لطالما تؤرّقني مصطلحات ”ساميّين“ و“شعوب سامية“ و“لغات سامية“ كيفما مرّت تحت عينيّ؛ أثناء قراءة صفحات التاريخ. ينخز عينيّ من الداخل مصطلح ”سامي“ هذا غير الأصيل في أيّ من أسس التاريخ. فلا دليل أثري واحد يدعم صحّة وجوده ولا استخداماته. من هذا الباب قرّرت كتابة تدوينتي المُختصرة هذه، عساها تكون شمعة في عتمة استيلاء الأغراب على تاريخنا المشرقي، وكثرة العبث عن جهل فيه.
بدايةً تفنيد مصطلح ”ساميّين“ وميلاده على المستوى الأكاديمي:
في الأدبيّات الأوروپيّة الأكاديميّة يستحيل أن نقرأ كتاباً يحتوي على أيّ من أشكال كلمة ”ساميّين“ قبل سنة 1870، إذ كانت هذه هي السنة التي وُلد فيها هذا المصطلح أكاديميّاً وانتقل باستخدامه من حيّز الخرافة إلى حيّز علم التاريخ. وفي اللّغة الإنگليزية بقي استخدام مصطلح ”ساميّة“ ضحلاً حتى سنة 1920 حين بدأ تزايد وروده في المنشورات الإنگليزية ليصل ذروته سنة 1979، ثمّ يعود للاضمحلال التدريجي حتى يصل نحو الاختفاء سنة 2018.

بعد كثير من البحث والتقصّي وجدت أن صفة ”ساميّة“ وردت للمرّة الأولى على مستوى أكاديميّ باللّغة الإنگليزية في دورية سنوية باسم ”دورية الجمعية الملكية الآسيوية لبريطانيا العظمى وآيرلاند“ Journal of the Royal Asiatic Society of Great Britain & Ireland الصادرة سنة 1870، حيث وردت كلمة ”سِميتك“ Semitic (ساميّة) في الصفحة 229 من المجلّد الرابع في معرض الحديث عن اللّغة الپهلوية الإيرانية التي كانت رسميّة أيّام الإمبراطورية الساسانية والأشكانية (الپارثية)؛ منذ القرن الثالث قبل الميلاد. واستعرض الكاتب كثافة وجود الكلمات بأشكال آراميّة داخل النص الپهلوي، ثمّ وسم الكلمات المستوردة من اللّغات الأخرى غير الآرامية بكلمة ”ساميّة“، وأورد أنّها على الأغلب تأثيرات ”الشعوب الساميّة“ في حدود الدولة الساسانية.
كاتب هذا المحتوى في الدورية الملكية البريطانية كان المستشرق ”كارل إدوارد زاخَو“ Carl Eduard Sachau ابن منطقة شليزڤيگ هولشتاين الألمانية؛ وهذه المنطقة تعتقد بانتماء الألمان جميعاً إليها أصولاً وبعودتهم إلى العراق الأكّدي انتماءً. وزاخَو ابن الطائفة المسيحيّة الإنجيليّة.
وهكذا دخل مصطلح ”ساميّة“ اللّغة الإنگليزية عن مصدر ألمانيّ، إذ يسبق الإنگليز الألمان بابتداع مصطلح ”ساميّة“ خلال القرن 18. سنة 1781 نشرت دار ڤايدمَن Weidmann في مدينة لايپتسيگ Leipzig الألمانية كتاباً بعنوان ”مرجع في الأدب التوراتي والشرقي“ Repertorium für biblische und morgenländische Litteratur من تأليف الباحث ”يوهَن گوتفريد أيكهورن“ Johann Gottfried Eichhorn. في المجلد الثامن صفحة 161 يورد أيكهورن مصطلح ”شيميتيش“ (ساميّة) في معرض حديثه عن الشعوب التي تتحدّث لغات على قرابة باللّغة العبرية. ورد كلام أيكهورن نقلاً عن المؤرّخ الألماني ”لودڤيگ شلوتسير“ August Ludwig von Schlözer الذي وعلى ما يبدو كان المخترع الأوّل لمصطلح ”ساميّة“ Semitisch في الأدب الألمانية. وتُقرأ كلمة Semitisch في ألمانية اليوم الفصيحة (العالية) بصيغة ”زيميتيش“.
