هذه حكاية أوّل إمارة كردية أبدأها بالخلفية الدينية والتاريخية ثمّ أسير بتاريخها السياسي حتّى القرن 19.
خلفية تاريخية
قبل 3500 سنة نشأت في المنطقة ما بين شمال سوريا المعاصرة وتركيا مملكة نعرفها اليوم باسم مملكة ميتّاني، واسمها هذا تحوير عن اسمها باللّغة الحثّية ”مي-إت-تا-ني“. أمّا اسمها المحلّي فكان حَنِرَبّات 𒄩𒉌𒃲𒁁. وتحدّث أهل هذا البلد اللّغة الحورية (حُرّيه أي غير المدنيّة (حُرّ= بادية)) وهي لغة يقال أنّها من بنات الأرمينيّة القديمة لكنّها تميّزت بأنّها لغة أهل البادية والرعاة دوناً عن سكّان المدن. وفي فرضية ثانية يُعتقد أنّ الحوريّين هم بدو المورو أسلاف العرب، ولا علاقة لهم بالأرمن.
عاشت مملكة حَنِرَبّات الميتّانية نحو ثلاث قرون وامتدّت أراضيها من أشّور شرقاً حتى كامل گليگيا غرباً، ومن منابع الفرات شمالاً حتى أوگاريت جنوباً. فكانت تمثّل النصف الشمالي من أسوريا. وكانت هذه المملكة على علاقة طيّبة بالمملكة المصرية آنذاك، حتّى تناسبت أسرتيّ العروش بالزواج، وكانت حدود المملكة المصرية تنتهي في ذلك الوقت على مشارف أوگاريت في وادي العاصي.
المهمّ من الموضوع هو ديانة هذه المملكة الميتّانية حَنِرَبّات، التي استمرّت فيها شعوب المنطقة تعبد الشمس ”مَي“ على الديانة السومريّة القديمة، لكن بمذاهب وفلسفات جديدة، والمثير في الموضوع هنا هو اعتقاد علماء الأديان بانطلاق الديانة الهندوسية الحالية من هذا البلد ومن عاصمة هذا البلد ”وشّوكَنّي“، ما ترك في الهندوسية حتى اليوم عبادة الربّ ”سوريا“ सूर्य أي الربّ\الربّة الشمس، وكذلك الربّ ”ميترا“ मित्रः حامي الحقيقة ونظام الحياة.
يُعتقد أنّ العاصمة وشّوكنّي كانت على تل فخريّة بالقرب من موقع تل حلف في الحسكة شمال سوريا، ويُعتقد كذلك أنّ اسم المدينة يعود إلى مصدر سانسكريتي هو ”ڤاسوخاني वसुखानी بمعنى ”عرش ڤاسو“ وڤاسو (ڤاشو) كان ربّ الذهب وواهب الثروة في الفلسفات السانسكريتية، وبقي من تراثه بيننا الكلمة كلمة ڤازه طالما كان ڤاسو يمنح الثروة في جرة تفيض ذهباً.
زالت المملكة الميتّانية حَنِرَبّات خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد (أي قبل نحو 3200 سنة)، لكنّ ديانتها استمرّت في أشكال مختلفة عبر شعوب الهضبة الإيرانية والشعوب الساكنة في شمال سوريا والنهرين، واندمجت عبادة ربّ حَنِرَبّات ”مَي“ في بعض الأديان المحليّة المختلفة كأحد فصولها وفلسفاتها، وتحوّرت معاني وأسماء ”مَي“ لأسماء مختلفة. كما نجد مثلاً تبجيل الإله ”ميثرا“ 𐬨𐬌𐬚𐬭𐬀 في الديانة الزرادشتية الأخمينية في بابل وفي عموم غرب آسيا. وهي الديانة نفسها التي استمرّت بأشكال مختلفة في الأناضول والجزيرة وعلى الجانب الغربي من الفرات وحول المتوسط.

الخارطة مقطع من خارطة بعنوان تركيا الآسيوية، من رسم الجغرافي الدنماركي-الفرنسي کنراد مالته-برون Conrad Malte-Brun سنة 1812 وتظهر عليها حدود أيالة شهرزور المعروفة باسم كردستان العثمانية المحصورة ما بين دجلة والمملكة القاجارية، حين كانت عاصمتها مدينة السليمانية، ويمكن تصفّح الخارطة الكاملة هنا go.monis.net/KRDSTN
نشوء أوّل إمارة كردية
في الشمال تطوّر عن الديانة الميتّانية أشكال مختلفة تبعاً لموقع أتباع الديانة ضمن التقسيمات السياسية في ذلك الزمن، وما تسبّبت به الدول المسيطرة على المنطقة من عزلة لبعض الشعوب على أطراف الحدود. بالإضافة إلى أنّ ربط بعض هذه الدول للمواطنة بالديانة واللّغة أجلى بقايا الديانة الميتّانية عن المراكز الحضرية وتركها حيّة فقط حيث المناطق النائية، التي لا تهتمّ الحكومة لنشر التعليم النظامي فيها. ومع تباعد المناطق النائية وعزلتها تحوّلت المذاهب الميتّانية إلى أديان جديدة وبمسمّيات جديدة.
