لطالما ما أحببت صابون الغار في طفولتي. كنت مكرهاً على استعماله على الدوام في بيت جدّي الشامي. في بيت دمشقيّ لا يسمح لغير الصابون الحلبي بدخوله، كان كلّ أنواع التنظيف لا يتمّ بغير صابون الغار، تنظيف اليدين والوجنتين، الاستحمام، وحتّى الركبتين! لم أكن فهمت بعد سبب اهتمام أهلي الشديد بهذا الصابون المميّز، ولا عرفت قيمته التطبيبيّة العالية. وكطفل لاه، كلّ ما أردته كان صابونة صغيرة ناعمة برائحة الفواكه.
اليوم أعرف قيمة هذا الكنز القيّم العابر للتاريخ وللحدود، ولأفهمه أكثر جربت ببحث عن معلومات جمعتها في هذه التدوينة حول تاريخ الصابون عمومًا، والخلطة الأصليّة لصابون الغار، وطريقة صناعته المعاصرة، وكيف يختلف هذا الصابون عن غيره من الأصناف الشائعة في السوق. وباعتقادي، فهم الطريقة الأصليّة تساعدنا على فهم الصابون وما هي الموادّ الفعّالة فيه، حتّى نقدر على شراء خيارات أفضل من بحر الخيارات المتاحة في أسواق اليوم.

تعريف الصابون
بداية، الصابون أساساً هو ملح مركّز متكوّن من أحماض دهنيّة، وكانت تستعمله الناس قديماً بشكل طحين كرمى لإذابة الأوساخ المتراكمة على الثياب من بقايا الأطعمة والدم. لكن، وبحسب الآثار الموجودة بين أيدينا، صنعت الناس الصابون لأوّل مرّة وبشكله المعاصر في مدينة بابل العراقيّة قبل 4800 سنة، بواسطة طبخ زيت شجرة السليخة (السيكاسيا – القرفة الصينية) مع مادّة الإلو (القِلي – ملح بكربونات البوتاسيوم KHCO3 – صودا الخبز) مع الماء. بعد الطبخ تأت مرحلة التجفيف والتقطيع حتّى نصل إلى شكل الصابونة التي نعرفها بشكلها المعاصر، التي ما تغيّرت طريقة استعمالها طوال الألفيات الخمس الماضية.
اليوم يُستعمل لصناعة الصابون ملح كربونات البوتاسيوم K2CO3 بديلاً عن بكربونات البوتاسيوم KHCO3. وتستخدم بعض الصناعات كذلك حمض أقوى لصناعة المنظّفات هو ملح كربونات الصوديوم Na2CO3 المعروف كذلك باسم العطرون. وتنتشر في الأسواق كذلك مادّة مبيّضة باسم النطرون هي في الواقع مزيج ملح كربونات الصوديوم مع ملح بكربونات الصوديوم مع كلوريد الصوديوم وكبريتات الصوديوم. وتوجد في الطبيعة بشكل عفوي، وتُستعمل أحياناً لصناعة الصابون. وعلى الرغم من استعمالها أحياناً في الطبخ لكنّها مادّة غير صالحة للأكل.
في مصر القديمة، وقبل 3550 سنة، تحكي {بردية إبيرس} عن وجوب الاستحمام اليومي بصابونة مصنوعة من طبخ الزيت الحيواني مع الزيت النباتي مع ملح الإلو (القِلي)، دون استعمال الماء في الطبخة. أمّا في العراق وقُبيل عهد الإمبراطوريّة الأخمينيّة تماماً قبل 2500 سنة، صنعت الناس الصابون من طبخ زيت شجر السرو مع زيت السمسم مع رماد خشب السرو أو رماد نبتة العرقسوس. وباعوها بشكل أحجار قابلة للتصدير. ووصلت هذه الوصفة أيّامنا بسبب تدوينات الملك {نَبو-نائِد} اللذي أحبّ الاستحمام بهذه الصابونة باستمرار، وكان {نَبو-نائِد} آخر ملوك المملكة البابليّة {بابيرُص} قبل الفتح الأخميني وانتقال قورِش بعاصمته إلى مدينة بابل.

