يظلم الكثير من مثقّفي العربية اليوم لغتهم العربيّة مع الأسف، إذ ينشرون فكرة فقدان اللّغة العربية لدورها كلغة دوليّة مع نزول الدولة العبّاسية في العراق تحت الحماية السلجوقية في القرن الحادي عشر. ولكن، كيف يفسّر مثقّفونا العرب الجهود التي بذلتها قوى الاستعمار الأوروپي في الشرق والغرب، خلال القرن العشرين، للقضاء على وجود اللّغة العربية؟ لماذا بذلت هذه القوى كلّ تلك الجهود إذا كانت العربيّة بغير حضورٍ من الأساس وبغير دور يُعتبر؟
لنتمشّى معاً في أمثلة من المناطق الاقتصادية حول العالم لتبيان هذه التفاصيل المغيّبة عن الذهنية العربيّة المعاصرة.
في غرب أفريقيا تعيش اليوم 16 دولة تتحدّث شعوبها أكثر من 500 لغة محليّة. لكنّها تتواصل فيما بينها بالفرنسية غالباً إلى جانب الإنگليزية. وقبل فرض هذه اللّغات الأوروپية كانت اختارت شعوب غرب أفريقيا التواصل باللّغة العربيّة كلغة دولية، طالما كانت هي لغة التجارة مع دول شمال أفريقيا، السوق الأوّل لمنتجاتهم. كذلك كانت اعتادت هذه الشعوب على كتابة لغاتها المحلّية بالأحرف العربية، فصارت العربية محلّية. وكانت قد ساهمت السوق المشتركة التي أسّسها المغاربة لدول غرب أفريقيا تحت اسم “السودان” في إضفاء ضرورة لحضور اللّغة العربية الواسع في هذه البلاد.
مع وصول الاستعمار الفرنسي إلى غرب أفريقيا، مارست المخابرات الفرنسية خطّة مُمنهجة لاغتيال معلّمي اللّغة العربية لهدف أوّليّ واحد، هو قطع التواصل مع بين هذه الشعوب المتنوّعة وعزلها عن إطارها المغاربي، ولتفريقها والسيادة عليها. وبالفعل، اختفت اللّغة العربيّة من غرب أفريقيا كلغة تعليم وتجارة، وسادت مكانها لاحقاً اللّغة الفرنسيّة. ما ربط الدورة الاقتصادية والثقافية الغرب أفريقيّة كاملة بپاريس وبالسوق الفرنسية.
في وسط آسيا تعيش اليوم 6 دول، تتحدّث شعوبها 40 لغة محلّية؛ هي في الواقع بنات للتركيّة والفارسية والمونگولية. لكن، تمايزت اللّهجات بشدّة حتّى احتاجت الناس إلى لغة مشتركة. بقيت العربية هي لغة التجارة في منطقة وسط آسيا حتى منتصف القرن العشرين إلى جانب الفارسية، وكانت الناس تدفع بأبنائها إلى المدارس الإسلامية لتعلّم اللّغة العربيّة في الصِغر قبل أيّ علم آخر. فهماً لحاجة أبنائهم المهنيّة إلى هذه اللّغة في سوق العمل.
مع وصول الاستعمارين الروسي والصيني إلى وسط آسيا عقب الحربين العالميات الأولى والثانية، بذل الروس كلّ جهد لمحو اللّغة العربية من المنطقة، حتّى أنّهم عاقبوا البيت الذي يُعثر فيه على كتاب بالعربية بالحرق والتدمير كأنّه لم يكن. وحُرقت إلى جانب البيوت؛ الملايين من الكتب العربيّة في الساحات العامّة منذ 1917، بعد أن منعت السلطات كتابة اللّغات المحلّية بالأحرف العربية. فضاع تراث ألف عام من أهله. وكانت السلطات الشيوعية آنذاك تطلق على هذه الحملات اسم “حرق الرجعية” لتبرير التدمير الممنهج للتراث العربي التركستاني.
وفي المشرق العربي حافظت السلطنة العثمانية على تعليم اللّغة العربيّة لمواطنيها على دأب الإمبراطوريّات التي سبقتها، لكونها لغة الإسلام أوّلاً، دين الدولة، وبسبب اتّساع المساحات الجغرافيّة التي يقدر سكّانها على التواصل باللّغة العربية، على الرغم من أنّ سكّان العثمانية تبادلوا أكثر من 60 لغة محلّية، كُتبت جميعاً بالأبجدية العربية إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. وفي حياة آخر سلاطينها أدخل السلطان عبد الحميد الثاني اللغة العربية على برامج الدروس في المعاهد وحاول جعلها مساوية للّغة التركيّة العثمانية اللّغة الرسميّة للدولة.
