كثيراً ما تغيّرت مفاهيم رموز الرايات في التراث العربي، ويُنظر إلى هذا التغيير في المفاهيم نظرة شديدة الحساسية لما له من تأثيرات على القيم المعنوية لاعتبارات المجتمعات وهويّاتها، سواء الدينية أو الوطنية. وكما تأثّرت مفاهيم الرايات عند العرب بتغيّر معاني الرموز ودلالاتها الدينية، كذلك تأثّرت هذه المفاهيم بتراث الشعوب المحيطة؛ والمتخالطة مع العرب.
في اللّغة العربية عدّة كلمات للإشارة إلى الرايات، كالعَلَم والعلامة والإشارة واللّواء والبيرق والبيدق والسنجق والزمبق والزنبق… وغيرها. وكانت بدأت الرايات بالظهور للاستخدامات العسكرية لتمييز تبعيّة الفرق العسكرية، ثمّ عشائرها، ثمّ تخصّصاتها الحربية. ثمّ صارت أداة للتخاطب بين الفيالق والأساطيل. ووسط هذا الاستخدام العسكري تطوّر مفهوم اتّخاذ الدولة لراية تمثّلها، وانتشر هذا المفهوم من جنوب وغرب آسيا لينتشر في عموم الأرض.
أمّا أكثر الرموز استخداماً على الرايات اليوم فهي النجوم والهلال والدائرة والصليب، والنجوم قد تختلف أعداد رؤوسها بحسب المقاصد منها، فقد تعني كوكباً وقد تعني الشمس. وتبدأ حكاية هذه الرموز الأربع في التاريخ المعروف من جنوب العراق. إذ عبد السومريّون الأسرة المقدّسة، واتّخذوا لكلّ فرد من هذه الأسرة المقدّسة رمزاً من النباتات وزهورها وبتلاتها. وتطوّرت هذه الفلسفة مع الدول المتعاقبة والمتطوّرة عن السومريّين فالأكّديّين فالسوبريّين فالبابليّين فالأسوريّين… إلخ.
بدأت الأسرة المقدّسة عند السومريّين بالخالق أنُ 𒀭𒀭 الذي خلق السماء واتّخذها عرشاً، ثمّ خلق النجوم والكواكب (المعبودات). و”أنُ” هو ذاته “إيل” عند الكنعانيين و“إل” عند السبئيّين و“أورَنوس” Οὐρανός و“زِوس” Ζεύς أو “ذو” Ζεῦ أو “ديا” Δία عند الإغريق. وغالباً ما رُمز لهذا الخالق لدى كل تلك الشعوب المتوارثة بالرمز الشمس، كما نقشه السومريّون أوّل مرّة، مع تطوّر التصميم.
ومن سلالة الخالق أنُ عبدت الناس كذلك “سين” أو “سوِن” 𒂗𒍪 الربّ القمر، المعروف كذلك عند السومريّين باسم “نَنّه” 𒀭𒋀𒆠 لأنّه في الأعراف حامي الرزق ومانح لقمة الحياة. واتّخذت الناس له رمزاً الهلال، وأحياناً الدائرة كاملة. واعتُبر سين فيم بعد والداً للمعبودَين “شمش” (الشمس) و“إنَنّه” (عشتار) التي رمز لها أتباعها بالنجمة السداسية تشبيهاً عن زهرة الرمّان وعن شكل شعاع كوكب الزُهرة.
ومن سلالة الخالق “أنُ” عبدت الناس كذلك “دُمُزِد سِپَد” 𒌉𒍣𒉺𒇻 (أي المخلِص البارّ في عربيتنا الحديثة) الذي تحوّر اسمه مع اللّهجات فصار دوموزيد، وديموزيد، ودو-موز، وتمُّز، وتمّوز. واعتقد البابليّون أنّ وظيفته القدسية هي حماية رعاة الحيوانات والعاملين في مهن تربية المواشي. وخلال الفترة الأسوريّة استعملت بعض الشعوب الأسوريّة تاج سعف النخلة كرمز لتمّوز، الذي تحوّل تدريجياً إلى النجمة الثمانية، على عدد سعفات تاج النخلة، ونادوه في صلواتهم بعبارة “أَمَى أُشُمْگال أنّنه” أي ربّ الحياة والنموّ في النخلة. بحسب الأستاذ عامر حنّا فتوحي.
بعد انتشار عبادة القمر والشمس في مصر على الفلسفات العراقية، تعدّدت المرّات التي أشارت دولة مصر إلى ذاتها تارة برمز الهلال وحده مفتوح إلى الأسفل 𓇹 ، وتارة بالنجمة الخماسية 𓇼 ، وتارة بالرمزين معاً هلال يحتضن النجمة الخماسية من فوق. وهو تركيب يعني الشهر ويعني كذلك مملكة. أمّا آخر الممالك الأسوريّة فقد اعتمدت رمزاً لها هلالاً مفتوحاً إلى أعلى يحتضن نجمة ثمانية من صليبين متقاطعين، واحد بأربع رؤوس مدبّبة والثاني بأربع أذرع متماوجة كالماء.

