في مثل هذه الأيام من شباط فبراير سنة 1907 شُرع العمل على مدّ خطوط ترام دمشق الكهربائي في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، كانت دمشق من أوائل مدن العالم التي تُنار وتشغل المواصلات العامة بالتيار الكهربائي، حتى قبل إسطنبول العاصمة.
أوّل قاطرة كهربائية في العالم كانت من تصميم الكيميائي الاسكتلاندي روبرت ديٓڤيدسُن Robert Davidson سنة 1837، في ذلك الوقت عومل اختراع روبرت كعمل فنّي وعُرض في المعارض الفنّية دون التفكير باستخدامه عملياً.

سنة 1841 قدّم ديٓڤيدسُن تطويراً على قاطرته الكهربائية مكّنها من حمل ست أطنان والسير بسرعة 6 كم في الساعة، وسارت بها بطارياتها لمسافة 2,4 كم في إدنبره. في العام التالي دمّر عمّال سكة الحديد الإنكليز هذا الاختراع المتفوّق في زمنه خوفاً من خسارة وظائفهم لحساب الكهرباء.
انتظر العالم حوالي ثلاثين عام بعدها لتجربة أول قاطرة كهربائية حقيقية سنة 1879 في برلين من قبل المخترع إرنست ڤرنر زيمنز Ernst Werner Siemens. سار اختراع ڤرنر بسرعة 13 كم\س واستمرّت تجربته ثلاث أشهر، حين قامت مقطورة زيمنز بحمل الركّاب في خطّ دائري طوله 300 متر.
بعد نجاح التجربة نال ڤرنر فون زيمنز سنة 1881 حقّ إنشاء خطّ حديدي كهربائي على سبيل التجربة في بلدة ليشترفيٓلده Lichterfelde بالقرب من برلين الألمانية، بعدها بسنتين أنشئ خط تجريبي كذلك في بلدة برايتون Brighton الإنگليزية ومن قبل الجالية الألمانية فيها. وكذلك في ڤيينّا في النمسا. ثمّ سنة 1888 استُنسخت عدّة خطوط كهربائية تجريبية في الولايات المتحدة الأميركية وبتصاميم معدّلة عن الألمانية الأصلي.
بدايةً، نالت القطارات الكهربائية القبول كبديل عن القطارات البخارية في الأنفاق والأماكن المغلقة كعلاج لمشكلة الدخّان المتراكم، لذا كان افتتاح أوّل خط كهربائي تجاري بشكل رسمي سنة 1890 كقطار أنفاق تحت جنوب لندن. ما فعلته شركة “سيتي آند ساوث لندن ريٓلويز” شجّع شركات أخرى لاستبدال قاطراتها البخارية بالكهربائية، لكن بقي هذا التغيير مقيّداً بقطارات الأنفاق دون توسّعه ليشمل قطارات سطح الأرض.
سنة 1904 سارت أوّل القطارات السطحية الكهربائية في نيويورك الأميركية، وبحلول سنة 1910 كانت جميع خطوط برلين الألمانية قد تحوّلت إلى القاطرات الكهربائية.

في دمشق تمّ تحويل جميع خطوط الترام والقطارات السطحية إلى استخدام الكهرباء سنة 1907 وكان ملتقى خطوط ترام (ترامواي) دمشق الكهربائية يقع في زقاق الصخر مقابل سينما الكندي ومقهى هاڤانا. لكن ما هي قصّة القطارات الكهربائية الدمشقية؟ لنتابع
دخلت الكهرباء دمشق أواخر القرن 19 واستُخدمت غالباً لإنارة المؤسّسات الحكومية وتشغيل مضخّات المياه، في تلك الفترة بدأت الحكومة بالتفكير باستخدام الكهرباء لتغذية مواصلات المدينة وأريافها بديلاً عن المقطورات المجرورة بالخيول، سيّما بعد نجاح تجرِبة لندن وبعد مدّ خطوط الاسكندرية.
يوم 7 شباط 1889 اتفق وزير الأشغال العثمانية (النافعه) مع رجل الأعمال السوري يُوسُف مِطْرَان على تمديد خطوط ترامواي دمشق وكانت خطوطها كالتالي:
- خط باب النصر، وينطلق من مركز مدينة دمشق (ساحة المرجة) ليمرّ في بوابة الله (القدم) ثمّ يتابع إلى مزيريب.
- خط جامع الشيخ محي الدين في الصالحية.
- خط جامع الأقصاب وباب شرقي ثمّ يتابع إلى دوما.