ميلاد صابون الغار
خلال العهد الهيلينستي قدّس الإغريق في العراق شجرة الغار (الرند – موسى). ويندر أن نجد أسطورة إغريقيّة إلّا وورق الغار من عناصرها، حتّى تيجان ملوك سوريا السلوقيّين كانت من ورق الغار. وسوريا آنذاك كان اسم المملكة السلوقيّة كلّها. وسبب تقديس مجتمع السلوقيّة لورق الغار كان دوام خضرة شجرته طوال السنة دون أي تأثّر بتبدّل الفصول، وتتفتّح أزهارها مرّة في السنة في شهر نيسان أبريل، أوّل أشهر السنة السلوقيّة-البابليّة، وبعد الاحتفال بعيد النوروز تماماً. لهذا السبب آمن الإغريق والعرب في حكمهم بفوائد طبّية من هذه الشجرة وأعطوها قدسية خاصّة، وطالما عدّت الثقافة الهيلينستيّة النظافة والتنظيف من مظاهر الحضارة والتحضّر، كان من الطبيعي إضافة زيت الغار إلى طبخة الصابون، للبركة.
خلال القرن الرابع (من 1700 سنة)، كتب الخيميائي المصري {زوسيموس الأخميمي} باللّغة الإغريقيّة كتاباً دوّن فيه الكثير من وصفات الصناعات الكيميائيّة في زمنه. وأحد هذه الوصفات وصفة لطبخة صابونة سمّاها {صابونة حلب} وكتب أنّها متوارثة ضمن الإمبراطوريّة الرومانيّة منذ القرن الأول. وهذا أقدم تدوين عبر التاريخ المعروف لصابونة فيها زيت الغار، وباسم مدينة حلب. هذه الصابونة كانت الصابونة الأكثر شيوعاً خلال العهد الروماني واشتهرت دولة حلب بتصديرها لعموم الإمبراطوريّة الرومانيّة حول المتوسط. حتى صارت رائحتها من علامات التحضّر والرقي في مجتمع الأرستقراطية الرومانيّة.

الخيميائي المصري {زوسيموس الپَنوپُلسي} المعروف باسم الأخميمي Ζώσιμος ὁ Πανοπολίτης من أسرة إغريقيّة من مدينة أخميم جَنُوب مصر، ومعروف ضمن التدوينات اللاتينية باسم {تسوزيمُس الخِميستا} Zosimus Alchemista وهي تسمية بلحن عربي تعني الخيميائي. وخلال العهد الروماني كانت أسواق مدن حلب ونابلس ومرسيليا وطليطلة هي المصادر الرئيسيّة لصابون الغار حول المتوسط.
كلمة صابون المتداولة اليوم عربيّاً هي بالأساس كلمة {صاپونِم} sāpōnem الكوينيّة-اللاتينيّة المحوّرة عن الصفة {ساپو} sapo بمعنى {نظيف} أو {مُزال عنه الشحم} و{صافي} المستخرج من الفعل {سابُم} sēbum بمعنى {تنقية من الشحم} و{تصفية من الدُّهْن} أو {دُهْن مصفّى}. وفي أسواق الحِقْبَة الرومانية والبيزنطية عبّرت كلمة {صابونِم} عن كلّ منتجات التنظيف.
في القرون الوسطى عرفت العرب صابون الغار باسم الصابون الرگّي نسبة إلى مدينة الرقة على الفرات، التي كانت من أملاك دولة حلب في العهد الحمداني، وكانت المصدر الأوّل لصابون الغار للممالك الإسلاميّة العباسيّة. وهي كذلك كانت أهمّ مدن دولة حلب الصناعية، واشتهرت صناعاتها في كلّ أنحاء العالم، سيّما البلاد الإسلاميّة.
أمّا شعوب غرب أوروپا فعرفت صابون الغار باسم الصابون القشتالي، مادامت مملكة قشتالة هي مصدر صابون الغار لكلّ الممالك الكاثوليكيّة بعدما كانت مدينة مرسيليا الفرنسيّة هي مصدر صابون الغار لغرب أوروپا خلال الحِقْبَة الماقبل إسلامية… تحكي كتب التاريخ أسطورة عن انتقال صناعة صابون الغار إلى أوروپا من سوريا (المعاصرة) بعد الحملات الصليبيّة، والأسطورة خرافة غير صحيحة، مادام الرومان قد صنعوا واستهلكوا صابون الغار خلال العهد الروماني قبل الصليبيّين بألف سنة في الأقل، ونشروه في بلادهم عبر غرب أوروپا حتى وصل بريطانيا.

