يبدو أنّ في التاريخ الذي درسناه في الكتب المدرسية افتراء على المرحلة الأخيرة من حياة الدولة العثمانية. وهي السنوات العشرة الأخيرة التي سبقت القرار الدولي بحلّ السلطنة العثمانية وفضّ العرش سنة 1922.
ما نقرأه هنا هو دليل على أنّ العثمانية لم تنتهج سياسة تتريك في المنطقة العربية، ولا في أيّ واحدة من أقاليمها ذات الأغلبية غير التركية. حتّى في عهد الاتّحاديّين وبعد سقوط النظام السلطاني مع سقوط السلطان عبد الحميد الثاني. يبدو أنّ الحكومة العَلمانية انتهجت منهجاً ينزل للأقلّيّات عن حقوق قوميّة. وأنا هنا لا أدافع عن منهج الاتّحاديّين بالعموم ولا أعاديه، فسيرة النهج الاستبدادي لحكومة الضبّاط الثلاث معروفة. لكنّ سرد التفاصيل بوقائعها حقّ ومسؤولية على رقاب مدوّني التاريخ.
تُصوِّر هذه الخريطة نسخة فيدرالية للإمبراطورية العثمانية، التي كانت قد اعتُمدت سنة 1910 وباشرت بتنفيذها حكومة حركة الاتّحاد والترقّي. وكان هذا المشروع قد سقط بواقع الحال الناتج عن الحرب العالمية الأولى سنة 1918.

للحصول على نسخة عالية الدقة من الخريطة من مصدرها
في مواجهة القوى الداخلية والخارجية التي تهدّد وجود السلطنة، وعلى إثر انقلاب 1908 الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد الثاني، اضّطر السلطان محمّد الخامس إلى الشروع في مجموعة من الإصلاحات تمنح المزيد من الحكم الذاتي للعديد من الإثنيّات في البلد، وتحويلها فعليّاً إلى دولة فيدرالية تتكوّن من ثلاث كيانات شبه مستقلة:
- تركيا وعاصمتها القسطنطينيّة.
- العربيّة وعاصمتها دمشق.
- رومليا وعاصمتها سلانيك.
بناءً على نظام ملّيت Millet (الملل) الإمبراطوري المعتمد مسبقاً في السلطنة، والذي منح الحكم الذاتي غير الإقليمي للمجتمعات العديدة في الإمبراطورية وسمح لهم بحكم أنفسهم بموجب قوانينهم الدينيّة، شرعت الإصلاحات في إنشاء كيانات إقليميّة مستقلّة (متصرّفيات) على أساس الإثنية، وتحت إدارة قوى أجنبيّة.
هدفت الإصلاحات إلى ترويج فكرة البقاء في العثمانية في الأقاليم الراغبة بالانفصال، ووقف صعود الحركات القوميّة الانفصاليّة داخل السلطنة العثمانية من طريق محاولة دمج غير المسلمين وغير الأتراك بشكل أكبر في المجتمع العثماني تحت راية آل عثمان. وهي كانت مجتمعات عثمانية تحت رعاية دول أوروپية وأميركية مختلفة بكلّ حال.
سنة 1876 أعاد السلطان عبد الحميد الثاني العمل بالدستور العثماني وصارت الدولة ملكيّة دستوريّة يقودها مجلس نيابي، ونشأ عن هذه الفترة تأسيس عدّة أحزاب سياسية. في انتخابات 1908 صار حزب الاتّحاد والترقّي المدعوم من ألمانيا حزب أغلبيّة برلمانيّة، تلاه في عدد المقاعد حزب الاتّحاد الليبرالي المدعوم من بريطانيا. ونتيجة التنازع البريطاني-الألماني داخل الحكومة العثمانية ضغطت بريطانيا على السلطان عبد الحميد الثاني لحلّ البرلمان وتعطيل العمل بالدستور تحت دعوى استعادة الخلافة الإسلاميّة. لكنّ ضبّاط جمعيّة الاتّحاد الترقّي ردّوا بانقلاب خلع السلطان عبد الحميد الثاني وسحب السلطات الحكوميّة بالكامل من منصب السلطان.
بموجب انقلاب 1909 حلّت الحكومة العسكرية حزب الاتّحاد اللّيبرالي فأعاد تنظيم نفسه تحت اسم حزب الحرّيّة والائتلاف للمشاركة في انتخابات 1912.
تقليداً للقيصريّة الألمانيّة Deutsches Kaiserreich شرعت حكومة الاتّحاد والترقّي بتنفيذ مشروع الفدرلة سنة 1910 وكانت آنذاك لم تزل حكومة انقلاب، ثمّ وعقب فوز جمعيّة الاتّحاد والترقّي بأغلبيّة برلمانيّة في انتخابات 1912 اكتسب المشروع شرعيّة برلمانيّة؛ عطّلها انقلاب حزب الحرّيّة والائتلاف Hürriyet ve İtilâf Fırkası المدعوم من بريطانيا، بحركة انقلابيّة عسكريّة سمّت نفسها حركة الضبّاط المنقذين Halâskâr Zâbitân طردت قادات جمعيّة الاتّحاد والترقّي خارج البلاد. وشكّل حزب الحرّيّة والائتلاف حكومة دخلت مفاوضات مؤتمر لندن للسلام سنة 1912.
مؤتمر لندن للسلام London Peace Conference عُقد للتفاهم على نتائج حرب البلقان الأولى وتقاسم أراضي العثمانيّة الأوروپيّة. شاركت فيه كل من: النمسا-هنگاريا، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، إيطاليا، روسيا، والعثمانية… وكان أحد أهداف المؤتمر إبقاء الدولة العثمانية على الحياد فيما إذا اندلعت حرب عالميّة.
