أحد الصفحات الغائبة في أيامنا عن التاريخ الإسلامي وتاريخ الإمبراطوريات العربية في وسط آسيا، هي صفحة اليهود البخاريّين، أوّل من حمل اسم العائلة {بخاري} لقباً لعوائلهم، بُعيد التهجير عن تركستان. ولليهود البخاريّين دور كبير في الدول الإسلاميّة في منطقة تركستان، وآثارهم الاجتماعية بارزة وظاهرة في مراحل أسلمة المنطقة عقب الفتح الإسلامي لبلاد الترك الشرقيّة.

اتّصل الإسلام بتركستان في الفور من بعد سقوط المملكة الساسانية مقابل الدولة الإسلامية الأولى في القرن السابع، إذ كانت في أربعينيّات القرن السابع أوّل المناوشات ما بين الجيش الإسلامي وممالك الصُغد، على عهد {عمر بن الخطّاب}. واستمرّت تحدّيات السلطة والسيادة ما بين الدولة الإسلاميّة وممالك الصُغد طيلة عهد الخلفاء الراشدين ومن تلاهم حتى وصل عهد الأموي {الوليد بن عبد الملك}، الذي كرّس السلطة العربيّة على تركستان وحوّلها ولايات إسلاميّة خاضعة لدمشق بصورة رسمية. مع ذلك، لم يدخل أغلب الترك في الإسلام واستمرّوا على أديانهم المتنوّعة ما بين التنگریه والأرواحية الشامانية والمانوية والبوذية؛ حتى عهد العبّاسيّين حين تقاتلت أعظم إمبراطوريّات آسيا على النفوذ آنذاك، وانهزمت الصين في معركة {نهر طلاس} سنة 752 بعد محاولتها غزو تركستان لحيازتها في مواجهة العبّاسيّين.
إذ ذاك اعتبر العبّاسيّون تركستان الشرقيّة بالأخصّ؛ قاعدة استراتيجيّة لسلطتهم الإمبراطوريّة على آسيا، وانتشر الإسلام العبّاسي فيها يوحّد الترك جميعاً على ديانة واحدة. ومن جهة ثانية، امتنّ الترك الأويغور (ئۇيغۇرلار) لحليفهم المسلم الذي أعانهم على مواجهة عدوّهم القديم، أهل الصين، فمالوا بالولاء لبغداد رغبة وطواعية. مع ذلك، لم ينتشر الإسلام فعلاً بين الترك حتى حلول القرن العاشر، وبداية نشوء ممالك تركيّة مسلمة بديلاً عن الممالك العربيّة المسلمة في تركستان وتصارعها مع المحاولات الصينيّة المستمرّة لفرض سلطتها ونفوذها على المنطقة. وهي المرحلة التي استفزّت قبائل الرعاة خلال القرن 12 وولّدت ردّ الفعل المغولی (المونگولی) لاحقا مع مطلع القرن 13، وهم الذين استشرسوا في مقاومتهم فاحتلّوا الصين نفسها ثمّ طردوا الترك عن موطن الترك الأصلي (مونگولیا المعاصرة)، ثمّ استمرّ انفجارهم العسكري حتى دمّروا بغداد العاصمة المقدّسة لمسلمي آسيا آنذاك.