سنة 1838 وقبل استعمال الملكية البريطانية لمصطلح ”ساميّة“، وردت الكلمة كصفة في مقالة في ”مجلة السيّد“ The Gentleman’s Magazine حين استخدم الكاتب مصطلح ”اللّغات الساميّة“؛ ونبّه في مقالته إلى أنّه مصطلح شعبيّ شائع لا أكاديمي. إذ، وفي الصفحة 372 من العدد 164 من المجلّة؛ نقرأ ”… مجموعة اللّغات الناتجة عن اللّغة الّتي كانت منطوقة قديماً في شبه الجزيرة العربية، الّتي يقال لها شيوعاً الساميّة. (…) اللّهجات الرئيسيّة للساميّة هي، أو كانت:
أوّلاً: العربيّة والأثيوپيّة.
ثانياً: العبريّة والسامريّة والفنيقيّة (الكنعانيّة).
ثالثاً: السريانيّة والكلدانيّة.
هذه هي في الحقيقة وفي الواقع لهجات، أو مجموعة من الألسن الشقيقة الّتي أتت جميعاً من أمّ واحدة. جذور الكلمات بينهنّ جميعاً واحدة، وتبنّوا جميعاً آليّة واحدة في الاشتقاقات عن الجذور باستخدام الملحقات والإضافات، وبإزالة هذه الملحقات نحصل على تشكيل واحد للكلمات.“ انتهى الاقتباس. ثمّ يفصّل الكاتب في تفضيله للّغة العربيّة، وكيف أنّه يرى فيها أقصى تطوّر معاصر خرج عن مجموعة اللّغات هذه، أو عن اللّغة الأم التي أسماها ”ساميّة“، وكيف أنّ العربيّة حافظت بشدّة على نظام الجذور الأصليّ، رغم التأثيرات العظيمة من طرف اللّغات الإيرانية.
ما سبق ورد في مقالة بعنوان ”التنافر ما بين الغاليّة واللّغات الساميّة“ The Gaelic contrasted with the Semitic Languages لكاتب من مراسليّ المجلّة؛ مذكور باسم وهميّ على ما يبدو هو Fior Ghael، الذي يعني بالغاليّة ”الآيرلاندي الأصيل“.
ومجلّة السيّد في الحقيقة هي أوّل مجلّة في العالم. أوّل دوريّة منوّعات غير متخصّصة، تنشر كلّ ما يصلها من مقالات دون تحرير. وكانت قد انطلقت المجلّة في لندن سنة 1731.
بعد ظهور مصطلح ”سامية“ على صفحات مجلّة السيّد سنة 1838 اختفى من الدوريّات الإنگليزية تماماً لأكثر من ثلاثين سنة، إلى أن ظهر فجأة سنة 1870 في دوريّة الجمعيّة الملكيّة الآسيويّة سابقة الذكر وبقلم ألماني (من جديد)، وكانت هي المرّة الأولى التي يُستخدم فيها مصطلح ”ساميّة“ على مستوى رسميّ، وما لبث هذا المصطلح السطحيّ أن انتقل عبر الدوريّة الملكيّة آنذاك إلى اللّغة الإنگليزية الأميركيّة؛ ومنها إلى الجامعات الأميركيّة حول العالم، والّتي كانت منها الجامعات الأميركيّة في المشرق على ساحل المتوسط، في اللاذقية وبيروت والقدس ولاحقاً في القاهرة، والّتي ساهمت بنقل مصطلح ”الساميّة“ إلى اللّغة العربيّة أثناء العهد العثماني وبعده… هذه الجامعات الأميركية هي التي تخرّج عن مقاعدها جميع مدرّسي التاريخ باللّغة العربية في جميع الدول العربية آنذاك.