في الصورة ختم أسطواني معروض في متحف المتروپوليتان في نيويورك. والختم من المملكة السومريّة وعمره حوالي 4000 سنة، ونرى عليه الرمز الذي صار فيما بعد رمزاً مقدّساً للإمبراطورية الأسوريّة.

حجر أسطورة منح الأرض الموعودة “لحُنُّبَت-نَنَيه كُدُرُّ” من سنة 1186 ق.م. معروض في متحف اللوڤر في پاريس. ونصبُ “كُدُرُّ” للملك “ميلِشِپَك الأول” (1186-1172 ق.م) يصوّر الملك هو يعرض ابنته على الإله نَنَيّه (نَنّه). يعبّر الهلال عن المعبود سين، وتعبّر الشمس عن المعبود شمش، وتعبّر النجمة عن المعبودة عشتار (ڤينوس). النصب منحوت في الفترة الكيشية ونُقل إلى سوسة إيلام في القرن 12 ق.م.
تطوّر الرايات ورموزها وعلاقتها بالإسلام

هذه الراية الحمراء مشهورة باسم راية القسطنطينيّة، رمز الكنيسة الشرقية البيزنطية، وراية الإمبراطورية البيزنطية الرومانية الشرقية، منذ اعتماد المسيحية ديناً رسمياً للدولة الرومانيّة يوم 7 آذار سنة 321. واستمرّت هذه الراية راية للمسيحيّة السياسية إلى أن درج الصليب لاحقاً على رايات الكنائس الغربية. ومع ذلك، فالهلال مع النجمة كرمز سياسي وديني لم يكن ابتداعاً مسيحيّاً، بل كان رمزاً للدول الهيلينيّة الإغريقيّة منذ القرن الرابع قبل الميلاد، على الأقل، ثمّ استمرّ وجوده مع تحوّل هذه الأنظمة إلى المسيحيّة.
استقرّ الهلال على الدوام رمزاً للدول الهيلينيّة في مختلف أنحاء العالم القديم، ودائماً ما كانت تتوسّطه نجمة، أحياناً بستّ رؤوس وأحياناً بثمانية. في الواقع كان عدد رؤوس نجمة الهلال يشير إلى جنس المعبود في ديانة الدولة، فإذا كانت ست فالدولة على ديانة أنثوية، وإذا كانت ثماني فالدولة على ديانة ذكورية.
مررت قبل عدّة أسطر على سيرة تمّوز الذي اتخذ الناس تاج النخلة رمزاً له. هذا التاج تحوّل لاحقاً إلى نجمة ثُمانية على عدد سعفات النخلة رمز تمّوز الشمس، بينما رُمز لشقيقته عشتار بالنجمة السداسية، رمز الماء والثلج وكوكب الزهرة (إستار). فمن عبد ربّاً ذكراً قدّس الثُمانية ومن عبد ربّة أنثى قدّس السُداسية.
وأمّا الهلال فهو في الواقع رمز للمعبود سين أو ننّه المتجسّد في القمر، والد إننّه-عشتار وشقيقها تمّوز الشمس، لذا فالهلال على الرايات وعبر تاريخه دوماً يحتضن ابنته عشتار أو ابنه تمّوز، ويُرسم تحت النجمة أو على يمينها أو يسارها أو فوقها. وهذه الرموز الدينية العراقية-المصرية القديمة رُفعت على رايات أغلب دول آسيا وشرق أوروبا إلى أن اعتمدتها العثمانية فصارت من بعدها رمزاً للإسلام السياسي، بل وصارت رمزاً عالمياً للإسلام كدين.
قبل المسيحية تماماً كانت راية بيزنطة الرومانية هي الهلال مع نجمة سداسية بلون أبيض على قماش أحمر، في إشارة إلى أنثوية الديانة البيزنطية، وضُرب هذا الرمز على جميع النقود البيزنطية في ذلك الوقت، حتّى استلم قسطنطين السلطة وبدّل تسمية بيزنطة إلى روما الجديدة، فاستبدل النجمة السداسية بثمانية للإشارة إلى ذكورة الديانة، دون تغيير ألوان الراية الحمراء، وبقيت هذه الراية كما هي إلى أن فتح السلطان محمد العثماني مدينة القسطنطينية فاتّخذها راية للسلطنة العثمانية.
ما يعني أنّ راية تركيا المعاصرة هي راية لنفس الموقع الجغرافي طوال 2500 سنة على الأقل ودون انقطاع.
في الواقع كانت راية العثمانية قبل فتح القسطنطينية لا تختلف عن سابقاتها الإغريقيات، ذات الراية الحمراء بهلال أبيض ونجمة سداسية، فلم يتبدّل مع فتح عاصمة المسيحيّة الشرقيّة سوى عدد رؤوس النجمة باستعارة نجمة القسطنطينيّة المسيحيّة لتصبح رمزاً لخلفائها المسلمين. وهذا ما ظنّه القوميّون الأتراك إشارة إلى اعتبار العثمانية إمبراطورية ثامنة في تاريخ الإمبراطوريّات التركيّة، لكنّ هذا الافتراض غير حقيقي في الواقع، فلم يعتبر محمد الفاتح نفسه إمبراطوراً تركيا ولم تكن العثمانية ثامن إمبراطوريات الترك ولم تكن سلطنة تركيّة من الأساس، بل امتداد لسلطنة الروم الإسلامية وناشئة عنها، وجامعة لإماراتها المتفرّقة.