يقول السلطان في الصفحة 199 من مذكّراته “اللّغة العربيّة جميلة. ليتنا كنّا اتّخذناها لغة رسميّة للدولة من قبل. لقد اقترحت على خير الدين پاشا التونسي عندما كان صدراً أعظم أن تكون اللّغة العربيّة هي اللّغة الرسميّة، لكن سعيد پاشا كبير أمناء القصر اعترض على اقتراحي هذا. وقال: (إذا عرّبنا الدولة فلن يبقى للعنصر التركي شيء بعد ذلك. كان (سعيد پاشا) رجلاً فارغاً، وكلامه فارغاً. ما دخل هذه المسألة بالعنصر التركي؟ المسألة غير هذه تماما. هذه مسألة، وتلك مسألة أخرى، اتّخاذنا للّغة العربيّة لغة رسميّة للدولة من شأنه – على الأقل – أن يزيد ارتباطنا بالعرب“. ونعلم جميعاً حكاية زوال اللّغة العربية من الكثير من أرجاء المنطقة مع تقسيم العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى. ونشوء الدول القومية.
أمّا في الجنوب العربيّ وعبر المحيط الهندي فقد دأبت الإمبراطوريّة العُمانية على نشر لغة اليمن العربيّة حيث وصلت سفنها وحيث أسّست لشركاتها الموانئ. ففي أقصى اتّساع لها تنوّعت لغات الامبراطورية العمانية من العربية اليمنيّة (كلغة رسمية) إلى البلوشيه والسواحليّة كلغات معترف بتداولها حكوميّاً دون اعتمادها لغات رسميّة، فبقيت العربيّة اليمنيّة لغة للتعليم والتجارة. وهذا كلّه من ميراث سلطنة كِلوة في الأساس، تلك السلطنة التي أسّست بلداً عربياً، كان فيما مضى يشمل معظم تنزانيا وموزامبيق، ويقود إمبراطورية بحرية تمتدّ من سواحل إندونيسيا والهند الشرقية حتّى ميناء غزّة جنوب موزامبيق. والجزر القُمر اليوم من تراث هذه الدولة.
مع وصول طلائع الاستعمار الپرتغالي إلى المنطقة اشتغلت الپرتغال على منهج ثابت من مسارين، الأوّل استبدال اللّغة العربيّة بالپرتغالية؛ حتّى بين المسلمين، الثاني خلق قوميّات جديدة عن طريق إقناع عرب موزامبيق أنّهم أفروشيرازية أو سواحليّة لا علاقة لهم بالعرب. ولزيادة الشقاق اشتغل الپرتغالية على نشر روايات استعباد العرب لشعوب موزامبيق من السود واتّهامهم بكلّ أسباب الضعف والتخلّف الذي كان الپرتغالية أنفسهم سبباً فيه. هذا المنهج تابع فيه الألمان والإنگليز والفرنسيّون لاحقاً في تنزانيا ومدغشقر، حتّى ترى الناس هناك نسيت تجارة الرقيق الأوروپية، التي نقلت العبيد بالملايين إلى أميركا، في مقابل تكرار أسطوانة العرب تجّار العبيد.
في الواقع، وُلد هذا المنهج على تدريس العربية واستعمالها كلغة دولية مع ولادة “المدارس النظامية” التي أسّسها سنة 1065 في بغداد قوّام الدين الحسن بن العبّاس الطوسي المعروف بنظام المُلك (خواجه بزك). ونظام المُلك تركيّ من مدينة طوس، المعقل التاريخي للعائلات الأرستقراطية الپارثية (الأشكانيّة)، وكانت تقع على بعد نحو 20 كلم من مدينة مشهد الإيرانية المعاصرة، لكن دمّرها المغول تماماً في القرن 13 ثمّ فرضوا عليها حصاراً عقابيّاً أجبر كلّ أهلها على النزوح عنها والتفرّق في قرى مشهد الرضا الخرسانية.
نظام الملك وضع أساس نشر اللّغة العربيّة الفصيحة كلغة دوليّة إلى جانب مذهب إسلاميّ موحّد، من خلال فصل التعليم عن سلطة المدارس الخاصّة وإخضاعه إلى التمويل والإشراف الحكومي، بتحويل الإنفاق على التعليم إلى موازنة الدولة القائمة على المجموع من ضرائب المواطنين؛ في ظلّ الإمبراطوريّة السلجوقيّة.
وعلى الرغم من اعتماد الدولة السلجوقيّة على اللّغة الفارسيّة لغة رسميّة دبلوماسيّة. وراثة عن النظام الغزنويّ عن النظام السامانيّ. لكن، رأى الحسن نظام الملك أنّ نشر العربية كلغة تعليم من خلال المدارس الحكومية في الدولة الإسلامية هو ما سيصنع السوق المشتركة لتحقيق كتلة اقتصاديّة ذات حضور على مستوى العالم، ورأى أنّ هذا الانتشار يمكّن سكّان هذه الدول جميعاً من التواصل دون حواجز الحاجة إلى الترجمة. إضافة إلى فهم قانون تجاريّ موحّد من خلال انتشار شرع إسلاميّ واحد يفهمه الجميع.
استمرّ منهج قوّام الدين الحسن بن العبّاس الطوسيّ يعمل بفعّالية؛ تحافظ عليه الدول المختلفة لتسعة قرون، من القرن 11 حتى القرن 20. حين كان يمكنك التجوّل من كاشغر على حدود الصين شرقاً حتى المحيط الأطلسي غرباً، لتجد دوماً من يمكنه التواصل معك باللّغة العربيّة، تماماً كما نتواصل اليوم عالميّاً بالإنگليزية.
أضف تعليق