طريقة صناعة صابونة الغار الحلبيّة
الطريقة الحلبيّة التقليديّة لطبخة صابونة الغار تعتمد على غلي خلطة مكوّنات الصابونة لمدّة 3 أيام، وهي زيت الزيتون المطراف مع الأطرونة والماء. في نهاية اليوم الثالث يُضاف زيت الغار حين يكون الخليط قد صار سائلاً شديد اللّزوجة. وبعد مزج زيت الغار مع الخليط يُبسط على ورق مشمّع ويُترك لأكثر من 24 ساعة إلى أن يبرد ويجف. بعدها يُقطّع ويُخزّن لمدّة ستّة أشهر حتّى ينشف قوامه ويصبح قابلاً للتصدير.
الأطرونة هي ملح هيدروكسيد الصوديوم NaOH المعروفة كذلك باسم الصودا الكاوية. هي في الواقع المصدر الأساسي في صناعة ملح الطعام (كلوريد الصوديوم). والأطرونة أحد السوائل المسمّاة في سوريا شعبيّاً بالأسيد، وهي من أكثر المحاليل المستخدمة في الصناعات الكيماوية كذلك. وتؤثّر الأطرونة المركّزة على البَشَرَة وتحرقها بشدّة، وكذلك تؤثّر المحاليل المخفّفة منها على قرنية العين بشدّة تصل إلى العمى. لهذا السبب من الضروري التعامل معها بحذر شديد.
زيت الزيتون المطراف هو زيت العصرة الثانية للزيتون. العصرة الأولى اسمها {البكر} وتكون لزيت الأكل، أمّا العصرة الثانية اسمها {المطراف} وخاصّة لصناعة الصابون والصناعات الكيميائية.
زيت الغار يُصنع بطريقة لا تُعصر فيها أيّ من أجزاء شجرة الغار، إنّما من طريق نقع ورق شجرة الغار الأخضر مغمور بزيت اللّوز الحلو لمدّة أربعين يوم، ويكون النقوع الناتج هو زيت الغار. فهو في النهاية زيت لوز منكّه بالغار.
لصناعة صابون الغار في البيت نعثر بالكثير من الوصفات على يوتيوب، لكن بالعموم سنحتاج:
- ليتر من زيت زيتون المرّ (البكر).
- ملعقة طعام زيت النخيل المهدرج.
- 20 ملل زيت الغار.
- 130 غ من الإلو (القِلي – ملح بكربونات البوتاسيوم KHCO3 – صودا الخبز)
- ليتر ماء
بداية نذيب مسحوق الإلو بالماء على البارد، ثمّ في وعاء ثاني وعلى النار نذيب زيت النخيل في زيت الزيتون. ثمّ نضيف الماء القلوي ونغلي الخليط لساعتين مع التحريك. وبعد ساعتين نتوقّف عن التحريك ونترك المزيج يغلي لمدّة ثلاث ساعات أخرى. وبعد انتهاء هذه الخمس ساعات نصبّ المزيج في قالب مناسب، سواء كان زجاجي أو خشبي أو ستانلسستيلي… صديقي بائع الصابون كان يصبّ المزيج في علبة خشبيّة شكلها بشكل الصابونة تماماً لكن طويلة. وما كان يقطّع منها صابونات إلا وقت البيع (أو الاستعمال). مثل مبدأ علب المرتديلّا الأسطوانيّة. في البيت يمكننا استعمال قوالب خبز التوست أو الكيك مع ورق ضدّ الالتصاق. عموماً يحتاج هذا الصابون إلى أسبوعين تجفيف قبل الاستعمال، وبعدها يمكن استعماله مع ضمان عدم ذوبانه السريع في الماء.

أرجو أن تكون هذه المعلومات مفيدة.