هذه اللّوحة مرسومة في كتاب كتالاني من بداية القرن 14 بعنوان HAYTON, Fleur des histoires de la terre d’Orient. يتحدّث عن حروب الفرنسيّين والمسلمين في المشرق، ونلاحظ أنّ كلا رايات الجانبين تحمل نجمة سداسية على أرضية حمراء، لكن تميّزت راية المسلمين بوجود الهلال المفتوح إلى فوق، ذلك أنّها كانت راية إيلخانات المغول في ذلك الوقت. ويعتقد بعض الآثاريين أنّ الرسّام قد قلب الرايات خطأ ما بين الجانبين.
في فترة الانقلابات على القصر العثماني مطلع القرن 19 (1807-1808) اعتمدت الحكومة الانقلابية (الإنكشارية) راية عثمانية نجمتها من خمس رؤوس، ثمّ لاحقاً مع تدمير المؤسّسة الإنكشارية وبناء الجيش الوطني، عادت الحكومة العثمانية إلى اعتماد راية نجمتها من ثماني رؤوس. ثمّ في عهد التنظيمات وبعد انقلاب الاتّحاد والترقّي على السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1908 عادت الحكومة العثمانية واعتمدت راية نجمتها بخمس رؤوس، هي ذات الراية التي رفعها الانقلابيّون سنة 1807، قبل مئة عام تماماً.



سنة 1923 صارت الراية العثمانية ذات النجمة الخماسية هي راية الجمهورية التركية الجديدة، ثمّ سنة 1936 أعادت الدولة تنظيم مقاسات الراية دون تغيير واضح فيها.

