أكلة نباتية قديمة في دمشق تحمل اسماً غريباً هو ”ستّي ازبقي“، ولطالما شغل بالي هذا الاسم وحكاية الأكلة التي من خلفه… من أين جاب الدمشقيّون هتي التسمية الغريبة؟ وما هو معناها؟ ولأجد هذا السبب اشتغلت تنقيباً وراء هذه الأكلة ووصفتها وتاريخها، وقارنتها بغيرها، وغصت غصت حتى طلعتُ بمعلومات رائعة ومثيرة بتفاصيلها.
أكلة ستّي ازبقي معروفة نباتية في دمشق، مكوّنة بشكل أساسي من المعكرونة (المقرونة) والعدس والبصل وزيت الزيتون، لهذا السبب يعتاد الناس ستّي ازبقي بصفتها أكلة شتويّة صياميّة، وكذلك بصفتها من مطبخ الفقراء… بعض الناس تدلّلها وتضيف سمن وبزورات (بهارات)، والبعض الآخر يحبّ ترفيعها إلى مستوى المطبخ الأرستقراطي بإضافة اللّحم المقلّى مفروماً ناعماً.
في بقية مناطق سوريا، الستّي ازبقي معروفة باسم رشته أو رشتاية أو رشتاية بالعدس، وهي نفس الوصفة الدمشقيّة تماماً؛ على الرغْم من أنّ بعض المناطق تضيف لها حمّص مسلوق… وسعة انتشار الوصفة في سوريا وبغير الاسم الدمشقي زادت من فضولي لأعرف أصلها وفصلها لهذه الأكلة… لماذا يختلف اسمها في دمشق فقط؟
مع التنقيب والبحث وجدت أكلة قديمة جدّاً في المطابخ الإيرانية اسمها ”آش رشته“ (بالفارسي؛ حرف آ مائل نحو الواو وصوته مثل الألف السريانية)، والآش هو المرق السميك، الإدام بالعربيّة، بينما الرشته فهي اسم المعكرونة الطويلة بالفارسية… وسأحكي فيهم بالتفصيل.
الآش هو أي إدام سميك أو كثيف، يمكن أن يكون معمولاً كرمى الـ”آش رشته“ من سلق البقول؛ وخاصّة العدس والحمّص، أو من الكشك (الچشج)، وهو لبن مطبوخ أو مخمّر ومجفّف.
الرشته لها تسميتين شائعات باللّغات الإيرانية والتركية والأرمنية، الأولى لفظها ”إرشته“ erişte والثانية هي قِسمِة أو كِسمِه Kesme، والرشته تكون عادة شرائط عجين معمولة من عجين طحين القمح مع الملح والبيض والماء. وهي نفسها تماماً معروفة في سوريا وفلسطين باسم المقطّع أو المقسّم، بمعنى عجين مرقوق ومقسّم. أمّا كلمة إرشته فأتت من المعنى ”مرقوق“ أحد معاني كلمة رشته باللّغة الفارسية… والمفاجأة التي أثارت اهتمامي هي انتشار وصفات قريبة جداً من الرشتة بالعدس السوريّة أو ستّي ازبقي، بكامل المنطقة التي تحكي أي واحدة من اللّغات الإيرانية أو التركية، بكامل تركستان وبقيّة وسط آسيا والقوقاز والأناضول والبلقان بالإضافة للشمال العربي وسواحل الخليج.
هكذا، ما عادت ستّي ازبقي أكلة سوريّة فقط باسم رشتاية بالعدس… ظهرت بأنّها أكلة قديمة جداً ومتوارثة عبر عشرات وربّما مئات الأجيال بقسم كبيرة من وسط وغرب آسيا وشرق أوروپا، وبالمعنى الأدقّ؛ بكامل المنطقة التي كانت تحت سلطة الإمبراطورية الأسوريّة الأخمينيّة. والملفت أكثر هو ذِكر وصفة المقسّم باللّغة الآرامية باسم ”إطريه“ بمعنى ”الطرية“ من القرن الخامس قبل الميلاد، وعُرفت بأنّها أكلة شائعة بين العرب البدو، إذ بيحملونها معهم باستمرار على طريق السفر والترحال حتى يذوّبونها بالماء المغلي متى جاعوا. وذكرها كذلك كتاب الطبيخ البغدادي بنسختيه من القرن 10 والقرن 13 وباسمها الآرامي (البابلي) نفسه إطرية.