يظهر بالتالي أنّ أوّل من استعمل مصطلح ”ساميّة“ واختلق وجوده خلال القرن 18 هم المستعربون والمستشرقون الإنجيليّون الألمان؛ ثمّ تبنّاه عنهم المستشرقون الآيرلانديون والإنگليز خلال القرن 19، ومن ثمّ دخل في المفردات الكاثوليكيّة من خلال وروده في الموسوعة الكاثوليكيّة المنجزة في نيويورك الولايات المتّحدة الأميركية ما بين سنتي 1907 و1914. هؤلاء المستشرقون حاولوا تسمية الأشياء المشرقية بأسماء ورثوها عن ثقافتهم المستمدّة من الكتاب المقدّس، دون خبرة محلّيّة في تراث شبه الجزيرة العربيّة، وبتجاهل تام لكلّ ما يتعارض مع الرواية الدينية الإنجيليّة.
الماهية الحقيقية لمصطلح ”ساميّين“:
بتنا نعرف الآن جليّاً أنّ المستشرقين ما اختاروا تداول مصطلحي ”ساميّة“ و“ساميّين“ إلا لغياب التسمية الصحيح عن أذهانهم، فلجؤوا إلى كتابهم المقدّس يختطّون مصطلحاً افتراضيّاً بناء على أسطورة دينيّة توراتيّة تفترض انتماء شعوب شبه الجزيرة العربية إلى ”سام بن نوح“. وما كانت هذه الولادة الفوضويّة لمصطلح بات أكاديمياً إلا نتيجة الجهل العلميّ، ودون الإلتجاء إلى أيّ دليل أثريّ يُعتمد عليه، خوفاً من مخالفة الكتاب المقدّس. فصرنا مِكرارين نتداول مصطلحات من قبيل ”لغات ساميّة“ و“شعوب ساميّة“ و“أقوام ساميّة“ هكذا افتراضاً دون جذر أصل ولا انطباق على الواقع.
من جهتي، أعتقد بأنّ التسمية الصحيحة ينبغي أن تكون ”اللّغات العربية“ و“الشعوب العربية“، وسأفنّد لهذه وجهة نظري.
ينحدر علم الألسن اليوم باللّغات ”الساميّة“ عمّا يسمّى اصطلاحاً باللّغة ”الماقبل ساميّة“ التي تُعتبر بدورها ضمن تصنيف اللّغات ”الأفروآسيوية“، ويُفترض أنّ هذه اللّغة ”الماقبل ساميّة“ قد نزحت من شرق أفريقيا صوب العراق في زمن يسبق السومريّين. ويقسّم العلم اليوم عائلة اللّغات ”الساميّة“ إلى ثلاثة أفرع رئيسة هي:
- الشرقية: الأكَّدية والإبلية.
- الوسطى: الآرامية والكنعانية والعربية والعبرية.
- الجنوبية: مجموعة من اللّغات اليمنية، مع التغرينية والأمهرية ومجموعة من اللّغات الأثيوپية.
في الشكل التالي خريطة مُفترضة لتوزّع اللّغات ”السامية“ القديم.

يعتقد الصحفيّون المؤرّخون بأقدميّة اللّغة الأكَّدية العراقية على بقيّة ”اللّغات الساميّة“ بسبب نجاة نصوصها المسماريّة حتّى اليوم، مع غياب نصوص منقوشة عن اللّغات الأقدم من العائلة ”الساميّة“. لكن، في الأوساط الأكاديمية تُقدَّم الكتابة الأكَّدية كأقدم لغة ”ساميّة“ مكتوبة بنظام كتابة يعود إلى نحو 5000 سنة، ولا تُعتبر أقدم اللّغات ”الساميّة“ المنطوقة. إذ سبق الأكَّديّين السومريّين الذين عاشوا في العراق قبل نحو 7500 سنة، ونعلم عنهم من نقوش الأكَّديّين. عدا عن ذلك فكلّ المعلومات المتداولة عن أصول اللّغات ”الساميّة“ وشعوبها محض افتراضات، ولا أدلّة أثريّة تدعمها.
