لـ{يعقوب بن زبدي} أحد تلاميذ المسيح.
وآلة {الأورگَنيزترُم} (الأورگ) هي آله موسيقيّة كبيرة نوعاً ما، صمّمت لشخصين يعزفان عليها معاً، أحدهما يدير عجلة الأوتار وينقرها. وفي {الزنفونة} العجلة استبدَلت القوس، والآخر يلعب على مفاتيح التنغيم.
في إبيريا العربيّة كذلك تطوّرت خلال القرن ١٣ آلة جديدة عن {الأورگَنيزترُم} هي آلة {السيمفونيا}، بحيث تمّ تصغير آله {الأورگَنيزترُم} بشكل يسمح لشخص واحد بالعزف عليها حتّى وهي محمولة، حين يدير بأحد يديه عجلة الأوتار بينما يلعب على مفاتح التنغيم باليد الثانية، ويشبه جسم {السيمفونيا} آلة العود بشكل كبير.

خلال عصر النهضة الأوروپية شاعت {السيمفونيا} بشكل واسع في البلاد الأوروپية إلى جانب آلة {القربة}، ثمّ وخلال القرن ١٧ وقبيل نهاية عصر النهضة، أضيفت في فرنسا تعديلات على آلة {السيمفونيا} حوّلت شكلها لما يشبه {الگيتار} أكثر بتسطيح ظهرها، مع إضافات تقنيّة استوردت من إنگلترا كقطعة الكلب مثلاً لرفع الأوتار، منحتها الشكل الأخير الذي بات معروفاً في جنوب فرنسا الكلتي باسم {هُردي-گُردي} وهي الزنفونة العربيّة ذاتها. ثمّ وخلال القرن ١٨ زادت عدد أوتارها ست أوتار من قبل الموسيقي الإيطالي البنديقي المعروف {ڤيڤالدي}، لزيادة الطنين.
خلال تلك الفترة شاعت آلة {الزنفونة} في وسط أوروپا خصوصاً في البلاد الألمانية وكذلك على الشرق في البلاد السلاڤية وهنگاريا. لاحقاً كرهت العائلة المالكة الروسيّة هذه الآلة فصنّفت عازفيها بالمتسوّلين، ولمّا كان القانون الروسي يمنع التسوّل في شوارع الامبراطورية الروسيّة فقد لوحق موسيقيّوا {الزنفونة} وقُمعوا من قبل السلطات، ونُظر إلى الآلة في الشارع الروسي كآلة وضيعة، إلى أن رُفع الحظر سنة ١٩٠٢.
يعود أصل اسم الآله الشائع {هُردي-گُردي} إلى اللّغة الكلتية البائدة، وفي اللّغة الفرنسيّة تُعرف الآلة باسم {ڤييل} vielle المأخوذ عن الكتالونية {ڤيولا} وهو الاسم الذي تحوّر لاحقاً إلى {ڤيولون} في الفرنسيّة و{ڤَيولِن} في الإنگليزية بمعنى الكمان، أمّا في كتالونيا فتسمّى الزنفونة {ڤيولا دى رودا} viola de roda أي كمان العجلة. أمّا اسمها العربي القديم فهو آلة {الزنفونة} أو {الزنفونيّة} ولم يزل هذا الاسم ذاته مستخدم في إسپانيا zanfona حتى اليوم.
لقراءه النقاش الموسع على فيسبوك
https://www.facebook.com/monisbukhari/posts/10156144080974017
اترك تعليقًا