في الماضي وخلال حياة الدولة العثمانية، ابتكرت المؤسّسة العسكرية مهنة البلطجي، أي محترف البلطة، وهذه الأخيرة هي سلاح عسكري يشبه الفأس. فصار البلطجي هو من يسير مع الجيش ويسبقه؛ فيقطع الأشجار لتسهيل المرور في المعابر… في الواقع، تسمية بلطجي (بالطهجي) ابتكرتها المملكة القرمانية التركية قبل العثمانية تتريكاً لحرفة ورثتها عن العهد السلجوقي هي بالفارسية حرفة الدرويش ”درڤيش“ (در، درڤ = باب)، والدرويش في الجيش السلجوقي كان شخصاً يفتح الطريق ويفتح الأبواب المغلقة باستخدام فأس عسكريّ معدنيّ طويل اسمه تبرزین (تَبَرْزِن بالعربية)، والتبرزين صار في الأناضول بالطه عن الرومية بلطا عن اللاتينية بالته bȃlta.

وطالما امتهن البلطجيّة والدراويش في الممالك الإسلامية فتح الدروب والأبواب الموصدة، اشتغلوا كذلك في فتح المجتمعات المغلقة أمام سلاطينها، وفي قطع رقاب الثابتين الرافضين لسياسات التغيير الحكومية، أو المقاومين للأنظمة الحاكمة. هكذا، تحوّل حامل البلطه من تسليك الدروب إلى جزء من جهاز مصمّم لحماية السلطة، جماعة أمن نظام الحكم. وصارت كلمة بلطجي تعبّر فعلاً عن زعران السلطان؛ الذين يفرضون القرارات الحكومية ببطش القوّة، ثمّ يُرهبون كلّ معارضة تخرج على قرارات السلطة… وهذا التحوّل قديم يعود إلى عهد السلطنة الغزنوية في القرن العاشر.

وعلى الرغم من تحوّل طبقة الدراويش السنّة إلى جواسيس متسوّلين يخدمون السلطة بالسرّ بعد العهد السلجوقي، أو في فترة متأخّرة من حياة الممالك السلجوقية. تحوّل البلطجيّة أكثر فأكثر إلى مجتمع يمتهن البطش بالقوّة علانية. فصار عقل البلطجي في ذراعه؛ متى تنفّذ استبلط في مجتمعه، ففرض الأتاوات وحاصص الناس في أرزاقها وأرباحها، وسلب الأعمال حصصاً منها لحمايتها من بلطة السلطان… وليس من بلطة للسلطان سوى البلطجي نفسه، حامل التبرزين. فكان البلطجي مثلاً يحمي موسم الفلّاح من سير الفرق العسكرية في أرضه من خلال قنص حصّة من الموسم من مالك الأرض. وكانت الفرق العسكرية إذا سارت في أرض نهبتها للمصلحة الحربية، بغضّ النظر عن هوية مالكها.
اليوم يعيش أبناء البلطة في مجتمعاتنا بمسمّيات شتّى مختلفة، لكنّهم باقون إلى اليوم على منطق البالطهجي الأوّل والدرڤيش الأوّل، لا يعرفون مخاطبة الواقف أمامهم إلا بالبلطة، ولا يكون الحوار في منطقهم إلا بانكسار المواجه لهم؛ حتّى يزول من الوجود.
اترك تعليقًا