هذه الراية في الصورة ليست راية الدولة الإسلامية. أوّل ما ابتدعها العالم في القرن الثامن عشر، إذ ابتدعتها السلطنة الپشتونية التي دامت من 1709 حتى 1738، وحكمت پشتونستان بالإضافة إلى أفغانستان وأغلب إيران وقرابة نصف پاكستان وبعض تركمانستان… كانت ثورة طائفة دامت عشرين سنة.
على الرغم من أنّ راية المملكة الپشتونية الهوتاكية كانت راية العُقاب ذاتها: مستطيل أسود تماماً دون أية رموز. لكن، درج استعمال هذه الراية في الصورة كإشارة للأسرة الملكيّة الهوتاكية السنّية في مواجهة شيعيّة الصفويّة، التي غلبت الهوتاكية على حسابها.
لاحقاً، وبسبب شيوع صيت الأسرة الهوتاكية كثورة لأهل السنّة على السلطة الشيعيّة، اتّخذت رايتها هذه أغلب الحركات الإسلامية السنّية “الثوريّة” في آسيا كراية للجهاد الإسلامي. كفصائل القِنغاي مثلاً تحت قيادة ما بوفنگ قبل الحرب العالمية الثانية، وحركة طالبان منذ التسعينيات وأخيراً داعش. أو الدولة السعودية قبلها التي اعتبرت وجودها ثورة سنّية على السلطة الصوفيّة العثمانية.
بداية الحكاية: درجاً على العادات النبطية-الرومانية، ثمّ البيزنطية، في تسمية قطع وفيالق الجيش، فقد استمرّت الدولة العربية الإسلامية، في زمن الرسالة ومن ثم الخلفاء الراشدين، بتسمية قطع الجيش على التقليد الروماني، راية ولواء وعلم، وعلى كلّ منها عُقاب: أعلى رتبة عسكرية، وتقابل آمر الفرقة أو الأمير في زمننا.
- راية الدولة الإسلامية كانت قطعة مربعة تماماً من المساحة السوداء، ردّاً على راية قريش البيضاء والسوداء المسمّاة النمرة، أي المنمّرة كرقعة الشطرنج.
- لواء الدولة الإسلامية كان مساحة مستطيلة من المساحة السوداء تماماً كلواء قريش، درجت تسميتها بالعُقاب بسبب رتبة آمرها.
- علم الدولة الإسلامية كان مساحة بيضاء أسماها الرسول محمّد راية العُقاب الصغير، وهذه الأخيرة صارت راية الدولة الأمويّة حتّى أعاد العباسيون العمل بالعُقاب السوداء.
وهكذا نرى أنّ الرايات الإسلامية الأولى لم تحمل أيّ كتابات عليها ولا حتّى رموز، في أيّ من ممالكها وخلفائها.
أمثلة عن الدول التي اعتمدت الهلال والنجمة راية سياسية لها
مملكة البوسپور (البوسفور) Βασίλειον τοῦ Κιμμερικοῦ Βοσπόρου التي منحت اسمها لمضيق البوسفور المعاصر، وهي مملكة إغريقية حكمت القرم والساحل المقابل له على الشرق ما بين سنوات 438 حتى 370 قبل الميلاد حين أزالها التورك الهون، وهي أوّل الممالك الإغريقية التي صكّت الهلال والنجمة على نقودها المعدنية، وكانت نجمتها سداسية.

وكذلك مملكة الپُنطس، كانت مملكة فارسية حكمت كلّ الأناضول وكامل ساحل البحر الأسود. أخذت قرم البوسفور من الأتراك الهون سنة 281 ق.م ثمّ نزلت تحت الجمهورية الرومانية سنة 66 ق.م وبقيت كمملكة تحت الحماية الرومانية لأكثر من قرن إلى أن أزال ملكها نيرون سنة 62 بعد الميلاد. وكانت الپنطس قد صكّت نقودها بنجمة ثمانية تشبه زهرة عبّاد الشمس، مع تنقيط بتشكيل هلال على حافة قطعة النقود.

تطوّر شكل نقود الپنطس في مدينة بيزنطة (لاحقاً القسطنطينية) خلال القرن الأوّل قبل الميلاد.
جيوش الإمبراطوريّة المونگوليّة (المغوليّة) وخلال القرن 13 رفعت كذلك راية فيروزيّة عليها الهلال يتوسّطه قرص دائري هذه المرّة دون نجمة، وكأنّ راية المونگول كانت إشارة للإلهين الزوجين “سين” القمر و”نين-گال” الأرض الأم، دون أولادهم.

الهلال الفضي والنجمة السداسية بلون ذهبي على درع فيروزي يسمّى ليلِوى Leliwa رمزوا كذلك للمملكة الپولاندية منذ العام 1324 ومن ثم الإمبراطورية اللّيتوانية لاحقاً، وحتى القرن 19. وهذه مملكة كاثوليكية.

