لا شيء يدوم في هذه الحياة. في الواقع، ليس لك شيء في هذه الحياة مهما امتلكت. تبني وتملك وتشتري ثمّ فجأة يذهب كلّ البنيان بغير رجعة ولا سبب، ودون أيّ سيطرة منك. أعتقد أنّنا لا نملك من الأشياء؛ يقيناً، إلا ما لنا القدرة على حماية وجوده. فهل لك القدرة على حماية نفسك؟
في دمشق، وكأيّ شابّ طمحت لامتلاك بيت في مدينتي، تمنّيت الخلاص من سداد أجرة بيت ليس لي، وعلى أكتاف 33 تحقّق الحلم، بدعم من والدتي التي باعت بيتها واشترت آخر أصغر، لتعينني بجزء من ثمنه فتخذِل الزمن. وتحقّق الحلم في ذات السنة التي أُكرهت فيها على ترك البلد، تحقّق الحلم على مسافة أشهر سبقت قصف بيت والدتي الجديد، وعلى مسافة أشهر سبقت تعفيش بيتي ونهب أشيائي الحبيبات. طال القصف العشوائي كلّ شيء لاحقاً وذهبت حتّى الشوارع من الصورة، فمن يعوّضني عن هدم حلم؟
اعتادت والدتي ومنذ صغري على تجميع رسوماتي. اعتبرَتها منجزات فنيّة تستحقّ التوثيق والحفظ للتاريخ، مع كونها لا أكثر من بقع لونية على ورق. فكان في بيتي تصنيفات لرسوماتي مذ كان عمري خمس سنوات، مصنّف المدرسة الروسية، مصنّف مخيّمات الصيف، مصنّف المدرسة الابتدائية، وهكذا، لم تترك يوماً من السنوات دون التوثيق في أرشيف؛ لطالما منحني مشهداً لمسار تطوّر خطوطي عن بقع الطفولة. تاريخي الصغير هذا انتقل معي من شقّة إلى شقّة، يتبع عناوين عقود الإجار من مُكتراً إلى آخر. ثمّ أخيراً وخوفاً من التعفيش عاد الصندوق إلى بيت والدتي سنة 2012 مع أشياء كثيرة نقلَتها حفظاً وصوناً لأشيائي، ومنها لوحاتي بعد الاحتراف (أو ما بقي منها) تلك التي عُرضت أخيراً على جدران صالات المعارض. قُصف بيت أمّي في نفس السنة، واختفى كلّ شيء. فمن يعوّض لي كلّ شيء؟

علاقتي بأشيائي ليست كعلاقة الشيء بالشيء، إذ عادة ما أرتبط عاطفياً بأشيائي، يصعب عليّ رميها وإهمالها مهما تقادمت، في الواقع؛ هذه الأشياء هي جزء من ذاكرتي، روابط ذكرياتي واختصاراتها، وأنا المولود بذاكرة بصريّة؛ يرتبط بنتيجتها فصيّي الصدغيّين بمنطقة البصر هناك في الخلف، فيلتصق سمعي ولغتي بما أرى أثناء تسجيل الذاكرة. هذه الآفة الموروثة أورثتني لعنتين، أنّي لا أنسى، وأنّ ذكرياتي تشتغل كبكرة فيلم على رائي مفتاحه مشهد. كم هو ثقيل حمل ذكريات سميكة مغلقة، معلّقة، لا تخرج ولا تمّحي، طالما أنّ اختصاراتها قد رحلت.
أنا اليوم بلا توثيق، فلا آثار تُثبت أنّي عشت قبل برلين. لم ينج معي إلى يومي هذا سوى كتاب وحيد نجى في حقيبة النزوح من المحرقة. كتاب كنت أقضي طفولتي المبكّرة مقلّباً صفحاته، متشوّقاً ليوم أتعلّم فيه القراءة فأدرك محتواه، كتاب، وخلال سنواتي الأولى مع القراءة ما عدت اكتفيت بتمرير اصبعي على الرسومات الصغيرة على حواشيه، بل صارت سطوره تسليتي ومتعتي قبل النوم. كتاب الصِحاح في اللّغة والعلوم، كتاب لغتي. كان جدّي أبو زياد رحمه الله قد وعدني هازئاً، وعمري بضع سنوات، أنّ هذا الكتاب لي متى استطعت حمله. وكطفل صغير بكتلة لا تزيد كثيراً عن وزن الكتاب قبلت التحدّي، واستمرّ حمل هذا الوزن متجوّلاً معي عبر ثلث العالم. كيف أتركه وهو على ثقله القطعة الباقية لي من جدّي؟ هو الدليل الوحيد بين يديّ أنّي كنت يوماً طفلاً أطمح لكسر التحدّي عقب التحدّي.
من يعوّضني عن خسارة حلم؟ ومن يعوّضني عن خسارة تاريخي وأصدقاء الطفولة الذين يعرفون تاريخي، وسنوات من عمري ضاعت بحثاً عن وطن؟ مذ وصلت برلين وأنا أبحث عن وطن. سبع سنوات مضت ولم أزل شريداً يبحث عن وطن، عن جذور تذيقني طعم الأرض. وما زلت أقبل التحدّي خلف التحدّي.