في كتاب ”الطبيخ“ من سنة 1226 ذكر محمد بن الحسن بن محمد الكاتب البغدادي في باب السواذج وصفتين للرشتاية، هنّ الأطريّة والرشته، ويلاحظ وجود اللحم والدهم بجدارة في الوصفتين البغداديّتين؛ إذ جاء في النصّ حرفه:
أطرية: صنْعتها: أن يُقطَّع اللحم السمين أوساطًا، وتُسلى الأَلْيَة ويُرمى بحَمِّها، ويُطرح اللحم على الدهن ويُعرَّق فيه، ثم يُرمى عليه يسير ملح وعود دارصيني، ثم يُجعل عليه من ماء فاتر ما يغمره، وتُقطَّع بصلتان وتُلقى قبل أن يُطرح الماء، وكف حِمَّص مقشور وأضلاع سلق وقدر كفَّين أرزًا مُنقًّى مغسولًا.
ثم إذا نضج اللحم رُمِي فيه كُسْفَرَة يابسة مدقوقة ناعمًا ويسير فلفل ومُصْطَكَى، فإذا أُغلي غليانه أُضيفَ إلى القِدْر كف ونصف كف أطرية، ثم إذا نضجت القِدْر ذُرَّ على رأسها كمُّون ودارصيني مسحوقَين ناعمًا، ومُسح جوانبها بخِرقة نظيفة وتُركت حتى تهدأ على النار وتُرفع.
رِشْتَه: صنْعتها: أن يُقطَّع اللحم السمين أوساطًا، ويُجعل في القِدْر ويُجعل عليه غمرة ماء، وعود دارصيني ويسير ملح وكف حِمَّص مقشور ومثل نصفه عدسًا، ويُغلى إلى أن ينضج، ثم يزاد عليه الماء ويُغلى حقَّ غليانه، ثم تُطرح الرِّشْتَه؛ وهي عجين يُعجن فيه ويُبسط رقيقًا ثم يُقطَّع سيورًا دقاقًا طول أربعة أصابع، ويوقد تحتها إلى أن ينعقد سلسًا، فإذا هدأ على نار لينة ساعة رُفع.
وصفة ستّي ازبقي، الرشتاية بالعدس، السوريّة الشائعة عبارة عن بصل مقلّى بزيت الزيتون مع عدس مسلوق مع مرقة سلق العدس مضاف لها معكرونة ومعصور عليها حزّ ليمونة… وصفة نباتية حصراً، حسب الأصول، وهي كذلك في المطبخ التركي العتيق (المطبخ البخاري) من أصولها أن تبقى نباتيّة؛ بسبب القيم التي تحملها هذه الأكلة من التراث، وسأحكي فيها بعد فقرات، لكن وصفتها تختلف قليلاً في خرسان وعموم تركستان عن الوصفة الإيرانية المعروفة في سوريا. في دول تركستان قد تجد فيها (چشج) وبقدونس وسبانخ وبصل ربيعي (من أنواع البصل الأخضر) وشبت وكزبرة وحمّص وعدس وفاصولياء بيضاء وحبّات رمّان، وطبعاً بصل مع نعناع مجفّف وثوم وزيت وملح وفلفل حار. وقد ترى فيها إضافة أنواع ثانية من الخضار مفرومة، مثل البطاطا والكوسا وغيرها… طبعاً، لا نجد كلّ هذي المكوّنات مع بعض في نفس الطبق، إنّما ضمن وصفات متعدّدة، كل شيء على حدى.