في أثناء الصراع الأموي-الصُغدي على تركستان، كانت السلطة والقوة في المنطقة لمملكة بخارى، التي كانت مملكة أنثوية آنذاك تتعاقب عليها الخواتين (ج خاتون (خاتٌ) الملكات). وبذلت الخاتون البخارية كلّ ما في وسعها لصدّ جيوش العرب الأمويّة، غير أنّها انهزمت. وتكابراً على هزيمتها، قرّرت مع شعبها من الزرادشت ترك العاصمة بخارى للفاتحين العرب، فتمكّن للمسلمين آنذاك بناء أوّل مسجد في بخارى سنة 713. لكن، لمّا انسحبت الخاتون مع أهل بخارى عن المدينة، بقي فيها أهلها من اليهود ولم يتركنها. وهؤلاء صاروا المحلّيّين في صفّ المضريّين الأجانب، يعينونهم على أمور الحكم والسياسة، ويتحكّمون بالتالي بالاقتصاد، الذي بقي لهم من بعد خلوّ العاصمة بخارى من عناصرها الزرادشتيّة وغيرها.
ويهود تركستان، المعروفين شيوعاً باسم اليهود البخاريّين، من المزراحيّين، وهم أساساً من عرب طيء؛ من يهود المملكة السلوقيّة الذين نزحوا عن بابل صوب الصُغد التركي وسط آسيا في الفترة ما بين القرنين الرابع والسدس، بسبب الاضطهاد الساساني. إذ فرضت المملكة الساسانيّة الديانة الزرادشتيّة على مواطنيها واضطهدت بالتالي وجود التنوّع الطائفي في البلاد. وكان لوجود اليهود في مملكة بخارا وجوارها دور كبير في مدّ الصلات مع الممالك التي تعادي الساسان على الجهة الغربيّة من إيران، كالرومان البيزنطيين واليمنيّين. فلمّا وصلت الدولة الإسلاميّة وسط آسيا، كان تجار اليهود على صلات قوية بالأساس مع التجار الشاميّين واليمنيّين، فصاروا جزء من الدورة الاقتصادية للإمبراطورية العربيّة الإسلامية.
وبسبب هذا التماهي اليهودي الإسلامي في الصغد، صار المطبخ البخاري اليهودي هو ذاته المطبخ التركستاني الإسلامي، وصارت العادات الاجتماعية ليهود مملكة بخارى ما قبل الإسلام، هي ذاتها العادات الاجتماعية لكاشغر وما بين النهرين التوأمين ولخراسان الإسلاميّات (الولاية الإسلامية لتركستان)، حتى الأزياء وأنماط احتفالات يهود بخارى؛ انتشرت وصارت هي النمط الرمزي للإسلام التركي في آسيا… وعلى الهامش، كان الترك القزّ الغربيّين (الخزر) يهوداً قبل دخول الإسلام، والسلاجقة من القزّ، ومن القزّ أيضاً التركمان، الذين تحوّلوا إلى الإسلام بداية القرن 13 بعد أن صرفوا حوالي خمس قرون في الجيوش البيزنطية.
اليهود البخاريّين، اسمهم باللّغة البخارية {يهُديّاني بُخارا} יהודיי בוכאראי أو {يُهُديّاني بُخاري} יהודיאני בוכארי وتعني حرفياً يهود بخارى… وبخارى هنا لا تعني مدينة بخارى فقط، بل كامل خانيّة بخارا الصُغديّة. أمّا عالميّاً فينتشر اسمهم اليوم بصيغة غربيّة هي {بُخاران}؛ التي تبنّاها اليهود البخاريّين حديثاً مع الهجرة والاستيطان في أميركا. ويتحدّث اليهود البخاريّين اللّغة البُخاريّة (أو البخارانيّة)، وهي لهجة تركستانيّة عن اللّهجة الفارسيّة الطاجيكيّة تمتزج فيها الطاجيكيّة بالآراميّة، وهي لسان متطوّر عن لهجة طيء العربيّة في العهد السلوقي، متأثّرة بپهلويّة الساسان. وتُكتب اللّغة البُخاريّة بالأبجديّة العبريّة البابليّة القديمة، وتحوّلت اليوم إلى الأبجديّة العبريّة الحديثة.

