رسمة رسمتها ليلة أمس السبت من مشاعري اتّجاه سوق البزورية الدمشقي العتيق، تلك الكتلة المتآلفة من العطور في زقاق حفظته القرون داخل أسوار مدينة دمشق القديمة.
أيّام كنت أسكن دمشق كنت إذا ضاقت بي نفسي ساقتني ساقيّ صوب زحام سوق البزورية، فأدخل دمشق القديمة من السوق الحميدية لأنحرف في زقاق البوس على موازاة سوق الحرير، ثمّ سوق القلبقجية، ثمّ سوق الخياطين، ثمّ ألتفت في سوق مدحت باشا لألتفت من جديد هرباً إلى سوق البزورية من نهايته، فأشتري حفنة في كيس ورق من الملبّس والقضامة بسكّر لأتسلّى بها مع مشيتي ما بين محلات البزور والعطور، ولربّما أدخل بعض الخانات القديمة حول السوق فأشرب الشاي في خان العمود أو أستمع إلى مجادلات الباعة في خان الصنوبر؛ أو أصادف عرضاً فنياً في خان أسعد باشا، لكنّ مشواري كان ينتهي في الزقاق ما بين البحرتين لأخرج في سوق السلاح الذي ينتهي بجدار المسجد الأموي وسوق القباقبية حيث يمكنك أن تشتري أجمل قوالب المعمول الخشبية المنقوشة.

قديماً كانت تنزل الناس سوق البزورية لسببين، للاستحمام في واحد من حمّاماته الكبيرة وتحقيق متعة النظافة أو لشراء المواد الطبّية التي كانت تسمّيها أغراض العطارة. وقد لا تعلم أنّ مدينة بخارى في أوزبكستان احتضنت هي الأخرى سوقاً قديمة جدّاً بذات الاسم البزورية. سوق تسبق بوجودها الفتح العربي الإسلامي بقرون، إذ أسّسها آنذاك يهود بابل الهاربين من بطش المملكة الساسانية. فنزحوا إلى بخارى وأنشؤوا في قلب المدينة إلى جوار أكبر معابدها سوقاً للعطّارين أسموها ”ميدان البذور“ bozor maydoni ثمّ صار هذا السوق منزلاً لتجّار اليمن حاملين معهم البخور والعطور من بلادهم لبيعها في تركستان. هذا السوق نفسه لم يزل إلى اليوم يحتضن ”مسجد العطّارين“ attori masjidi وأسماء لم تزل على وزنها العربيّ السابق للإسلام.

تمّ تنظيم سوق البزورية في دمشق خلال العهد الأيّوبي بعد انتقال عاصمة السلطنة الأيّوبية إلى دمشق سنة 1174. حيث أنشأت الدولة سوقاً للقمح على خان للعطارة كانت تبيع فيه الناس البذور العطرية المستوردة من الهند، وصنعت عليه سقفاً من الخشب. ثمّ صارت تبيع الناس في محلات السوق مختلف أنواع الحبوب إلى جانب القمح. ثمّ نشأ على الطرف الشمالي لسوق القمح عدّة محلّات للدهون ”الكريمات التجميلية“ فصارت تسمّيه الناس بسوق الدهيناتية. ثمّ نشأ تجمّع لمحلّات العطارة والطبّ الشعبي على حواف خان الصدرانية فصارت تطلق عليه الناس ”سوق العطّارين“، ولاحقاً كثرت من خان الصنوبر جنوب السوق محلات السكاكر والمربّيات والحلويات المستوردة من حوران ومن جزيرة كريت ”كانديه“ ولم تزل هذه المحلّات تعمل في ذات التخصّص إلى اليوم، لم تتغيّر لقرون.
في العهد المملوكي في القرن 13 وما تلاه يرد اسم السوق بسوق البزوريّين وهو الاسم المتعارف عليه في التركية القوقازية لسوق العطّارين، وهذا الاسم حوّره أهل دمشق إلى سوق البزورية. واستمرّ السوق على حاله لم تتغيّر حتى القرن 18 حين أنفقت الحكومة العثمانية الكثير لتطويره، إذ بنى والي دمشق أسعد باشا العظم قصراً لإقامته شمال السوق سنة 1749 ثمّ سنة 1753 بنى خاناً ضخماً معروفاً اليوم بشهرته، وخصّصه لبضائع التجّار الأوروپيين الواردة من الهند وعموم جنوب شرق آسيا وأفريقيا. أخيراً قام والي دمشق العثماني حسين ناظم باشا سنة 1893 باستبدال السقف الخشي للسوق بسقف من التوتياء والحديد في مشروع تحديث شمل أسواق دمشق القديمة كلّها، وهو السقف الباقي إلى اليوم.

كلّ هذه تفاصيل في تاريخ عمارة السوق وتجارته التي لربّما تختزل تاريخ دمشق كلّه. لكن من المهمّ أن نذكر أنّ سوق البزورية هو أوّل مكان في دمشق نزلت فيه تجارة الأرز، لذا فيه إلى اليوم خان الرز. وفيه بيع الشاي للدمشقيّين من شركة بريطانية لأوّل مرّة وكذلك الفواكه المجفّفة، وفيه بيعت لأوّل مرّة الحلويات المستوردة من سيليزيا الألمانية قبل تهجير أهلها وزوالها في بدن پولاندا. وهذه الحلويات صارت اليوم من صلب التراث الدمشقي تحت اسم اللّوزينا.
حلوى اللّوزينا قدمت إلى سوق البزورية مع تجّارها الألمان بداية من سيليزيا. هذه المنطقة الألمانية افتخرت بهذه الحلويات وذاعت شهرتها كأهمّ الصادرات السيليزية تحت اسم مارتسيپان Marzipan وذاعت شهرتها أكثر بعد أن شاع صيتها في القرن 14 على أنّها حلوى الأمراء والطبقة الأرستقراطية. وبعد نزولها سوق البزورية أطلق عليها الناس اسم مرصبان، ثمّ تبدّل الاسم إلى اللّوزينا طالما أنّها مصنوعة في الأساس من عجينة اللوز.

سوق البزورية ليست سوقاً عادية، والمحلّات فيها ليست تجارة طارئة حدثت في دمشق، بل هي جزء من قلب دمشق ومن صميم تاريخ أهل دمشق والمشرق كلّه. سوق دولية لبّت مطابخ الناس، ومشافي الناس، وآداب حياة الناس، وأفراح الناس، ولها في كلّ عيد حصّة، فهي في عرف كلّ طفل وكلّ راشد سوق السعادة.
مؤنس بخاري، برلين
اترك تعليقًا