إذاً فهذه الراية ذات الهلال والنجمة ليست راية إسلامية في الواقع، بل تبادلتها الأديان والدول بثقافاتها المختلفة طيلة آلاف السنين، ولربّما منذ العهد السومري وعلى اتّساع أوراسيا كلها. ولم يبدأ اعتمادها عالمياً كرمز للإسلام سوى من بعد سنة 1970. ففي أواخر القرن العشرين، شاع تفسير النجمة والهلال باعتبارهنّ رمز للإسلام (صـ314)، اعتنقه أحياناً القوميّون العرب أو الإسلاميّون في السبعينيّات والثمانينيّات، ولكن غالباً ما رُفض هذا الرمز من قِبل رجال الدين المسلمين (صـ42) معتبرينه ترميز غير سليم أو لا أساس له من الصحّة.

هذه النجمة الزرقاء هي الراية الرسمية للمذهب الإسلامي الحنفي خلال القرون الوسطى، إذ أنّ المذهب الحنفي فاز بإيمان أغلب الترك منذ القرن الحادي عشر، ولمّا آمن الأحناف بنبوّة سليمان اتخذه الترك قدوة ورمزاً سياسياً واعتبروا ممالكهم امتداد لمملكة سليمان الإلهيّة في الأرض، وخاصّة منهم الأوغوز التركمان. فصار خاتم سليمان على رايات جميع الممالك التركية في آسيا الوسطى والأناضول، وكانت النجمة السداسية كذلك على الكثير من قبور الصحابة في البقيع في المدينة المنورة.
روّاد الصوفية محي الدين بن عربي وأحمد البوني، كليهما يرى أنّ هذه النجمة السداسية الزرقاء هي تمثيل لاسم الله الأعظم، وتعبير عن معنى “الحيّ القيّوم”، ورمز للحياة وتجدّدها بالموت فهي الحياة التي لا تفنى.
من الممالك التي اتّخذت من هذا الرمز راية لها، سلطنة السلاجقة (دولت سلجوقيان)، وهي إمبراطورية تركية-فارسية استمرّت من سنة 1037 حتى 1194، ثمّ تفكّكت إلى العديد من الممالك التي حكمت كلّ منها سلالة سلجوقية مختلفة. واعتمدت السلطنة السلجوقية على قلاعها ودواوينها النجمة السداسيّة بلون أبيض على راية سماويّة (فيروزيّة)، لون الترك المقدس. بينما استعملت أركانها العسكريّة راية النسر ذو الرأسين، بالإضافة إلى رمز سلاح القوس لفيلق البندقدار.

وكذلك بيلق قرمان التركماني، الذي حكم كيلكيا مستقلّاً عن سلطنة الروم الإسلامية، اعتباراً من سنة 1250 حتى 1487 حين اندمج طواعية في السلطنة العثمانية وبايع أمراؤه السلطان مراد سلطاناً على المسلمين (الترك). وإمارة قرمان كانت أوّل دولة تعتمد اللّغة التركيّة لغة رسميّة في الأناضول بديلاً عن الفارسية، وكتبتها بالحرف العربيّ بنظام الكتابة الفارسيّ، وكان من سنن إمارة قرمان انتصاف جيشها مناصفة بين العرب والتركمان؛ خشية الانقلابات. آل قرمان استعملوا على قلاعهم النجمة السداسية بلون أزرق داكن على راية بيضاء.

بالإضافة كذلك إلى بيلق جاندار التركماني، الذي حكم الپنطس على ساحل البحر الأسود مستقلّاً عن سلطنة الروم الإسلامية، اعتباراً من سنة 1292 حتى 1461 حين ضمّه سلاطين بني عثمان إلى ملكهم. آل إسفنديار ملوك جاندار استعملوا على قلاعهم النجمة السداسية بلون أحمر على راية بيضاء.

بيلق تِكة التركماني كذلك، الذي حكم الساحل الجنوبي الغربي للأناضول على البحر المتوسط من مدينة أنطاليا، مستقلّاً عن سلطنة الروم الإسلامية، اعتباراً من سنة 1321 حتى 1423 حين ضمّه سلاطين بني عثمان إلى ملكهم. واستعمل تِكة الفارسيّة لغة دبلوماسية، بينما كان التعليم باللّغة التركية الأوغوزية. بنو تِكة ملوك البيلق استعملوا على قلاعهم النجمة السداسية بلون أحمر على راية بيضاء مع شرائط زرقاء ترمز إلى البحر الأبيض المتوسط.

