مطبخ, إتيمولوجي, تاريخ

في تاريخ الكنافة

يكثر اللّغط في تاريخ الكنافة، طبق الحلويات الشهير في الشرق الأوسط والعالم، والذي يقوم على صناعته اقتصاد هائل ينافس حجم تجارة الشاورما والدونر في أوروپا، إذ أنّ الكنافة دخلت قائمة الوجبات السريعة في الشرق الأوسط منذ القرن 18 لتتصدّر أكلات الشارع في الدولة العثمانية طوال القرن 19.

واللّغط يكثر أكثر في تفسير معنى كلمة كنافة، وفي قصص وأساطير تُروى عن اختراعها في قصور الخلفاء والسلاطين، وكلها اختلاق وخيال لا علاقة له بالواقع.

في البدء يجب الفصل ما بين كلمة “كنافة” بحد ذاتها، وشكل أكلة الحلو التي نأكلها اليوم. فالكلمة موجودة ومستعملة قبل اختراع أكلة الحلو بقرون كثيرة، ثمّ انحسرت للتعبير عن أكلة الحلو الشهيرة فقط مع ذيوع صيطها.

تعود كلمة كنافة إلى العامية المصريّة “كنافتن” عن القبطية بمعنى كعكة (كيكه) وكتابتها العربية المعاصرة كُنَافَةٌ. وكلمة “كنافتن” القبطية تعود بدورها إلى الكلمة العربية مُكَنَّفَة التي تعني الإحاطة بالشيء من جول جوانبه، وكان الكنف اسم لطبق الراعي المعدني العميق. والكلمة انتشرت من مصر في عموم المغرب العربي بشطريه الأفريقي والأوروبي فصارت تعني كل ما يُطهى في وعاء تقديمه. وحتى لحظتها لم تخترع أكلة الحلو المعروفة بالكنافة بعد.

يقول ابن منظور في معجمه لسان العرب:

  • وتكنَّف الشيء واكْتَنَفه: صار حواليه.
  • وتكَنَّفوه واكْتَنَفُوه: أَحاطوا به، والتكْنِيفُ مثله. يقال: صِلاء مكَنَّف أَي أُحيط به من جَوانِبه.
  • والصِّلاءُ، بالمدِّ والكَسْرِ: الشِّواءُ لأَنَّه يُصْلَى بالنَّارِ.

أهمّ مراجع تاريخ الطبخ العربي هو “كتاب الطبيخ” من القرن العاشر الذي كتبه ابن سيّار الورّاق في بغداد، وجمع فيه وصفات مصنّفة ببين العربية والفارسية، من التي كانت شائعة في الدولة العبّاسية تلك الفترة، ولم يأت على ذكر كلمة كنافة في أيّ من صفحاته، ولم يذكر وصفاً يشبهها. لكنّ ابن سيّار يذكر “القطايف” من أكلات رمضان ويصفها بما نعرفه اليوم باسم الكرِپ، ويقول في وصفها: تُحشى القطايف بالجوز ثمّ تقلى في الزيت ثمّ تغطّى بدبس وعسل.

وفي وصفة ثانية يعرض ابن سيّار شكلاً آخر للقطايف يسمّيها “الرّقاق” يقول عنها أنها قطايف كبيرة معمولة من نسج خيوط رفيعة من خلطة القطايف على صحن معدني واسع سمّاه “الطبق”، ثمّ تغطّى بالفواكه المفرومة المنقوعة بالسكّر.

مرجع ثان من القرن 13 وبذات الأهميّة اسمه “كتاب الطبيخ في المغرب والأندلس” لكاتب غير معروف، يذكر القطايف العبّاسية ويقول أنّ اسمها الأندلسي هو “مصحّدة”، كما يذكر كلمة “كنافة” بالحرف ويشرح عنها أنّها كرِپ معمول من خلطة أرقّ على “مرآة هندية” أي “طبق” ويشبّهها بالرقاق العباسي.

تسمّى المرآة الهندية والطبق في أيّامنا في الشرق الأوسط: الصاج

ويصف الكنافة بأنّها معمولة بشكل نسيج رقيق ثمّ يعدّد في أشكال وصفاتها، فمنها المغطّى بطبقات من الجبن الطازج ومنها المحشو بالجوز، ثمّ يُخبز ثمّ يغطّى بالعسل وماء الورد، ثمّ تقطّع الكنافة بشكل معيّنات وتقدّم ساخنة.

هذا الأخير هو الوصف الأقرب للكنافة التي نعرفها اليوم وباسمها الصريح، وبهذا يثبت تاريخياً أنّ الأندلس وبلاد العجم هي المنبع الأصلي للكنافة كما نعرفها في أيّامنا، حين استخدم الأندلسيّون طريقة الصقليّين في صنع الشعيريّة (الفيرماسيلي) لكن لطبخ طبق حلويات بدلاً عن المعكرونة المعروفة.

انتقلت حرفة الكنافة من المغرب صوب المشرق سريعاً وقبل نزوح عرب شمال المتوسط، إذ وفي ذات القرن 13 يذكر أحد أبرز علماء القراءات الدمشقيّين، ابن الجزري، في تدويناته أنّ مفتّش السوق كان يخرج ليل كلّ يوم من أيّام رمضان ليتحقق من جودة الكنافة والقطايف وبقية مأكولات رمضان في العهد المملوكي.

