رغم تكرار هذا الأمر طيلة السنوات الملايين الماضية، أو على الأقل؛ على انتباهي خلال السنوات الأربعين الأولى من إدراكي. تبقى مسألة الحمل والولادة في نظري من أغرب الأعاجيب التي أستثقل فهمها وهضم حقيقة وجودها.
كائن ينمو داخل كائن آخر. مخلوق يتطوّر من خلية تافهة إلى إنسان ذو إدراك داخل إنسان آخر، في أحشائه، ثمّ ما إن يكتمل نموّه حتى يشقّ طريقه زاحفاً خارج الجسم المُضيف… أليست هذه من غرائب الحياة؟
أتفهّم أن يخرج كائن حيّ جديد من بيضة… بيضة مركونة في مكان ما تحت ذويها أو في الخلاء. لكن، أن تفقس تلك البيضة داخل جسم معيلها، ثمّ ينمو الكائن ويتطوّر بجذور في أحشاء كائن آخر مُضيف، ثمّ يتخلّى الطفيليّ عن جذوره ويتحوّل إنساناً ذو وعي وإدراك بحواس… هذه تفاصيل لا يقبل بطبيعيّتها عقلي. ولو أنّي شهدتها بعينيّ وعلى يقين من وجودها.
هذا التكوين في تكاثرنا عجيب مذهل وغير عادي. هذه الآلية ليست حدثاً عابراً للحياة.
في الطبيعة نبات عشبي مائي عاش جزء منه معي في بيتي، حين كنت أمارس هواية الأكواريوم واحتجته لتأمين ملاذ للأفراخ الصغيرة. وأقول جزء منه لأنّ هذا النبات في الواقع لا يتكاثر. هو من أحد أندر الكائنات على كوكب الأرض التي لم تعرف التكاثر.

في الواقع، كلّ نباتات الهورنورت Hornwort في الطبيعة أجزاء من النبات الأول… ينفصم فرع عن النبات بشكل طبيعي، بسبب تيار الماء أو التماس بكائنات أخرى، ثمّ يتابع كل جزء نموّه وحياته كأنّ شيئاً لم يتغيّر.
نبات الهورنورت من أقدم كائنات الكوكب، نبات لا جذور له. ولا يثبت في تربة. كلّ ما يفعله هو الطفو على الماء في سلاسل طويلة تتسربل مع تيارات الأنهار، وتتغذّى على أشعّة الشمس وتستخدمها لحرق ما تمتصّه النبتة من بقايا الأسماك المتحلّلة على سطح الماء. ثمّ، يقدّم الهورنورت المأوى لأفراخ الأسماك الصغيرة جداً، فلا يأكلها الكبار بعد فقسها.
إذا صادف ولمست نبتة هورنورت، فأنت تلمس جسد أقدم كائن حيّ؛ ولم يزل حياً، على سطح كوكبنا العجيب. فطالما أن الهورنورت لا يتكاثر، فالنبات بين يديك حيّ بعمر ملايين السنين. على عكس الإنسان تماماً، الذي مهما عاش؛ يموت، تاركاً إنساناً آخر، أنتجه بالتعاون مع إنسان آخر، ليستمر بالحياة والتكاثر من بعده.

في الأعلى هنا في الصورة ذاكرة محمولة تحتوي على شريط DNA سعة الغرام الواحد منه 215 مليون گيگابايت، وسعتها الهائلة هذه مضغوطة عدّة مرات في عبوّة أصغر من أن تلحظها عيني المجرّدة… مثلاً، حجم شريط DNA في نطفة واحدة مضغوط لحجم أصغر عشرين مرّة من حجم الشريط في خلية كبد فعّال… هذه الذاكرة المحمولة تحتوي على خوارزمية تسجّل كل مواصفاتك الجسدية بكل تفاصيلها، لونك ومقاساتك وصوتك ومواصفات الأعضاء في داخلك وطريقة عملها ونوعية شعرك والمأكولات التي تصيبك بالتحسس… وتحتوي كذلك على تفاصيل طبيعتك ومواصفاتها وآلية تحليلك للمعلومات وأحاسيسك وذاكرتك الجينية الموروثة عبر أجيال من البشر. وبعض العلماء يقولون بأنّها تحتوي حتى على جدول زمني لهرمك وتخامد قواك حتى الموت.
حجم المعلومات المسجّلة في شريط DNA هائل لدرجة أنّ الـ215 مليون گيگابايت ممتلئة بالكامل برغم تقنية الضغط والتشفير الخارقة فيها، ولا يوجد مساحة فارغة في شريط ذاكرة أيّ خلية.
في الأعلى بجانبها ذاكرة محمولة هي أسرع أكبر ما يمكنك شراؤه اليوم في السوق، Kingston DataTraveler HyperX Predator 3.0 DTHXP30/512GB، سعتها خمسمئة گيگابايت فقط، ما نسبته 0,0002 من سعة ذاكرة غرام واحد فقط من الحيوانات المنوية، علماً أنّ الغرام الواحد من النطاف يحتوي على 200 مليون نطفة.
أليس غريباً أنّنا نولد وليس لنا سلطة على أيّ بايت واحد من هذه الذاكرة المخزّنة في خلايانا؟ لا نمتلك السلطة على اختيار عرقنا ولا هويتنا ولا ألواننا ولا جنسنا ولا مقاساتنا ولا حتى أسمائنا. لم نختر حتّى أن نولد وكيف نحيا ومع من ولا كيف ومتى نموت. كلّ ما يتاح لنا اختياره هو أسماء أولادنا، فنختار لهم تربيتهم وتثقيفهم وتنشئتهم، ثمّ نقنعهم بأنّنا لقنّاهم الثقافة الأفضل وعليهم الدفاع عنها كهوية أبدية، هذه الثقافة التي لم نختر نحن الانتماء إليها في الأساس.

حرّية الاختيار وهم في هذه الحياة، فاختياراتنا كلّها تتأثّر ببساطة بمواد كيماوية تصدرها أجسامنا، وتكسبها أجسامنا فتتأثّر بها وتردّ عليها، وهذا التأثّر كلّه مبنيّ على البيانات المسجّلة أساساً في ذاكرة محمولة صنعتنا ثمّ نطلقها من أجسامنا، ولم نختر حتّى حملها. نحن الأدوات أثر الغرام الحامل لـ215 مليون گيگابايت من البيانات؛ التي لم نساهم في كتابة سطر واحد منها.
تخيّل لو كنت كالهورنورت… لا تتكاثر، بل تقطع إصبعك لتنمو إلى نسخة جديدة عنك، ثمّ يعود في يدك إصبعك من جديد… كيف كانت لتكون حياة البشر هنا؟
اترك تعليقًا