السلطنة العثمانية اعتمدت النجمة السداسية كذلك رمزاً للدولة إلى جانب الهلال، فكانت رايتها العسكرية حمراء تحمل الهلال البيزنطي بالأبيض تتوسطه نجمة بستّ رؤوس، وكانت خضراء إذا رُفعت على السفن وعلى القواعد البحرية. لاحقاً وعقب فتح القسطنطينية غيّر السلطان محمّد عدد رؤوس النجمة إلى ثمانية التزاماً برمز بالقسطنطينية وأملاً باجتذاب ولاء المسيحيّين من مواطني دولته. ثمّ تحوّلت نجمة الراية العثمانية إلى خمس رؤوس بعد ثورة\انقلاب 1908 كرمز للعلمانية.

سنة 1037 تأسّست الدولة السلجوقية على يد {رُكن الدنيا والدين أبو طالب محمد طُغرُل بك بن میکائیل بن سلجوق} وكان تركمانيّاً، فاعتمد لسراياه الخاصّة في نيسابور هذه الراية الحمراء ذات الهلال والنجمة السداسيّة، وبقيت من بعده راية لكلّ العساكر التي حاربت وراثة عن جيش طغرل بك. وساقت هكذا لتكون راية السلطنة العثمانية، طالما أنّ مؤسّسها {الأميرُ الغازي أرطُغرُل بك بن سُليمان شاه القايوي التُركماني، هو في الأساس من السرايا التركمانية التي أسّسها طُغرُل بك.

آخر الرايات الإسلامية بنجمة سداسية
هذه في الصورة هي راية خانيّة القازاق التركيّة (قازاق حاندىعى) المعروفة اليوم باسم جمهورية كازخستان. وكانت الخانية قد خسرت رايتها هذه بعد وقوعها تحت الاحتلال الروسي سنة 1848. في الواقع قامت الصين بغزو خانية قازاقستان فطلب القازاق مساعدة الجيش الروسي لمقاومة الاحتلال الصيني، فطرد الروس الجيش الصيني واحتلّوا البلد.