وجود دليل أثري قديم على الكتابة الأكَّدية هو دليل على قِدم نظام الكتابة الأكَّدي، لكنّه ليس دليلاً على أنّ اللّغة الأكَّدية هي أقدم مجموعة اللّغات ”الساميّة“. بل هو دليل على أنّ الأكَّدية هي أقدم اللّغات التي كُتبت من هذه الأسرة، بينما لا نعلم شيئاً عن تاريخ اللّغات التي بقيت منطوقة فقط دون تدوينها كتابة. ولربّما دُوّنت اللّغات الساميّة القديمة الأخرى كذلك، لكن لم تنج كتاباتها ولم يصلنا شيء بالتالي من نقوشها.
لا أدري لم يصعب على أغلب الناس الفصل ما بين الكتابة واللّغة. اللّغة كلام، والكلام يسبق الكتابة، فالكتابة اختُرعت أساساً نتيجة الحاجة لتوثيق الكلام. ما يعني أنّ الكلام يأتي أولاً، والكتابة شكل بصريّ يعبّر عن اللّغة. ونعود إلى نقطة البداية:

آثاريّاً وبحسب هيرودت، المنطقة العربية هي المساحة الجغرافية المحصورة ما بين أرمينيا ودجلة والخليج العربيّ وبحر العرب والبحر الأحمر مروراً بالساحل الشرقي للبحر المتوسط حتى هضبة الأناضول، كلّ الشعوب التي سكنت هذه المنطقة قديماً تسمّى بالشعوب ”الساميّة“ ومجموعة اللّغات الّتي كانت منطوقة قديماً في شبه الجزيرة العربيّة هذه، هي الّتي يقال لها شيوعاً ”الساميّة“.
فلطالما تسمّى هذه المنطقة جغرافيّاً وآثارياً بالمنطقة العربيّة، فلم لا تُسمّى هذه الشعوب القديمة كذلك بالأقوام العربيّة نسبة لاسم المكان؟ ولم لا تسمّى لغاتها بالتالي باللّغات العربيّة؟ بغضّ النظر عن تطوّر “اللّغة العربيّة” المعاصر وحضورها السياسيّ… لمَ صدّقنا مصطلحات الآخرين ولبسنا ما فصله علينا الأجنبي؟ فصرنا ساميّين!
عموماً. تنتشر جنوب شبه الجزيرة العربية سبع لغات قديمة ومهدّدة بالانقراض، أقدم من أغلب اللّغات ”الساميّة“، وتُصنّف علميّاً ضمن فرع اللّغات الساميّة الشرقيّة مع الأكَّدية والإبلية، رغم وقوع مواطنها في الجنوب العربيّ حيث فرع اللّغات الساميّة الجنوبيّة. وسبب هذا التصنيف الغريب هو قرابة قواعد هذه اللّغات السبع القديمة مع الإبلية والأكَّدية؛ مع بعدها عن تشكيل لغات الجنوب العربيّ القديمة.
هذه اللّغات السبع هي: الحِميريّة والمهريّة والسُقطريّة والشحريّة (الجِباليّة) والهوبيوت والباثاريّة (البطحرية) والحرسوسيّة (الحرسيّيت). ومَواطن هذه اللّغات اليوم تقع داخل سلطنة عُمان والجمهوريّة اليمنيّة والعربية السعودية.
ولأنّ هذه اللّغات كانت ولم تزل منطوقة فقط ولم توثّق بكتابة؛ فنحن لا نعلم على وجه اليقين تاريخها ولا ماضي تطوّرها ولا الأصل الّذي سبقها والتي تطوّرت عنه. ولأنّها قريبة من الأكَّدية فقد افترض الصحفيّون المؤرّخون أنّ الأكَّدية هي الأصل وأنّ هذه اللّغات السبع لا بدّ أن تكون أفرعاً ولهجات عن الأكَّدية، هاجرت جنوباً من العراق على طول سواحل الخليج العربيّ الغربيّة ثمّ استقرّت على سواحل بحر العرب.
