في هذه الخارطة نرى متوسّط الحدود التي تعبّر عن الإمارات الكردية الثلاث الكبرى التي اعتمدت اللّغة الكردية لغة رسمية لحكومتها، وعاشت على تقاليد كردية… علماً أنّ هذه الإمارات لم تتحالف، ولم تعتبر وجودها وجوداً قومياً لشعب واحد. والسبب الأساس هو وجود الاختلاف الديني ما بين قواعدها الشعبية.
والإمارات هي:
- إمارة الداسنية التي تأسّست رسمياً في العهد العبّاسي وانتهت سنة 1862، وهي الأطول عمراً بين الممالك الكُردية.
- إمارة هزاراسپيان التي أسّسها السلاجقة سنة 1072 وانتهت سنة 1424، وهي الإمارة الكُردية المسلمة.
- إمارة كلّز المندية (جبل الأكراد) التي أسّسها أيّوبيّي حلب خلال القرن 12 وانتهت سنة 1697.
من التدوينات الثلاث التي نشرتها بخصوص هذه الإمارات الثلاث نستشفّ نقاطاً استنتجها الآثاريّون المؤرّخون للتاريخ الكردي في العصر الحديث سأسردها في هذه التدوينة. وهؤلاء المؤرّخون هم جميعاً من أبناء القرن العشرين ومن المشتغلين في الحقل العلمي الأميركي، حتّى لو كانوا من غير الأميركان. وهذا مؤسف، لا سيّما وأنّ جامعات الشرق الأوسط أولى بدراسة تاريخ شعوبها من جامعات على بُعد محيطات.
وكانت الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية أوّل من درس التاريخ الكردي نهاية القرن 19، ووصلت ذروة تمويل هذه الدراسات سنة 1910، ثمّ تخامدت عقب الحرب العالمية الأولى مع اتّفاقية لوزان والقرار البريطاني-الفرنسي القاضي بإلغاء الدور الكردي على الساحة السياسية. ثمّ تخلّت بريطانيا عن تمويل دراسات التاريخ الكردي لصالح الولايات المتّحدة الأميركية عقب الحرب العالمية الثانية، ولا سيّما مع تأسيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن سنة 1946. وعبر هذا المعهد مرّت أغلب مشاريع تمويل دراسات أكاديمية في تاريخ الكُرد.

أسرد هنا النقاط الأهمّ من تدوينات الإمارات الكردية الثلاث، بالإضافة إلى رأيي الشخصي، الذي خلت منه سردية التدوينات الثلاث السابقة:
يحمل مصطلح “كُرد” في طيّاته الكثير من العوامل المختلفة، التي تشكّل اليوم ما يُعرف بالهوية الكُردية. وهذه العوامل متنوّعة ما بين دينية وعرقية واجتماعية وسياسية، تداخلت فيما بينها ومزجت أقواماً من إثنيّات مختلفة؛ لا يجمعها عرق واحد ولا تراث واحد. فأنتج الامتزاج أخيراً الشعب الكردي.
هذه الطبيعة المتنوّعة لروافد التراث الكردي تشترك بعناصرها مع العديد من الحضارات القديمة في وسط وغرب آسيا، لكنّها لم تنتج بمجملها عن حضارة واحدة، ما يعني أنّ التراث الكردي لا يمثّل استمراراً لحضارة قديمة بعينها، إنّما هو جمع من بقايا مختلفة لعدّة حضارات، لا تشترك في المنبع ولا في المسار.
بحسب كتاب “العصر الذهبي لفارس” لعالم الإيرانيّات السويدي-الأميركي ريتشارد فراي Richard N. Frye. استعملت الحكومات الساسانية والأشكانية كلمة كرد وكردان بمعنى بدوي راحل، وأطلقتها كتوصيف قانوني على جميع المجتمعات البدوية في البلاد.
في الواقع، دخلت كلمة كرد (گرد) اللّغة الفارسية الپهلوية من العربية الأزدية، وكان الخليج العربي في الأساس بحيرة للعرب الأزد. وصارت تعني في الپهلوية “من يحمل حياته على أسفل رقبته” أي البدوي الراحل الذي يحمل حقيبة أغراضه (البقجة) على أكتافه حين يرحل. وكلمة “كُرْدُ” كلمة عربية أزدية تقابل في العربية الفصيحة صفة “مطرود” صفةً للمنفيّين أشتاتاً لا وطن لهم. مشتقّة عن الفعل “كَرْدُ” أي الطرد. والانكراد يساوي الانقراض.
إذاً، صفة كُرد هي صفة عربية غير أعجمية، صارت في اللّغة الفارسية القديمة صفة للبدويّ من لا أرض له، طالما أنّ القانون الفارسي ومنذ العهد الأخمينيّ؛ ربط المواطنة بامتلاك الأرض، وربط الحقوق المدنية بسداد الضرائب عن محاصيل الأرض.
في كتاب “القصد والأمم” للمؤرّخ القرطبي أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري بن عبد البر (من القرن 10) نجد نسبة الكُرد إلى “عمرو بن مزيقياء بن عامر بن ماء السماء” وكان الكُرد آنذاك طائفة واضحة في شمال الأندلس. وشعب مزيقياء شعب مزارع من كهلان اليمن، من الأزد، نزحوا عن مأرب طرداً قُبيل انهيار سدّها، ثمّ استقرّوا على بحيرة غسّان في اليمن ثمّ طُردوا عنها فنزحوا إلى “وادي عك” (وادي مرّ) في منطقة مكّة، ثمّ تفرّقوا منه في البلاد الشمالية، وما عاد لهم مستقرّ. أي صاروا من البدو الرحّل. وإذ ذاك صار لقبهم الكُرد أي الأشتات المطرودين، وما عاد لهم وطن.