في أيّام أمارة بخارى الأخيرة، آخر الممالك التركيّة قبل الاحتلال الروسي، انقسم تصنيف الشعب في سجلّات المواطنة إلى إثنيّتين فقط: {مُوسُلمان} (المسلمين) و{إسرائيل} (اليهود)، فكان من يتحدّث التركيّة يعرّف نفسه بصفة مسلم، ومن يتحدّث البُخارية يعرّف نفسه بصفة يهودي. وبعد روسنة المنطقة عقب الاحتلال الروسي مع الحرب العالمية الأولى، ومن ثمّ الشيوعيّة، نزح الملايين عن تركستان وخرج معهم أغلب اليهود إلى الشتات من جديد وكلّهم حوالي ربع مليون فقط، حيث استقرّ نصفهم في نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية (130 ألف)، والنصف الآخر في فلسطين (120 ألف)، وبضعة آلاف في أوروپا، ولم يبق في أوزبكستان اليوم سوى 1500 فقط؛ منهم 150 في مدينة بخارى. وجميعهم خارج تركستان يحمل اسم العائلة {بخاري}.

واليهود البخاريّين مزراحيّين، لكنّ لطالما أخرجتهم المرجعيات المزراحيّة من الملّة بسبب عدم التزامهم بالمأكل المزراحي الكوشر (الحلال)، حيث يذكرهم مثلاً الحبر البابلي {صموئيل بن بِسنه} في التلمود بأنّهم يصنعون النبيذ والخمور المحلّية في مرو (تركمانستان) بأساليب تخالف أحكام الكوشر.
عموماً، وحتى القرن 18، تعبّد المسلمون واليهود البخاريّون داخل ذات المنشآت التي نعرفها باسم مساجد أو جوامع. وكان اليهود يؤدّون شعائرهم مع المسلمين داخل المبنى في ذات الوقت أحياناً، أو ينتظر اليهود حتى يفرغ المسلمون من الصلاة لكي يقيموا شعائرهم في ذات المكان. إذ اعتبرت الدولة أنّ المسلمين واليهود كليهم يتبع مذهبين من الديانة ذاتها. ومن المنشآت التي لم تزل تحمل أدلّة على هذه الممارسة المشتركة مسجد {لب إ-حوض} في مدينة بخارى، واسمه معناه بالعربيّة {إلى جانب البِركة} بسبب وجود بركة ماء جميلة تحيط بالمسجد من ثلاث جهات. واسم المسجد بالأوزبكية المعاصرة هو {ليَب إ-حوز} أو {ليَب إ-خوز} Lyab-i Khauz.

بُني مسجد {لب إ-حوض} بداية كجامعة تعليمية سنة 1569 باسم {قُقلداش مدرسه} وهي واحدة من سلسلة من مؤسّسات تعليميّة تحمل ذات الاسم، أنشأتها الأسرة الشيبانيّة في مختلف مدن أمارة بخارى، وكانت الأسرة الشيبانيّة قد تحوّلت إلى الإسلام سنة 1282؛ والشيبانيّون من عشيرة الذئب الرمادي، أو العشيرة الرمادية، التي ينتمي لها الأوزبگ. ومن العشيرة الرماديّة خرج الضابط {محمّد شيباني} الذي انتصر لثورة الترك على التيموريّين المغول، ثمّ طردهم عن تركستان ليؤسّس المملكة الشيبانية سنة 1488 وهي التي عُرفت رسمياً باسم أمارة بخارى، حين اختار الخان {محمّد} لقب {أمير} العربي بديلاً عن لقب {خان}، كرمزية لإعادة الشريعة الإسلامية الأموية إلى عموم تركستان. ولأنّه يرى أنّ أنساب الشيبانيّين عربيّة أكثر منها تركيّة.
عدّ آل شيبان اليهوديّة مذهباً إسلاميّاً، واستمرّت العبادات اليهوديّة تتمّ في المنشآت الإسلاميّة في أمارة بخارى، إلى أن تغيّرت سياسة الدولة نهاية القرن 18 وشرعت تضغط على اليهود للتحوّل إلى الإسلام، سيّما وقد كان أغلب اليهود البخاريّين قد باتوا يفتقرون إلى المعرفة بأصول ممارسة دينهم اليهودي. وكان سبب هذه الإجراءات الحكومية قد بدأ بهجرة الحبر المغربي التطواني {يوسف ميمون} واستقراره في مدينة بخارى سنة 1793 بعد أن كان من أعمدة {القبالة} في مدينة صفد الفلسطينيّة. وشرع الحبر ميمون إذّاك ينشر المذهب السفاردي بين يهود بخارى، ويحرّض على انعزال اليهود عن المجتمع المسلم، ما دفع الدولة للضغط على اليهود البخاريّين للتحوّل إلى الإسلام.
بدأ يوسف ميمون حركته بمطالبة يهود مدينة بخارى للصلاة في الكنيس الوحيد في المدينة، الذي كان قد بُني سنة 1620 كردّ اعتبار ليهود بخارى بعد أن بُني مسجد دون ترخيص على قطعة أرض تخصّ أرملة يهوديّة… عموماً، وبنتيجة التنازع الاجتماعي ما بين الحكومة الشيبانيّة وجماعة {يوسف ميمون}، تحوّل أغلب اليهود البخاريّين إلى الإسلام خلال القرن 19 حتّى كادت الملّة تختفي في أمارة بخارى، بينما تحوّلت غالبيّة الأقليّة التي بقيت عن المزراحيّة إلى المذهب السفاردي، وهي الأقلية التي نزحت أخيراً وهاجرت عقب الاحتلال الروسي صوب كوينز نيويورك وتل أبيب.

رأي واحد حول “يهود بخاريّون”