في نهاية القرون الوسطى ابتكر اللاجئون الغرناطيون في سوريا تقنية جديدة لصناعة شعرية الكنافة، بواسطة زيادة رقّة عجينة الشعرية وتسييلها من طريق فتحات في وعاء يحرّك بشكل دوائر فوق صاج (طبق) معدني ساخن.

في القرن 15 أُتمّت ترجمة إلى العثمانية لـ”كتاب الطبيخ” الثالث الذي أنجزه محمد بن حسن البغدادي في القرن 13 واعتُمد الكتاب كمرجع أوّل ووحيد لمطبخ سلاطين آل عثمان، واحتُفظ بالنسخة الأصلية في المكتبة السليمانية في القسطنطينية، لكنّ المترجم العثماني أضاف العديد من الوصفات التي لم يذكرها البغدادي في كتابه.

ومن الوصفات المضافة وصفة يسمّيها كاتبها العثماني “القضايف” حيث يورد ذات الطريقة المعاصرة التي نعرفها للكنافة، ويعدّد حشواتها بأنّها تتنوّع بين الجوز والجبن المحلّى والقشطة، والمرشوشة بالقطر وماء الورد. ما يعني أنّ الكنافة انتشرت من بلادها العربية نحو تركيا وإيران واليونان وبأسماء مختلفة.

في بلاد المشرق العربي تسمّى الكعكة كنافة، ثمّ يقال كنافة بالجبنة أو كنافة بالقشطة… وهكذا، حَسَبَ الحشوة.

في تركيا والبلقان تسمّى الكعكة قطايف أو قضايف، ثمّ يقال للوصفة بكاملها مع حشوتها جاهزة للتقديم كنافة.

أنوع الكنافة المعاصرة خمسة هي:

  • كنافة خشنة: معمولة من شعرية القمح السميكة.
  • كنافة ناعمة: معمولة من عجينة السميد.
  • كنافة محيّرة: معمولة من خليط من الناعمة والخشنة.
  • كنافة مبرومة: معمولة من شعرية سميكة ومن ثمّ ملفوفة على حشوتها.
  • كنافة نابلسية: معمولة من شعرية القمح السميكة المفروكة.

وأكثر وصفات الكنافة الشائعة في المشرق العربي اليوم هي الكنافة النابلسيّة، بينما تنتشر في تركيا كنافة أم النارين التي يعود أصلها إلى شمال الساحل السوري، أما في أذربيجان فيضاف لحشوتها الجوز والقرفة والزنجبيل والورد المجفّف وماء الورد مع زيت الزيتون أحياناً، وهي كذلك الوصفة الشائعة في شمال إيران. أمّا في اليونان فتُصنع بشكل أخشن من الخشنة المعروفة عربياً وتشكّل بشكل عشّ البلبل.

أمّا الكنافة النابلسية، الأشهر اليوم في العالم العربي، فظهرت للوجود أساساً بابتكار الجبن النابلسي، الميزة الأساسيّة للكنافة النابلسيّة. ورغم استخدام العديد من الطهاة للجبن العكّاوي مع الكنافة “النابلسية” لكن الأساس في وصفة النابلسية واسمها هو جبن نابلس.

خلال القرن 19 احتاجت مطاعم نابلس لجبن لا يذوب بالحرارة، ما يسمح بترك صدور الكنافة على النار لأطول فترة ممكنة، خدمة للتجارة والمطاعم. فتمّ الاستناد على الوصفة الأساسية لتحضير جبن عكّا باستبدال حليب البقر بحليب الغنم والماعز وأضيف المحلب والمستكة للجبن المملّح، ما زاد من مقاومته للحرارة، وزيادة قابليتها للامتطاط.

وإلى جانب الجبن النابلسي أضافت مطاعم نابلس السمن العربي إلى وصفة الكنافة وزيّنت قطع الكنافة بالفستق الحلبي المبروش واستغنت عن العسل، فتوازن مستوى الحلاوة في نكهة الكنافة وصارت مقبولة أكثر لشعب يفضّل الموالح والمخلّلات على السكّر.

كما أنّ طريقة تحضير الكنافة النابلسية تتضمّن فرك الكنافة الخشنة لتقطيع الشعيرات، ما يميّز شكلها وقوامها عن وصفات الكنافة الأخرى المنتشرة في تركيا والبلقان.

اليوم تنتشر الكنافة النابلسية في جميع مطاعم الكنافة السورية، في سوريا والعالم، حتى استبدل السوريون كلمة كنافة بكلمة نابلسية، وبقيت المدن السورية تستورد جبن الكنافة من نابلس حصراً إلى أن قطّعت الحدود التجارة عقب قانون مقاطعة إسرائيل، فصنعتها المدن السورية.

يستخدم بعض الطهاة في تحضير الكنافة مواد ملوّنة لتلوين السدر باللّون البرتقالي الشائع، لكن الأساس الأصوب هو تحميص صدر الكنافة في الطبق لمنحه اللّون المحبّب، والعجينة السليمة تنتج اللّون المطلوب بدون ملوّنات.

إذاً: فالكنافة هي ابتكار أندلسي خلال القرن 13 استند إلى تطوير وصفة عربيّة عراقيّة تعود إلى القرن 10 وباستخدام تقنيّات صقليّه تعود إلى القرن 11، قام النابلسيّون بتطويرها خلال القرن 19 وإصدار أحدث نسخة معروفة من وصفاتها ومكوّناتها حتّى اليوم.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s