راية خانية القازاق هي آخر راية استُعملت فيها النجمة السداسية بعد أن كانت على رايات جميع الممالك الإسلامية التركية، طالما أنّ النجمة السداسيّة كانت رمز المذهب الحنفي ومنذ القرن الحادي عشر.
كما نرى على الراية استعمل القازاق زخرفة إبداعية لرسم النجمة السداسيّة للتميّز عن إمارات الأناضول الإسلامية التي رسمتها بدورها بزوايا حادة. ووضع القازاق النجمة على بساط أزرق هو لون الترك القوميّ، مع ثلاث نجمات خماسية ترمز إلى جوزات القازاق الثلاث.
كانت عاصمة خانيّة القازاق هي مدينة تركستان (تٷركئستان) الواقعة جنوب قازاقستان المعاصرة. وتكوّنت الخانيّة القازاقية من تحالف ثلاث قبائل تركية أدارت البلد فيما بينها بصيغة اتّحاديّة. وأطلقت على قسم كلّ واحدة منها تسمية ” ٴجۇز “ كما تُكتب بالتركية الجغطائية، ومعناها ”قبيلة“ وكتابتها بالعربية الحديثة هي ” إژُز “ بحسب الأبجدية العربية الموسعة، ووردت في التدوينات العربيّة القديمة بصيغة ”جوزه“.
وتسمية ” ٴجۇز “ صارت في الجغطائية بمعنى ”قبيلة“ بسبب التقسيمات العسكريّة التي سبقت الفترة المغوليّة، حين كانت تتقسّم الجيوش إلى فِرق كل فرقة منها من مئة جنديّ، وعلى كلّ مئة منها أمير (بيگ). كلمة ” إژُز “ تعني حرفياً عدد مئة، ثمّ تحوّلت كلّ واحدة من هذه المئة إلى قبيلة لذاتها.
وتقسّمت خانية قازقستان إلى ثلاث جوزات هي:
- ۇلى ٴجۇز (أُلي إژُز) وتعني القبيلة الأعلى مقاماً، كما نقول اليوم في سوريا ”أشرفية“.
- ورتا ٴجۇز (أورته إژُز) وتعني قبيلة المتن (الوسطى)، وتقسّمت إلى ستّ قبائل وكانت الأكبر مساحة.
- كىشى ٴجۇز (كِشِ إژُز) وتعني القبيلة اليافعة (الصغرى)، وتقسّمت إلى ثلاث قبائل.
هذه الراية أعلاه مرسومة في كتابين من القرن 16، هما كتاب ”تاريخ إرَشيدي“ التركي وكتاب ”كتاب الخريطة العظمى“ الروسي.
كتاب ”تاريخ إرَشيدي“ تعني تاريخ الحكم، كتاب بالفارسية كتبه الحاكم التركي لكشمير باسم مملكة كاشغر الويگورية؛ “ميرزا محمد حيدر دُغلت بيگ” الذي حكم كشمير ما بين 1533 و1550. وحيدر كان ضابطاً رفيعاً وأميراً من الدُغلت، قبيلة تركية تحدّثت الجغطائية. والأمير حيدر ابن خالة السلطان بابر الگوركاني الشهير في التاريخ الهندي مؤسّس سلطنة المغول الهندية. وروى حيدر في الكتاب سيرة تأسيس خانية القازاق سنة 1465 كشاهد عين، إذ أنّه مكث لفترة في ضيافة ”قاسم خان“ رابع خانات القازاق.
أطلس ”كتاب الخريطة العظمى“ Книга Большому чертежу كان أطلساً دورياً يصدره جيش الإمبراطورية الروسية للتعريف بالدول التي تهدّد أمن الإمبراطورية الاستراتيجي، واستمرّ صدور هذا الأطلس لصالح القيصر الروسي حتى نهاية الملكيّة في موسكو. وراية القازاق بشكلها هذا مرسومة في الأطلس الروسيّ منذ صدور مخطوط سنة 1552.
خلال القرن 18 بدأت روسيا توسّعها في سيبريا، وكانت آنذاك تُعتبر مجالاً حيوياً للقازاق دون سلطة سيادية عليها، وكانت سيبريا آنذاك خانية للترك السيبير اسمها طورانستان. فبدأت حرب العبيد ما بين الروس والقازاق، يخطف كلّ جانب مواطنين للجانب الآخر ويبيعهم عبيداً في سوق النخاسة. وكان مصدر العبيد آنذاك يقتصر على أسرى الغزوات، ثمّ حوّلها الروس تجارة لتوسيع المستوطنات الزراعية الروسيّة في سيبريا.
سنة 1737 أجازت الإمبراطورة الروسية أنّا إيڤَنّوڤنه Анна Иоанновна تجارة العبيد في سيبريا ما أتاح استعباد جميع السكّان من الترك بمن فيهم القازاق، وسعّرت الإمبراطورة الرجل القازاقي بعشرة روبلات والمرأة القازاقية بستة روبلات. هذه التصرّفات الروسيّة أدّت إلى انطلاق حملات انتقامية قازاقيّة لتحرير العبيد؛ أبادت عدداً من المستوطنات الروسيّة في سيبريا.
سنة 1847 انتهت الحروب الروسية القازاقية بهزيمة قازاقستان وبنفي ملكها ”قِنِسَري“ ليموت في قرغيزستان، فاتّحدت ”أُلي إژُز“ (الجوزة العليا) بخانية قوقند وإمارة بخارى لتشكيل إمارة بخارى الكبرى التي حاربت الروس حتى النهاية، إلى أن سقطت تحت الاحتلال الروسي الكامل سنة 1917. وبزوال مملكة قازاقستان غيّرت قوّات الاحتلال الروسي الراية القازاقيّة فألغت الراية الإسلامية ذات النجمة السداسية سنة 1848 كما بدّلت اسمها إلى جمهورية كازاخستان كي تلائم اللفظ الروسي.
رحلة إبداع النجمة السداسية (نجمة الحكمة) وأطباقها النجمية وفلسفتها ومدلولاتها الفنية (الجمالية والتعبيرية) في الحضارة والفنون التشكيلية الإسلامية عبر العصور.
النص التالي عن الموسوعة الذهبية أسرار كنوز وروائع الفنون التشكيلية الإسلامية عبر العصور. نقلها الأستاذ ماجد حجاب، مدرس مساعد في كلية التربية جامعة الأزهر بالقاهرة قسم التربية الفنية تخصص الرسم والتصوير.
النجمة السداسية الإسلامية (المعروفة بنجمة الحكمة) أحد عناصر ووحدات الأطباق النجمية الإسلامية الزخرفية الهندسية؛ وهي من أهم الإبداعات الفنية في الحضارة الإسلامية. ظهرت في الحضارة الإسلامية لأوّل مرّة منذ أكثر من 1200 عام (فترة الخلافة الإسلامية العباسية ببغداد أحد العهود الإسلامية الأولي والمبكرة) المعروفة بالعصر الذهبي، والتي عرفت فيها مكتبة دار الحكمة حيث حركة الإنفتاح؛ والترجمة من الحضارات الأخرى القديمة وخصوصاً اليونانية؛ والهندية والفارسية.
ونرى النجمة السداسية ظاهرة بوضوح في شمسيات وبواطن عقود جامع أحمد بن طولون من العصر الطولوني بمصر (فترة العهود الإسلامية الأولي والمبكرة عصرالخلافة العباسية)، ثم إتُخذت شعاراً للدولة اللاحقة لها والدولة الفاطمية بمصر، وظهرت بكثرة في شتى منجزات الفنون التشكيلية الإسلامية بهذا العصر من عمارة وخصوصاً المساجد، والتصوير، والفنون الزخرفية الفرعية الآخرى، وكثيراً ما تكون في (أماكن الإلتقاء بالنور والضوء) مثل مأذنة جامع الحاكم بأمر الله، وشمسيات وشرافات صحن الجامع الأزهر.