المعلومة المثيرة للاهتمام هنا هي سبب طبخ هذه الأكلة في تركستان وعموم إيران. فالمعروف من التراث الإسلامي أنّ الناس تحتفل بطبخ هذه الأكلة احتفالاً بعودة الحجيج من الحج إلى مكّة. والسبب أنّ حجّاج بيت الله الحرام كانوا يرجعون إلى الشرق حاملين معهم إطرية (مقسّم) من العراق… طبعاً، تعرف الناس صناعتها في بيوتها في إيران وتركستان وتخزّنها كذلك في بيوتها مؤونتها. لكن، طبخ هذه الأكلة في هذا الميقات واحتفالاً برجعة الحجاج تحديداً؛ يرجع فيها قليلاً إلى عادات انقرضت، كانت فيها الناس تحجّ إلى بابل! صحيح، كان حجّ التركستاني والإيراني والبلقاني قبل المسيحيّة والإسلام يتّجه إلى مدينة بابل، وكانت الناس بعد الحجّ تشتري المقسّم المجفّف من العراق وترجع إلى بلادها، وتطبخها وصفة نباتيّة (لأنّ الزرادشتية ديانة نباتية) وتحتفل بالرشته بالعدس مع الحجيج المتطهّرين. ومع تحوّل الناس إلى الإسلام، بقيت العادة على حالها بعد تحوّل الناس بالحجّ إلى مكّة بدلاً عن بابل.
في نفس الوقت، تطبخ الناس الرشتاية مع الكشك (الچشج) والفاصولياء البيضاء في عيد النوروز لأن العادات التركستانية تحبّ أن تحتفل بالعيد مع أكلة بيضاء، بالتالي تطبخ اللّبن وتسلق فيه شرائط العجين المجفّفة مع الفاصولياء، وتتشارك طبقاً لذيذاً، شبه نباتي، طوال عشرين يوم… يأت النوروز في وسطها. وفي نهاية احتفالية النوروز يأتي يوم ”روز طبیعت“ في أوّل يوم من شهر نيسان، وآنذاك تأكل الناس خارج البيت وفي البساتين؛ رشتاية مع الفاصولياء بدون كشك (چشج) احتفالاً بعيد الطبيعة… و”روز طبیعت“ roz tabiat هو الاسم التركي عن العربيّة البابلية ”راس تطبيع“ أي مطلع الربيع، واسم هذا العيد بالفارسية ”سیزدهبدر“.
مع أيّام الشتاء الباردة ومع بداية سقوط أوراق الشجر، تنقلب الناس عن الفاصولياء إلى العدس ويمسي هذا العدس هو المكوّن الأساسي للرشتاية، وتمسي تركستان وإيران على أكل ”آش رشته“ الوصفة التي نعرفها في دمشق باسم ”ستّي ازبقي“ كرمى للدفئ؛ وريثما ترجع أيّام الربيع.
هكذا، وبالخلاصة، نكتشف أنّ وصفة ستي ازبقي ليست أكلة دمشقيّة فقط، إنّما شمال عربيّة وبابلية كذلك واسمها ”رشته“ أو ”رشتاية بالعدس“ واسمها العربي القديم هو الطرية (إطرية)، وفي بلاد المغرب العربية “رشته” أو “رشده” أو “دويدة”. ومعروفة في إيران باسم ”آش رشته“ وفي أفغانستان باسم ”آش خانگى“، ومعروفة بعموم تركستان باسم ”إرشته“ erişte أو ”قسمه“ Kesme، ولها مكانة كبيرة جدّاً في تراث شعوب كلّ هذي المنطقة منذ 2600 سنة على الأقل. ومعكرونة الرشته تكون معمولة من عجينة طحين القمح المعجون بالماء مع الملح والبيض، ثم تُرقّ إلى رقائق وتُطوى على بعضها، وتُقطّع بالسكّين إلى شرائط طويلة… تُجفّف هذه الشرائط في الشمس وتُكسّر كي تُحفظ في بيت المؤونة.
مكوّنات الرشتاية الأساسيّة حسب البلد وبالإضافة للمعكرونة (إرشته):
- الشمال العربي: عدس + بصل.
- أذربايجان وإيران وأفغانستان (عدا خرسان): فاصولياء + عدس + كركم.
- تركستان (مع خرسان وشمال أفغانستان): عدس + حمّص + بصل. أو: كشك (چشج) + بصل.
وتتبع هذه المكوّنات الأساسية مكوّنات إضافة وفق المزاج والمناسبة.