لشدّة حرصي على أشيائي تخلّيت عنها
قبل تسع سنوات وبالنزوح خسرت كلّ أشيائي في سوريا، ضاعت كلّها رغماً عنّي، وانمحى مع ضياعها تاريخي المادّيّ مذ وُجدت. قهرتني جداً هذه الخسارة وشقشقتني بالألم.
بعدها بعامين خسرت كلّ أشيائي في الأردن، وكذلك ضاعت كلّها رغماً عنّي وبسيطرة المستهترين عليها، وضاع من بينها ما بقي معي من أشيائي الناجية من البلد. ازداد ألمي وتراكم الخوف على أشيائي وعلى الكتاب الوحيد الناجي معي من دمشق.
بعدها بثلاث سنوات خسرت كلّ أشيائي في ألمانيا، بعد ظرف اضطرّني للانتقال فجأة من بيتي دون فرصة لنقل أشيائي معي. فانكسرت عتبة الألم وتجاوزت قدرتي على الخوف على أشيائي.
مذ ذاك قرّرت أن لا أحتفظ بشيء، فالاقتناء مؤلم.
صار التخلّي عندي عادة، أتخلّى عن أشيائي قبل أن تُؤخذ مني، وأضمن هكذا أن لا يأخذها منّي أحد، بل أعطيها من أريد… صار التخلّي عندي هو التخلّص من ثقل الحرص على الأشياء.
مع الأسف، تجبرنا الحياة بلؤم على الاقتناء، كرسي… أطباق… ثياب… كتاب! لذا واجهت حياتي بعادة التخلّي عن الأشياء.
في كلّ دورة أتخلّى عن أغلب ما أملك، ممنّياً نفسي بأن لا أمتلك. فقبل ثلاث أعوام تخلّيت عن أغلب ثيابي ومفروشاتي، وقبل عام تخلّيت عن كلّ ثيابي وما بقي من أثاث. منحت كلّ قمصاني وسراويلي وأحذيتي لأشخاص أعرفهم… تماماً كما تتخلّى الناس عن حيواناتها الأليفة؛ بكلّ حرص.
لا أرغب بالاحتفاظ بشيء، فالاقتناء مؤلم.
تعلّمت أنّ الحياة بطبيعتها تروم تنظيف غبار تراكم الأشياء عن النفس. سياستي منذ أربعة أعوام، أن أحتفظ بأقلّ ما يمكن، فأخاف أقلّ ما أضطر… بنطال واحد، قميص واحد، سترة واحدة، حذاء واحد، تراني فيها في كلّ الاجتماعات والمناسبات وغير المناسبات. وهكذا أنا، من قبلني على حالي فاز.
اكتشفت أنّ استسهال التخلّي أقلّ إيلاماً من وجع الفقد، واتضح أنّ فلسفلة التخلّي أقل بألمها من ألم الاقتناء.

قبل عام تقريباً انكسر الكأس، الكأس الواحد الذي أشرب فيه الماء والشاي والقهوة والعصير والنبيذ، انفجرت أجزاءه كالبركان إذ كان من الكريستال… وانفجرت معه دهشتي. واكتشفت، أنّه إن كان اقتناء الكثير من الأشياء مؤلم، فإن خسارة الشيء الوحيد أكثر إيلاماً. إذ إن كنت أقتني من ذات الكأس عدّة نسخ لما حزنت… لكانت توزّعت قيمة هذا الكأس العاطفية على جميع نسخه. لكن وقد اقتنيت واحداً فقط؛ فقد حاز في نفسي على كلّ اهتمامي، ولمّا فقدّته اختفى من الوجود.
وخرجت بخلاصة، أنّنا فقدنا قيمة أغلب الأشياء لكثرتها من حولنا. استهترنا واستبطرنا طالما بين أيدينا الكثير من الخيارات… واقتنيت كأساً آخر، وعاملته بكلّ الحبّ، ولن أشرك وجوده في حياتي أيّ كأس آخر، إلى أن نفترق. وهكذا أكون أكثر حرصٍ على وجوده.
اترك تعليقًا