كان الاتفاق على أن تكون الخطوط داخل المدينة القديمة مجرورة بالخيول، ثمّ ينتقل الركّاب إلى خطوط مجرورة بالبخار نحو الأرياف.
نال مِطْرَان امتياز خطوط دمشق الحديدية لمدة ستين سنة، وكان الاتفاق على أن يبدأ بتنفيذ المشروع خلال سنة اعتباراً من تاريخ تصديق الامتياز، ثمّ يُنجر العمل على مدى سنتين ونصف. مضى عام ونصف دون الشروع في المشروع فسُحب الامتياز من يد الثري يُوسُف مِطْرَان.
لاحقاً تقدّم الأمير محمد أرسلان بطلب امتياز توليد الكهرباء واستثمارها في ولاية دمشق (سوريه)، فنال الاتفاق سنة 1903 ولمدّة تسعة وتسعين سنة على أن ينتهي المشروع خلال أربع سنوات. في العام التالي أخذ أرسلان امتياز تقديم الطاقة الكهربائية لتسيير حافلات الترام على الخطوط الممنوح امتيازها قديماً ليوسف مِطْرَان.
عقد محمد أرسلان شراكة مع شركة بلجيكية للخطوط الحديدية لتنفيذ خطوط ترام دمشق، فتأسّست بداية سنة 1904 شركة باسم “الشركة العثمانية السلطانية للتنوير والجرّ والكهرباء بدمشق” وكانت شركة عامة طُرحت أسهمها بالآلاف ليشتريها العامّة، فاستثمر فيها الكثير من أهل دمشق.
شاهد الدمشقيون حافلات الترامواي الكهربائي تسير في دمشق لأوّل مرّة في نيسان سنة 1907، ثمّ وُسّعت خطوط المدينة سنة 1909 ونال خط المهاجرين توسعة ثانية سنة 1911، بالتزامن مع كهربة خطوط ترام برلين في ألمانيا.
شُرع في تنوير دمشق وشوارعها بالكهرباء في نيسان سنة 1907 وتمّ توليد الكهرباء من مياه نهر بردى في محطة توليد (معمل كهرباء) في دِمّر. ونالت محطّة التوليد توسعة كذلك سنة 1909 ثمّ توسّعت الشركة في عهد الفرنسيين ودخلها مساهمون فرنسيّون، ثمّ انتقلت ملكية الشركة إلى الحكومة السورية في عهد التأميم وصار اسمها “مؤسّسة كهرباء وترامواي دمشق”.
“وفي الفترة نفسها تقريباً دخلت دمشق عالم القطارات للسفر البعيد، وبذلك شعرت دمشق بأنها مدينة حديثة، شأنها شأن المدن العريقة في أوروبا، ومن يتأمل صورة لساحة المرجة والترامواي يقف فيها، يظن نفسه حقاً في مدينة برلين أو لندن أو باريس في بداية القرن العشرين.”
اقتباساً عن د. جوزيف زيتون
وكغيرها من مدن العالم الحديثة، ساهمت خطوط القطارات الكهربائية في تشكيل المباني والشوارع الحديثة في المدينة، حيث ارتفعت أسعار العقارات لقربها من محطات القطارات، وصارت الناس تبني أهمّ مبانيها على محاذاة مسار خطوط الترامواي.

سنة 1962 قرّرت الحكومة السورية تصفية شركة الترام واستبدال خطوطها بحافلات المازوت، وبدأ إلغاء الخطوط تدريجياً إلى أن انتهى وجود الترامواي سنة 1967 بإلغاء خط القصاع. برّرت الحكومة إلغاء خطوط ترام دمشق بمزاحمة السيارات للحافلات الكهربائية، وكذلك بمشاكل الصيانة التي تعانيها الشركة بعد تأميمها تماماً في عهد عبد الناصر في سوريا.
في الواقع تأتي خطوات إلغاء الخطوط الكهربائية تنفيذاً لمطامع شركات النفط، التي أرادت سوقاً أوسع لتصريف محروقاتها في النصف الشرقي من العالم.

من الجدير بالذكر أنّ ترامواي دمشق سبق ترامواي دبي بمئة عام. وكان الثالث عربياً بعد الإسكندرية 1863 والجزائر العاصمة 1898، أما خطوط ترام إسطنبول العاصمة العثمانية فقد تحوّلت إلى الكهرباء سنة 1912، بعد دمشق بخمس سنوات، وكانت ألغيت كذلك سنة 1966 ثمّ استعادتها إسطنبول من جديد سنة 1991.
وتجدر الإشارة كذلك إلى أنّ سكك خطوط الترام بقيت في شوارع دمشق مانحة الناس أملاً بعودتها، إلى أن أزالتها الحكومة السورية مطلع الألفينات، ولم يبق من آثارها اليوم سوى مصنع القطارات القديم المغلق في منطقة القدم، حيث وُلدت جميع القطارات السورية.

اترك تعليقًا