في الشكل التالي خريطة تواجد اللّغات الساميّة الشرقيّة القديمة جنوب العربيّة.

لكنّني أرى في هذا الافتراض مخالفة للمنطق ولخطوات تطوّر الحضارة البشرية. إذ وبينما كانت هذه الأقوام الجنوبيّة تُنشئ معابدها وترفع أوابدها في الجنوب العربيّ، كان أغلب العراق لم يزل مغموراً بالماء؛ تعيش الناس على السواحل فيه وسط العراق المعاصر. ما يعني أنّ مواطن الأكَّدية كانت لم تزل ماءً بغير فرصة لسكن الإنسان، في زمن عاشت فيه شعوب الجنوب العربيّ في مدن؛ وتحدّثت بلغاتها.
هنا، ولأسباب جغرافيّة وجيولوجيّة، أرى أنّ هذه اللّغات السبع أقدم في أصولها من اللّغة الأكَّدية؛ وأنّ هذه الأخيرة هي الفرع المتطوّر عن أصل جنوبيّ لا العكس. بالتالي، أعتقد بوجوب تسمية مجموعة اللّغات الساميّة باللّغات اليمنيّة (نسبة إلى الجنوب)، إن لم نشأ تسميتها بمجموعة اللّغات العربيّة القديمة، نسبة إلى شبه الجزيرة العربيّة، موطن كلّ ما يُسمّى بالساميّة.
أعتقد أنّ السومريّين والأكَّديّين هم سلالة أحد الشعوب الجنوبيّة، الّتي نزحت من سواحل اليمن وعُمان؛ على طول ساحل الخليج العربيّ الغربيّ، ثمّ استقرّت في العراق على ضفاف دجلة والفرات؛ وقدّمت لنا هذه الحضارة العظيمة بنت النهرين التي يعتبرها عالم اليوم، أوّل وأقدم الحضارات الإنسانيّة على الإطلاق.
قبل نحو 8500 سنة ظهر وسط العراق ما نعرفه اليوم باسم شعب ”العُبيد“ نسبة إلى تلّ العُبيد جنوب العراق المعاصر. آنذاك كانت مدن ”أور“ و“إريدو“ مدن ساحلية على الخليج العربي، بينما هي اليوم في قلب العراق، بعد أن تركها البحر وانسحب عدّة مئات من الكيلومترات جنوباً على إثر التغيّرات البيئية وارتفاع أرض العراق كلّها. المهم في الموضوع أنّ انتشار ثقافة العُبيد هذه؛ وبحسب الآثاريّين، انتشر من الجنوب نحو الشمال؛ على ضفاف النهرين وروافدهما.

بسبب التشابه ما بين اللّقى الأثرية المتروكة من فترة المراحل الأولى لحضارة العُبيد وفترة حضارة موقع دِلمون في منطقة البحرين، يعتقد الآثاريّون أنّ شعوب العُبيد قد نزحوا أساساً من جنوب الخليح العربي صوب الشمال قبل بداية الاستقرار في العراق. السومريّون ذكروا دِلمون في أساطيرهم بوصفها ”مهد الشمس“، الجنّة التي خرج منها الناس حيث كانوا يعيشون فيها خالدين دون معرفة الموت.
شخصيّاً أعتقد بأنّ شعب دِلمون انتشر حول سواحل الخليج العربي كاملة، ونزح أساساً من منطقة الربع الخالي، إذ أنّ تلك المنطقة كانت في الأصل بحراً داخلياً جفّ على مدى ثلاثة ألفيات خلال الفترة ما بين عشرة آلاف وسبعة آلاف سنة مضت. أعتقد أنّ شعباً كان يعيش على سواحل تلك البحيرة في الربع الخالي، تركها ونزح صوب البحرين ومن ثمّ العراق، فطوّر حضارة العُبيد ومن ثمّ السومريّين وما بعدهم.

قسم آخر من هذا الشعب الذي عاش في الربع الخالي، نزح جنوباً، مشكّلا ً الشعوب العربية الجنوبية آنفة الذكر؛ التي تتحدّث اليوم الحِميريّة والمهريّة والسُقطريّة والشحريّة (الجِباليّة) والهوبيوت والباثاريّة (البطحرية) والحرسوسيّة.