تعرّض أتباع الديانة الميتّانية لاضطهاد شديد خلال حياة المملكة الساسانية، وكان من سنن الساسان فرض تغيير الديانة واللّغة ونمط الحياة على مواطني الدولة بما يتوافق مع وجهة نظر رأس المملكة، تماماً بما يشبه منطق الدولة القومية المعاصرة المؤسّسة على أسس فرنسا البوناپرتية وتركيا الأتاتركية… في الفترة الساسانية أطلقت الحكومة تسمية ”إيزيدي“ أو ”إيزيديان“ على من تبع الديانة الميتّانية، وهي كلمة فارسية پهلوية معناها ”عبد الخالق“. وتنحدر كلمة إيزيدي من الكلمة الپهلوية ”يزد“ بمعنى البداية أو الخلق، وهي كلمة منحولة عن كلمة فارسية قديمة هي ”يزته“ بذات المعنى. وهذه الكلمة هي سبب ورود اسم الملة كذلك بصيغة ”يزدانية“ في المراجع الفارسية.

قُبيل العصر الإسلامي ونهاية العهد الساساني؛ نشأت في منطقة جبل داسن شمال الموصل ملّة إيزيدية متفرّعة عن الميتّانية هي الداسنية، وانتسبت إلى اسم الجبل، فكانت بغالبيّتها من الأكراد والأشوريّين دون أن تنتمي إلى قبيلة واحدة. ومع وصول سلطة الدولة الإسلامية إلى المنطقة تركهم الأمويّون دون التدخّل في شؤونهم الدينية وولّوا عليهم حاكم أذربايجان (أضربايجان)، ثم نصّب عليهم العبّاسيّون أمراء منهم دون أن يتحوّلوا إلى الإسلام، وكان آخر أمراء الداسنية هو ”جعفر بن حسن الداسني“. وكان انتحر جعفر سنة 841 بعد هزيمة لحقت به إثر محاولته الاستقلال عن الدولة العبّاسية. ثمّ صارت الإمارة على مناطق الداسنية لأمراء الموصل القز التركمان، لكن بقي البيت الداسني الكردي على جبل داسن حتّى العصر العثماني.
خلال القرن 16 وبعد سيطرة السلطنة العثمانية على المنطقة منح السلطان سليمان الأول (القانوني) أيالة أربيل (شهرزور) التي ضمّت دهوك وسبران وداسن وما حولهنّ لأمير داسني هو ”حسن الداسني“ واستعان سليمان القانوني كذلك بقوّات الداسنية للسيطرة على وادي النصارى في سوريا فنشأت قرية ”الداسنية“ قرب حمص في سوريا المعاصرة. كما ولّى العثمانيّون ”ميرزا الداسني“ ولاية الموصل سنة 1650 بعد مساهماته الكبيرة في فتح بغداد أمام السلطنة العثمانية… كلّ هذا ولم يكن الداسنية قد تحوّلوا إلى الإسلام.
استمرّ التحالف العثماني-الداسني من القرن 16 إلى أن دخلت العثمانية طور الضعف والانهيار، وخلال القرن 18 نافست الداسنية عشيرة بابان على السلطة وانتقلوا بعاصمة الإمارة إلى مدينة السليمانية سنة 1784. ثمّ فرضت سيطرة بريطانيا على شؤون العثمانية الداخلية تحوّل الأكراد اليزيدية إلى الإسلام بدايات القرن 19، ثمّ أُخضِعت المنطقة سنة 1862 لوالي بغداد. ثمّ خسرت العائلات الكردية سلطاتها تماماً في فترة التنظيمات مع اعتماد قانون الولايات سنة 1864.
انقر هنا لقراءة تاريخ الإمارات الكردية الكبرى
انقر هنا لقراءة تاريخ الإمارة الكردية جبل داسن
انقر هنا لقراءة تاريخ الإمارة الكردية جبل الأكراد، كلّز واعزاز
اترك تعليقًا