من هؤلاء الكُرد القحطان العرب من خدم في عساكر مملكة بسيانُس (الجسياسيّين) في سوريا، ومنهم من خدم الأشكان الپارثيّين والساسان الفرس، وهم بدو صارت صنعتهم الحرب، فصارت كلمة كُرد في أعراف هذه الدول تعني البدو العساكر ممّن لا أملاك لهم. ولغربتهم في هذه الممالك استعملتهم الحكومات على الشعوب المحلّية، فهم أغراب على الحياد. واستعمالهم هذا اقتضى استيطانهم في المناطق التي حكموها.
في القرن الثالث ومع ضغط الساسان على أتباع الملل والطوائف للتحوّل إلى الزرادشتية الساسانية، نزحت العديد من الناس إلى حياة البداوة والتشرّد وانضمّوا إلى سمات الكرد العرب بثقافاتهم وتراثهم، وكان منهم الميتّانيّون والپارثيّون (الساكا) والكرج المجوس والسريان المسيحيّون والفرس من عباد سين والإيلاميّون. إضافة إلى هؤلاء عمّمت الحكومة الساسانية تسمية كُرد على كلّ بدو البلاد فصار اللّر والخُرسان العرب والهياطلة (الپشتون) كذلك من الكُرد… أي المطرودين.
نتيجة هذا التصنيف والاضطهاد الساساني، لا سيّما منع امتلاك الأرض على غير الزرادشتي، امتهنت هذه الأقلّيات المنفية مهنة الكُرد العرب: الحرب. وصارت في خدمة من يدفع أكثر. والدولة سعيدة برميهم حيث يُقتلون دون خوف على خسارة زرادشتي، وامتزجوا جميعاً على نمط حياة واحد تكرّس بالعناصر الثلاث: حياة البداوة والعسكر والتجارة. وبقي كُرد الساسانية بالتالي خارج نظام التعليم العام، ومُنعوا عن الدراسة فانعزلوا عن حياة مجتمعات المدن، وصاروا مواطنين جهلة من الدرجة الثالثة.
مع انتشار الدولة الإسلامية في القرن السابع كان على الأرض مجتمعين يتمايزان تحت صفة الكرد:
- المجتمع الأوّل هم من حافظوا على الديانة الميتّانية وكان اسمهم اليزدانيّين ثم صاروا الداسنية. وهؤلاء نالوا اعترافاً سياسياً بوجودهم في كلا الدولتين الأموية والعبّاسية، وتحالفت معهم السلطنة العثمانية، ولم يتحوّلوا جميعاً إلى الإسلام إلّا في القرن 19. علماً أنّ الكثير منهم مازج ما بين العبادات الإسلامية والداسنية منذ القرن 17.
- المجتمع الثاني هم من تحوّلوا إلى الإسلام باكراً في القرن 10، وأغلبهم كانوا من الكاشيّين على لغة اللّر، ثمّ صارت الناس تسمّيهم الكرد الفيليون (فهیلی). وهذا الرأي لميخائيل گونتر Michael Gunter وهو مؤرّخ أميركي متخصّص في التاريخ الكردي. وهؤلاء عاشوا قروناً على تحالف مع التركمان، وأحد عناصر السلطنة السلجوقية.
إذاً باختصار:
- كلمة كُرد كلمة عربية قحّ، تعني المطرودين أشتاتاً. وهذا لا يعني أن الكُرد المعاصرون هم بالضرورة من العرب.
- الكُرد اليوم هم نسل الشعوب التي شرّدتها الحكومة الساسانية وأجبرتها على حياة البداوة. وهم كذلك من نسل البدو الذين رفضوا الاستقرار في العهد الساساني.
- لا ينتمي كلّ الكُرد إلى الفرس، ولا ينتمي كلّ الكُرد إلى الپارثيّين. الكُرد أخلاط من كلّ الشعوب التي حكمت حضاراتها المنطقة أو خضعت للفرس. إذاً فالكُرد ليسوا بدو الفرس.
- الكُرد المعاصرون لا يمثّلون استمراراً لحضارة ماتت. ولا ينتمون جميعاً إلى حضارة سلفت. بل هم مثال حيّ عن نتائج اضطهاد الحكومات الشمولية لشعوبها وهي بنت الإمبراطوريات الباغية.
- قبل تشكّل الإمارة الداسنية في القرن 7، لا وجود لأي دولة كردية في التاريخ.
- قبل تحالف الكُرد مع التركمان المسلمين في القرن 11، لا وجود لأي دولة كردية مسلمة في التاريخ.
- ساهم السلاجقة بتحوّل أغلب الكُرد إلى الدين الإسلامي، كما ساهموا بانتشار الكُرد، فوطّنوا الكثير منهم منافسة للمسيحية الرومية والأرمنية، لا سيّما حول بحيرة ڤان.
- حيث يقيم الكُرد اليوم لا يمثّل بالضرورة وطناً أصليّاً للكُرد. فهم نسل شعوب امتهنت الحرب، واستوطنت حيث أراد أمراء العسكر.
- حيث حكم الكُرد سابقاً لا يعني أنّ الشعوب تحتهم كانت ذات أغلبية كُردية بالضرورة، وكثير من الشعوب استكردت تحت الحكم الكُردي.
- لم تتشكّل هوية ثقافة واضحة للكرد إلّا في العهد الإسلامي. وبنتيجة الدول التي أسّسها الكُرد في ظلال الإمبراطوريّات الإسلامية.
اترك تعليقًا