لا أخفيك أنّ الاستراحة في الأمويّ كانت أكثر أوقاتي سكينة في دمشق. برودة حجارة جدرانه الحميميّة ورائحة العرق القديم في الأرضية ممزوجاً بالإخلاص. في أقدم مبنى لم يزل يُستخدم للعبادة في العالم. طبعاً، الأموي الدمشقي ليس أقدم معابد العالم، وليس الأقدم بين الموجودين إلى اليوم، لكنّه الأقدم بين المعابد التي لم تزل تُستخدم للعبادة إلى اليوم ويعود عمر استخدامه الأوّل إلى 4500 سنة.
قبل بناء الجامع الأموي في مكانه كان فيه كنيسة للمسيحيين، وقبلها معبد لجوپِتير الروماني الذي كان في الأصل بعل الكنعاني وكان قبلها أداد الأكّدي. ولا أحد يعرف بالضبط ما كان الاستخدام القديم للمعبد قبل أداد؛ ولا يُعرف كيف كان شكل المعبد الآرامي قبل بناء المعبد الروماني ولا نعرف حتّى تفاصيلاً عن المعبد الروماني قبل تحويله إلى كنيسة، فليس من وثائق حفظت رسم الشكل القديم ولم تترك عمليات إعادة البناء أيّة آثار يسهل تقفّيها.
بدأت عبادة أداد 𒀭𒅎 في أكّد خلال عصر الإمبراطورية الأكّدية قبل 4500 سنة، واسمه معناه ”الهدية“ أو ”الأُعطية“ أي أُعطية الإله شين (سين القمر) من زواجه بالربّة نِنگَال السومرية، ربّة القصب. وفي زمن كان فيه القصب هو أهمّ المواد الخام التي استعملها أهل المنطقة لصناعة أدواتهم بكلّ صنوفها، اعتبر الناس أنّ علاقة حبّ عابرة جمعت ما بين شين ونِنگَال فأثمرت إنجاب أداد وإننّه.
كان سين 𒂗𒍪 المرمّز بطائر البجع، ينادى بلقب نَنّه في الصلوات السومرية وهذا اللقب يعني في العربية المعاصرة ”نعمه“ و“لقمة الحياة“، واعتُبر سين أنّه الربّ القمر؛ خالق كلّ شيء والمتحكّم بالمدّ والجذر ومرسل المطر وباعث الحياة في الماء. وبتزاوجه مع ربّة القصب نِنگَال أنجب الحضارة، إذ صنعت الناس من القصب كلّ الأدوات المنزلية والمفروشات وعمّرت المنازل (كما يفعل أهل الأهوار اليوم) وصنعت كذلك القوارب والسفن الكبيرة؛ التي مكّنت سكّان المنطقة من التجارة عبر الإبحار في أنهار وبحار المنطقة.
خلال العصر الأشوري صار اسم أداد في الصلوات هو ”شين إشكُر“ التي تعني ربّما ”بركة الله“ وهذا منطقي حين ترى الناس أنّ الحضارة هي بركة الخالق، طالما أنّ أداد هو ربّ الحضارة وروحها، وطالما اشتغل شعب الآشورية بالزراعة واعتمد عليها اقتصادهم بالكامل، صار أداد هو صاحب البرق والرعد طالب المطر، إذ أنّ أداد يطلب المطر من أبيه سين، حتّى يرسلها الأخير على الناس فتسقي الزرع وتمكّن التجارة عبر مجاري المياه الوفيرة. وعليه صار رمز أداد هو البرق وتخيّله الناس حدّاداً يطرق بمطرقته الثقيله على الحديد الحامي فتطلق طرقاته شرارات البرق في السماء.
وصل الرومان دمشق في القرن الأول قبل الميلاد وكان فيها معبد لأداد باسم ”حَدَد رَمّن“ وكان مشيّداً على طراز كنعاني لا يختلف عن نمط معابد بعل في كلّ القسم الغربي من سوريا المعاصرة، كمثل معبد بعلبك مثلاً ومعابد كيليكيا التي لم تزل موجودة حتى اليوم. سنة 64 ق.م حوّل الرومان اسم ”حَدَد رَمّن“ إلى ”يُپِتير“ Jupiter الذي لفظت العرب اسمه جوبيتر وجبيطر. واسم يُپِتير تحوير في الأساس عن چوس عن ژوس عن زوس الإغريقي. ومعنى التسمية الروماني الحرفي هي ”الربّ يو“ أو ببساطة ”بابا يو“.
نهاية القرن الأول قام المعماري ”أپولّودورُس الدمشقي“ بإجراء تعديلات كبيرة على المعبد الدمشقي وسّع فيها مساحته الداخلية واعتمد على نمط العمارة النبطي المعاصر لزمنه، سيّما وأنّ أپولّودورُس نبطي أساساً ودرس العمارة في موطنه واشتغل فيه مهندساً عسكرياً قبل الانتقال إلى روما ليصبح معماريّ مشاريع الإمبراطور تراجان.