وقد يرجع ذلك إلي الفلسفة الجمالية عند الفنان المسلم؛ بإعتبارها رمز وإشارة إلي إلتقاء وتكامل المثلثين المتقابلين إلى إلتقاء وتكامل السماء بالأرض؛ أو إشارة وتذكرة بالله العظيم خالق السماء والأرض، وقد إتخذت النجمة السداسية بعد ذلك عبر العصور الإسلامية اللاحقة في كل منجزاتها وإبدعاتها الحضارية في الفنون التشكيلية الإسلامية؛ وتظهر بكثرة في العديد من (الشمسيات؛ ستائرالضوء؛ أو شبابيك الجص؛ أو الزجاج المعشق المؤلف بالجص) كما في الصور، كما تظهر أيضاً النجمة السداسية المضفرة بأسلوب الأرابسك (في إمتداد لا نهائي؛ وتوالد دائم ومستمر إلي ما لا نهاية) وإحاطته بإفريز لفظ الجلالة في صياغة فنية نابعة من تكوين النجمة السداسية في وضع مثلثي متعاكسين؛ كأنها تفسير لمدلولها ولمعناها الذي طالما إستقر في وجدان وبصيرة الفنان المسلم عبر العصور الإسلامية المتنوعة؛ والتي استلهمها في إبداعاته ومنجزاته في شتى الفنون التشكيلية الإسلامية المتنوعة. وتتأكد هذه الرؤية الفنية والفلسفة الإبداعية المتفردة هنا علي شباك جصي شمسي (ما يعرف بستائر النور والضوء) تؤكد صحة ما ذكرته مسبقاً عن فلسفة الفنان المسلم واستعماله وصياغته الفنية لها جمالياً وتعبيرياً.
ومن الغريب بل والشئ العجيب ومن أحد النتائج السلبية للعولمة في العصر الحديث؛ والتي شملت شتي مناحي الحياة؛ منها بالطبع الفنون (الإغتراب الفني والتراثي والحضاري) والتي عمدت فيها مافيا منظمة من لصوص التاريخ والحضارة، إلي تطبيق إستراتيجية ممنهجة ومعروفة لذوبان وإخفاء وطمس وضياع وتشويه وتفتيت الصلات والهويات التراثية والثقافية؛ التي تتسم بالوحدة الأيدلوجية الشاملة والمتنوعة والمتكاملة (الثقافية والحضارية والفكرية والتراثية) وتزويرها لأهداف إستعمارية ماكره؛ وإختلاق تاريخ لها غير حقيقي وهمي وزائف.
اترك تعليقًا