تُعتبر اللّغة الحميرية المعاصرة أحد لهجات اللّغة السبئية اليمنية، وهي لغة جميلة في الواقع؛ تتشابه أدواتها بشكل كبير مع الآرامية. مثلاً للتعريف تستخدم الحميرية أداة ”أمـ“ بدلاً عن ”ألـ“ العربية الفصيحة، وتستخدم ”ذي“ للإشارة بدلاً عن ”أنت“ و“هو“ كما الإنگليزية، وتقول كذلك ”مُر“ و”مُرّا“ و”مْراهم“ في مقابل كلمة ”سيّد“ العربية، وتكتب أحكام التنوين العربية بأحرف واضحة؛ كمثل ”عِنْبُن“ بدلاً ”عنَبٌ“ و”عَسْلُن“ بدلاً عن ”عسَلٌ“ مع تسكين الحرف الثاني. في شكل مشابه للألمانية المعاصرة.
المهريّة والسقطرية والشحرية والهوبيوتية هي في الواقع لهجات للغة واحدة، ويعتبرها اللّغويون اللّهجات الأصفى بين اللّغات المسمّاة ”السامية“، والمهرية هي اللّغة الوحيدة التي لم تزل منتشرة في منطقة الربع الخالي حتى اليوم. وبينما تختلف البنى القواعدية للمهرية عن السبئية والحميرية؛ تتقاطع الكثير من الكلمات المهرية مع الكلمات الأكّدية في العراق والإبلاوية في سوريا. مثلاً تقول ”بر“ بدلاً عن ”ابن“ العربية. وتحتوي المهرية على أصوات غير موجودة في العربية الفصيحة اليوم كأصوات پ (الباء القريبة من الفاء)، چ (الجيم العراقية)، ڛ (الشين الألمانية القريبة من الثاء)، ڞ (الضاد القريبة من الظاء)، ێ (الألف الكنعانية المائلة)، ولا وجود لصوت ج إنّما الصوت البديل هو گ العربي الأصلي كما الجيم المصرية.
اللّغة الباثارية (البطحرية) من أكثر اللّغات المهدّدة بالانقراض حول العالم. يتحدّثها اليوم أقل من 200 شخص في ظفار جنوب عُمان، وعلى الرغم من أنّها لغة غير مكتوبة لكنّها بمفرداتها أقرب لغات الجنوب العربي إلى الكنعانية (الفنيقية) القديمة، مع ذلك؛ تتشابه البنية القواعدية للبطحرية مع اللّغة المهرية.
الحرسوسية كذلك قريبة من المهرية وقد تكون لهجة متطوّرة عنها، لكنّها انعزلت طويلاً في صحراء ظُفار الصخرية في عُمان فتطوّرت بصفات متميّزة. يتحدّثها اليوم أقل من ألف شخص؛ ويسمّونها ”حرسيّيت“، وهي كذلك من أكثر اللّغات المهدّدة بالانقراض في العالم.
عموماً، وبينما يعتقد اللّغويّون الأوروپيون بأنّ اللّغات الجنوبية المذكورة قد تطوّرت عن اللّغات الشمالية القادمة من العراق، مستندين فقط على أقدمية تدوين اللّغات الشمالية، أعتقد؛ وللأسباب البيئية سابقة الذكر، أنّ ما تسمّى بمجموعة اللّغات ”السامية“ هي في الأساس لغات جنوبية، تطوّرت عن أصل واحد مشترك؛ نزح عن الربع الخالي جنوب شبه الجزيرة العربية شمالاً صوب العراق، قبل نحو تسعة آلاف سنة. وعليه، فلا تصحّ تسميتها باللّغات ”السامية“ لا هي ولا كلّ اللّغات المتطوّرة عنها جنوب غرب آسيا وشرق أفريقيا، إنّما يجب تسميتها باللّغات اليمنية أو العربية ببساطة.
اترك تعليقًا