شملت التعديلات المعمارية الرومانية على المعبد الدمشقي التأكّد من احتوائه على رموز ومواصفات معمارية توائم عبادة ”أداد“ و”بعل شَمين“ و”زِوس“ و”دُشاره“ المعروف رومانياً باسم ”دوسرا“ وعربياً باسم ”ذو الشرى“، وهو الإله ”شره“ السومري نفسه ابن عشتار. وأراد الرومان من هذا التعديل اعتبار ”يُپِتير“ مهيمناً على الأديان المحلية في المنطقة، وفتح المعبد لأتباع جميع الديانات المحلية كذلك، دون إجبارهم على تغيير عباداتهم ومعتقداتهم الأصلية.
من الملاحظ اهتمام الرومان في هذه المرحلة بتخصيص المعبد الدمشقي للأديان الذكورية فقط، والاعتناء بالآلهة الذكور دون الإناث، على عكس معبدي حمص وبصرى مثلاً الذين تكرّسا لديانات أنثوية.
بداية القرن الثالث قام الإمبراطور الروماني “سيپتِميُس سيڤيرُس” بإضافة تزيينات تضيف الأبّهة على معبد دمشق وموّل توسيع بوّابته الرئيسية على الجهة الشرقية وهي البوّابة الموجودة اليوم قبال مقهى النوفرة في دمشق القديمة. وبهذه التعديلات صار معبد دمشق هو المعبد الروماني الأكبر في أبرشية المشرق واعتمدته روما معبداً رئيسياً للديانة الرومانية في المشرق.
مطلع القرن الرابع أصدر الإمبراطور الروماني ”قسطنطين العظيم“ أمراً بنهب وهدم جميع المعابد غير المسيحية في المنطقة وأطلق على أتباعها لقب ”الوثنيّين“ بغضّ النظر عن أسماء الديانات المحلّية المتنوّعة. ما فتح باباً واسعاً لاضطهاد ”الوثنيّين“ وإكراههم على التحوّل إلى المسيحية. في تلك الفترة التي امتدّت ما بين 306 حتى 337 أطلق قسطنطين حرّية المسيحيين بنهب وتخريب أيّ معبد غير مسيحي في البلاد، وأعفاهم من العقاب، ما رفع حماية القانون عن جميع المنشآت التي خدمت طوائف غير مسيحية.
خشية النهب والتخريب في فترة اضطهاد ”الوثنيّين“، تحوّل معبد جوبيتر الدمشقي إلى كنيسة رفعت الصلاة للمسيح. لاحقاً وخلال عهد الإمبراطور ثيودوسيُس الأوّل Theodosius I اعترف الإمبراطور بكنيسة دمشق وكرّسها ليوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا) الذي يؤمن المسيحيّون بأنّ رأسه مدفون في الحرم مقابل المعبد (اليوم داخل المسجد). لاحقاً صارت الكنيسة كاتدرائية بيزنطية.
سنة 635 نزلت دمشق تحت حكم المسلمين فقامت الدولة الإسلامية ببناء مسجد للمسلمين في الباحة المقابلة لكنيسة يوحنا، ما بين الباب الشرقي والكنيسة. أطلق المسلمون على المسجد اسم مسجد الرفقاء وبقي في الاستخدام لمدة سبعين سنة.
سنة 705 قام الوليد بن عبد الملك (الوليد الأول) بشراء الكاتدرائية من مسيحيّي دمشق مقابل إنشاء أربع كنائس بديلة موزعة في المدينة حيث أرادها المسيحيّون وبحسب طوائفهم كما أعاد بعض الكنائس المصادرة إلى أهلها. ثمّ في العام التالي بدأ بعمليّات بناء المسجد الجامع المعروف اليوم باسم مسجد بني أمية الكبير.
استمرّت عمليات الإنشاء 11 سنة ما بين سنتي 706 و717، هُدم فيها مسجد الرفقاء وكنيسة يوحنا، وأنشئ مدخل رئيسي على الجهة الجنوبية (حيث سوق البزورية اليوم) ثمّ بني حرمٌ للمسجد على طول المساحة ما بين الجدارين الشرقي والغربي؛ جداريّ حرم معبد أداد الداخلي. واستُعملت في بناء المسجد حجارة الكنيسة التي كانت خارج الجدار الغربي للمسجد الأموي المعاصر.
تقول التدوينات العربية القديمة أنّ العمل على بناء المسجد الأموي استغرق جهود 12 ألف عامل، فيهم مبدعون من كلّ أرجاء الإمبراطورية العربية الأموية تقريباً. وزُيّنت جدران المسجد بالذهب والفضة والنحاس ولوحات الفسيفساء، حتّى صار كتحفة وهّاجة وسط أسواق مدينة دمشق القديمة.
خلال العهد العبّاسي أضيفت العديد من المعالم المعروفة اليوم في بنية المسجد، منها مثلاً قبة المدخل الشرقي سنة 780، وقبّة الخزينة سنة 789، ومئذنة العروس سنة 831، ثمّ أزال المأمون العبّاسي كلّ النقوش الأموية من جدران المسجد. وخلال القرن العاشر نُصبت ساعة ميكانيكية ضخمة فوق باب زيادة (المدخل الجنوبي للمسجد) ثمّ أزيلت في القرن 13.
تعدّدت الأديان، وتبدّلت المعتقدات وتغيّرت معها استعمالات المبنى ومساحته، ومع ذلك يبقى في النهاية معبداً تستخدمه الناس للعبادة، ولن تتغيّر هذه الطبيعة ما دام في دمشق ديانة تُتّبع.
اترك تعليقًا