يقول مارتن بوبر “تمتلك عيون الحيوان القدرة على الكلام بلغة عظيمة” لغة يفهمها البعض في عالمنا المعاصر وتجهلها الأغلبية. هذه المعرفة تشير أحياناً إلى مستوى تحضّر الإنسان، والمجتمع النابت من حوله.
يفتتن العالم اليوم باهتمام أوروپا بحقوق الحيوان ورعاية الحيوانات الأليفة، لكن ومن خلال إقامتي في أوروپا لم أجد هذا الاهتمام الحقيقي كما قرأته من صفحات التاريخ. فلا مقارنة على الإطلاق ما بين رعاية غرب أوروپا للحيوان، وحياة الحيوانات في ظلّ السلطنة العثمانية مثلاً، التي بقيت بعض تقاليدها حيّة إلى اليوم في إسطنبول وشمال كردستان العراق، بعد قرون عديدة من شيوع نظرة راقية سامية بتحضّرها لبقية مخلوقات الأرض، التي نجدها كذلك بين العديد من شعوب أفريقيا، وخصوصاً الدينكا والماساي، أولائك الذين تراهم الحضارة الأوروپية همجاً.
أتّحدث هنا قليلاً عن قوانين السلطنة العثمانية بما يخصّ الحيوانات ورعايتها داخل المدن، تلك القوانين التي زالت مع زوال العثمانية وبقيت بعض آثارها ماثلة وشاهدة إلى اليوم، على حضارة مهّدت لأوروپا الغربية تحضّرها، قبل زوالها بفعل الحرب العالمية الأولى وبتدمير تلك الدول الغربية للسلطنة العثمانية.
منذ القرن الرابع عشر وجرياً على عادات أسلافهم في سلطنة الروم، أسّس العثمانيون أوقافاً لمساعدة حيوانات السلطنة، كانت الأوقاف في مكانة المنظمات غير الحكومية في عصرنا، تنال تمويلاً حكومياً أو أهلياً وتعمل تحت إشراف جمعيّات أهلية تديرها؛ غالباً، المدارس والمساجد وبيوت الأمراء. أنشأ العثمانيّون أوقافاً لمساعدة كلاب الشوارع على قهر جوعها بتوفير الغذاء، وبتوفير المياه لمساعدة الطيور في الأيام الحارّة، وأسّسوا مستوصفات جوّالة لمساعدة اللّقالق إذا ما أصابها جرح، وتكايا للذئاب البرية حيث تجد ما تأكله بدلاً عن مواشي الرعاة، وكانت تكايا الذئاب تحتوي كذلك على مستوصفات لعلاج الذئاب المريضة والجريحة.
لم تقتصر رعاية الدولة العثمانية على حيوانات الأرياف، بل اتجهت القوانين الحكومية كذلك لدفع الناس لرعاية حيوانات المدن، إذ قامت الحكومة بداية ببناء بيوت طيور على الواجهات الخارجية للمساجد والمدارس والقصور، وحصرت بناء بيوت العصافير على الواجهات التي تنال قسطاً من أشعة الشمس ولا تواجه تيارات رياح قوية، على أن تكون على ارتفاع مناسب لا يطاله الناس ولا القطط. وقامت الأوقاف العثمانية كذلك بوضع أطباق حجرية على القبور لتتجمّع فيها مياه الأمطار فتشرب منها العصافير.
في دمشق وسنة 1566 أنشأ السلطان العثماني سليمان الثاني مدرسة ومنازل للغرباء إلى جوار مسجد السلطان سليمان الأول (القانوني) الذي كان بناه المعمار سنان سنة 1544، وبهذا تحوّل المسجد تكيّة أقام فيها طلاب المدارس السليمانية ممّن يفتقرون للقدرة على استئجار غرف مدرسية، وقاموا بدورهم على خدمة الغرباء ممّن تقطّعت بهم السبل دون قدرة على النزول في فندق. وإلى جانب خدمة ورعاية الغرباء، اشتغل الطلاب المقيمون على خدمة الحيوانات المتقاعدة من نزلاء وقف الخيل إلى جوار التكية السليمانية.
على الجانب الغربي من التكية السليمانية وعلى طول مجرى بردى امتدّت أرض السيران، وكانت مأوى للحيوانات المتقاعدة من خدمة أهالي دمشق. هنا وطوال عشر قرون، ترك مزارعوا دمشق حميرهم وكلابهم وخيولهم وحتى ثيرانهم التي ما عادت تقوى على الخدمة، كي تسرح في حديقة التكية السليمانية دون رباط، ويقوم نزلاء التكية على خدمتها، فتُمضي سنوات التقاعد في رفاهة؛ مخدومة، بعد أن كانت تخدم على خطوط الزراعة والصناعة طوال عمرها.

