المطّلع على تاريخ دول الشرق الأوسط يلاحظ بسهولة نمطاً متكرّراً ومستمرّاً في حدود دول المنطقة على مرّ الألفيّات.
أحد تلك الأنماط الرئيسية منطقة لا تملك اسماً جغرافياً بحدّ ذاتها، لكنّها تكرّرت كوحدة سياسيّة تعاقبت عليها السلالات الملكية وتغيّرت أسماء دولها باستمرار دون أن تنفصل عن بعضها سياسياً إلا في القرن العشرين.
بني طولون > بني إخشيد > الفاطميّون > الأيّوبيّون > المماليك > بني عثمان > العلويّون
أوّل بوادر ظهور استقلاليّة هذه المنطقة كانت في عهد المملكة الطولونيّه التركيّه، التي أسّسها أحمد بن طولون القپچاقي سنة 868 مستقلّاً عن الدولة العباسيّة بمصر والشام والنوبه وطبرق مع نفوذ على الحجاز من القاهرة.
مع ذلك فإنّ دولة بني طولون لم تكن أكثر من إرهاصات استقلاليّة هذه المنطقة في العهد الإسلامي، التي ما لبثت أن عادت إلى سلطة بغداد بعد 37 سنة من الاستقلال.

عادت هذه المنطقة مستقلّة من جديد ومن القاهرة، تحت تاج أسرة طغج الإخشيد سنة 930، وأسرة بني إخشيد (كما سمّاهم العرب) هي سلالة تركيّة مستعربة من تركستان، حكمت من جديد مصر والنوبه والشام وطبرق والحجاز. ذات الكتلة الجغرافيه الطولونية.

سنة 969 سقطت الدولة الإخشيدية تحت سلطة الخلافة العربيّة الفاطميّة، التي انتقلت عصمتها فوراً إلى القاهرة، ثمّ ما لبثت أن انحسرت حدودها لتشمل ذات الحدود الطولونيّة الأولى: مصر والنوبه وطبرق والشام والحجاز مع نفوذ على اليمن.

خلال القرن 12 أعاد الأيّوبيّون توحيد هذه المنطقة من جديد وتحت سلطة القاهرة فشملت دولتهم ذات الأقاليم السابقة: مصر والنوبه وطبرق والشام والحجاز واليمن.

سنة 1240 انقلب ضباط الجيش الترك المماليك على عرش الأيوبيّين ليصدّوا الاتساع المُنگولي، ثمّ ليقيموا كرسيّاً للخليفة العباسي في القاهرة. واستمرّت الدولة بحدودها لم تتغيّر: مصر والنوبه وطبرق والشام والحجاز واليمن.

سنة 1517 سقط آخر سلاطين المماليك القپچاق تحت تاج بني عثمان الترك، ورغم انضمام هذه الكتلة إلى الامبراطوريّة العثمانية الأوروپية لكن، في الواقع، بقيت وحدتها الثقافيه والاقتصادية لم تتغيّر، إلى درجة سعي الأسرة العلوية الألبانية لإعادة الاستقلال بها من جديد خلال القرن التاسع عشر، ومن القاهرة.

عاشت هذه المنطقة وحدة سياسية وثقافية واقتصادية مع ثبات مركزيّة مدينة القاهرة فيها دون تغيير لأكثر من ألف عام، ويؤسفني أنّ دراستها من قبل مناهج التاريخ المعاصرة تقوم على تقطيع وتشويه تاريخها، تحت الأهواء القومية، دون إلقاء ضوء كاف على حقيقة تكتّلها.

ومن المفارقات الملفتة للنظر أنّ هذه الكتلة الجغرافية تمثّل حقيقة حدود المملكة البطُلمية الإغريقية التي سبقت الحكم الروماني، وحكمت ذات المنطقة الجغرافية تقريباً من مدينة الإسكندرية، طيلة ثلاثة قرون من 305 ق.م حتى سنة 30 ميلادية. وهي ذاتها المنطقة التي حاولت الاستقلال بها زنوبيا عن الامبراطورية الرومانية خلال القرن الثالث، مدّعية نسباً إلى الأسرة البطُلميه في مصر.

أعتقد أنّ عودة هذه المنطقة إلى وحدة اقتصادية حقيقة، وربّما سياسية، هو الحلّ الناجع لمآسي منطقة الشرق الأوسط كلّها، هذه المنطقة التي تثير قلق كلّ القوى غرب أوروپا لما لها من تأثير على خطوط التجارة بين أطراف العالم أجمع. وأظنّ أن تغييب تاريخ هذه المنطقة الحقيقي وتشويهه هو أحد تأثيرات القلقين من عودتها إلى وحدتها الطبيعية، فهي منطقة تتكامل وتلتصق اقتصادياً من تلقاء نفسها.