في غرب مدينة بورصة (خداوندگار)، أولى عواصم السلطنة العثمانية منذ 1326، نجد “الغُربا-خانه اللقلقان” أي منزل الغرباء للقالق، ولم يزل المبنى واقفاً إلى اليوم، حيث كان مستوصفاً لعلاج اللّقالق الجريحة. وفي بورصة كذلك دخلت في الثقافة الإسلامية عادات رعاية وحماية الحمائم، التي كانت أساساً من عادات روم بورصة وغرب الأناضول. فصارت من حسنات المصلّين إطعام ورعاية أسراب الحمام، التي كانت تعشش بحرية على زوايا وقمم المساجد والكنائس وداخل أسقفها الخشبية، وباتت من طبيعة المشهد الإسلامي أن نشاهد الطيور بكثافة داخل حرم المسجد وعلى أسواره الخارجية.
فعلياً، “الغُربا-خانه اللقلقان” Gurabahane-i Laklakan هو أقدم مستشفى معروف للحيوانات في العالم، اشتغل في علاج الطيور المهاجرة، وكذلك في علاج الحيوانات الأليفة والشريدة على السواء، على نفقة الدولة، وقد أعادت بلدية سلطان غازي تأهيل المبنى المغلق منذ نهاية القرن التاسع عشر، وافتتح من جديد سنة 2010 كمستشفى للحيوانات.
لا أعلم بالضبط أيّ سلطان عثماني سنّ هذه العادة، لكنّها صارت لاحقاً من أهم معالم الإسلام العثماني الرسمي، حين أمر بإنشاء بيوت للطيور في جدران المساجد والمدارس والقصور الملكية. أضافت هذه المباني بيوتاً من الخشب فُصّلت مقاساتها لتناسب عدّة أنواع من الطيور، كالحمائم والغربان والدوري والحساسين. أمّا المساجد والمباني الجديدة فقد ضمّنت هذه البيوت الصغيرة ضمن التصميم الأساسي للمبنى، فصارت حجرية بفراغات وغرف داخل الجدران (كما نرى في الصورة).

لاحقاً، وعلى الأغلب خلال القرن الخامس عشر، أمر مرسوم سلطاني بتعميم هذه العادة على جميع المنازل في مدن الإمبراطورية العثمانية فصارت لزاماً حتى على بيوت الناس، تتنافس في تصميم أشكال بيوت الطيور وزخرفتها للتباهي بها، فأسماها الناس بالعثمانية “كُش كوشكُ” أي سرادق الطيور، وانطلقت عنها مهنة الكشّاش المعروفة في جميع المدن العثمانية، الذي اعتاش براتب شهري من الوقفيات العثمانية للعناية بالكُشش، أي الطيور، وخاصة على أسطح البيوت الأهلية.
في مرحلة تالية أمرت السلطات العثمانية ببناء بيوت لللقالق على قمم المباني المناسبة، فصارت على أي سقف حجري على شكل مصطبة تلائم أعشاش اللقلق، أسماها الناس “سِرچه سَراي” أي قصر اللقلق. وصارت شائعة على أسطح المساجد والنُزل والمكتبات العامة والمدارس وقنوات الماء وحتى على النوافير وجدران الحدائق والمقابر.
ولتعزيز محبّة ورعاية الطيور بين الناس شرّعت العثمانية عادة نصف سنوية، يخرج فيها طلاب المدارس جماعات وتحت إشراف المعلّمين لتنظيف وتأهيل هذه القصور الصغيرة، فصارت رعاية الحيوان تُزرع في شخصية الطفل منذ نعومة أظفاره، حتى ينشأ على احترام الطبيعة ومحبّة الحياة فيها.
من أكثر بيوت الطيور العثمانية تميّزاً والتي بقيت إلى يومنا هذا بيت نراه اليوم في مكتبة راغب باشا في حي لالِلي في منطقة الفاتح في إسطنبول. وبيت حجري آخر بني سنة 1800 من طابقين على قمّة نافورة تقابل مدرسة الشاه سلطان إيّوب. وبيت آخر للطيور بني سنة 1467 بأمر السلطان محمّد الفاتح، على شكل قصر فاره في الساحة الداخلية للدارفانه (دار سك العملة) في إسطنبول، ويسمّى هذا القصر الصغير كذلك بقصر النعنع، تماماً كحديقة النعنع التي كانت إلى جوار التكية السليمانية في دمشق.
للتوسّع أكثر أنصحك بقراءة هذه المقالات
مقال أول
https://interestingengineering.com/elaborate-birdhouses-ottoman-architecture
مقال ثان
İstanbul’daki Kuş Evleri ve Kuş Sebilleri
مقال ثالث
https://www.trakus.org/kods_bird/pdf/22856.pdf
مقال رابع
https://www.dailysabah.com/feature/2016/10/21/birdhouses-miniature-mansions-of-istanbul
مقال خامس
http://www.hurriyet.com.tr/gundem/dunyanin-ilk-hayvan-hastanesi-kapilarini-acti-13487172