ثمّ وفي العام التالي 1913 نظّمت جمعيّة الاتّحاد والترقّي انقلاباً مضادّاً بتهديد السلاح طرد أعضاء حزب الحرّيّة والائتلاف إلى مصر وألبانيا. فتشكّلت حكومة عسكريّة باسم حكومة الباشاوات الثلاث (اوچ پاشلر) عطّلت الديمقراطيّة في البلاد بالكامل وسحبت فريق العثمانيّة من مؤتمر لندن، وأطلقت للضبّاط الألمان مطلق الحريّة في الأراضي العثمانية، وجنّدت قوى الدولة كاملة في خدمة التدخّل الألماني في الحرب العالمية الأولى سنة 1914.
الباشاوات الثلاث (اوچ پاشلر) هم: رئيس الوزراء (الصدر الأعظم) ووزير الداخليّة محمّد طلعت باشا. ووزير الحربيّة إسماعيل أنور باشا. ووزير البحريّة أحمد جمال باشا.
بعد هزيمة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، أعادت بريطانيا حزب الحرّيّة والائتلاف على رأس السلطة ومنحته حرّيّة اعتقال ومحاكمة أعضاء حزب وجمعيّة الاتّحاد والترقّي، الذين حوكموا تماماً بمثل ما حوكم أعضاء الحكومة النازية بعد الحرب العالمية الثانية. واشتغل حزب الحرّيّة والائتلاف آنذاك على تشكيل الحركة التركيّة الوطنيّة Türk Ulusal Hareketi التي أشرفت على تأسيس الجمعيّة الوطنيّة الكبرى بدعم من الولايات المتّحدة الأميركيّة.
وهذه الأخيرة هي التي تحوّلت إلى مجلس الأمّة التركي الكبير Türkiye Büyük Millet Meclisi الذي تطوّر إلى مؤسّسة البرلمان التركي. وهي المؤسّسة التي قامت أخيراً سنة 1922 بإلغاء السلطنة العثمانيّة بشكل رسمي ثمّ طردت آل عثمان جميعاً عن تركيا وصادرت أملاكهم وسحبت عنهم الجنسيّة التركيّة، وكانوا أكثر من 150 شخص.
ونعود إلى تفاصيل مشروع فدرلة الدولة العثمانية، الذي توقّف سنة 1918.
بواسطة إنشاء الأقاليم الفيدرالية الثلاث، جمع شخص محمد الخامس في نفسه المسؤوليات العَلمانية إلى جانب ألقابه الدينية.
- على المستوى العلماني: سلطان التركي (سلطان تركيا) Sultan-i Türkiyé، وسلطان العرب (سلطان العرب) Sultan ul-Ǎrab، وقيصر الروم (إمبراطور الرومان) Qayser-i Rûm.
- على المستوى الديني: أمير المؤمنين (أمير المؤمنين) Amir ul-Mu’minîn، وخليفة المسلمين Khalîf ul-Islâm، وخادم الحرمين الشريفين Xâdim ul-Ħaramayn iş-Şarîfayn.
بقيت القسطنطينيّة عاصمة إمبراطوريّة تعمل كمقرّ لكلّ من البرلمان الإمبراطوري Meclis-i Hümayûn (المجلس الهميوني) والبرلمان التركي Meclis-i Türkî (مجلس إتركي). صارت دمشق مقرّاً للبرلمان العربي Meclis ul-Ǎrab (مجلس العرب) وصارت سلانيك مقرّ البرلمان الروماني Meclis-i Rûm (مجلس إروم).
الإصلاحات، التي يشار إليها باسم الإصلاحات الاتّحادية Islaħât-i Ittiħad، منحت الفيدرالية وضعاً إداريّاً متساويّاً ما بين اللّغات التركيّة العثمانيّة والعربيّة واليونانيّة، بالإضافة إلى الاعتراف الإقليمي بعدد من لغات الأقلّيات بما في ذلك الأرمينيّة والألبانيّة والعبريّة واللادينو والبلغاريّة. وفي حالة اللّغتين التركيّة والعربيّة، تم إنشاء لجان لغويّة بهدف كتابة هاتين اللّغتين بالحروف اللاتينيّة والتحضير للانتقال من النص العربي إلى النص اللاتيني… في عهد محمّد الخامس قبل عهد مصطفى كمال. وهدفت الحكومة العثمانيّة إلى بداية عهد تكون فيه الدولة مزدوجة اللّغة، تركيّة-عربيّة كونها لغات الأغلبيّة من مواطني العثمانيّة سنة 1910.
بموجب هذه الإصلاحات أقرّت الحكومة العثمانية سنة 1910 ما يلي:
اسم الدولة الرسمي:
- بالتركية العثمانية: Devlet Alîyé-i Osmâniyé.
- بالعربية: دولة عليّة عثمانية.
- باليونانية: Το Ανώτατο Οθωμανικό Κράτος.
أقاليم الاتّحاد والقسيمات الإدارية:
- إقليم عربستان. العاصمة دمشق شام شريف. وكانت مدينة ذات أغلبيّة عربية مسلمة. لغة الإقليم الرسمية هي العربية.
- إقليم رومليا وقبرص. العاصمة سلانيك. وكانت مدينة ذات أغلبيّة تركية يهودية. لغات الإقليم الرسمية هي التركية واليونانية.
- إقليم تركيا. العاصمة القسطنطينية. وكانت مدينة ذات أغلبية تركية مسلمة. لغة الإقليم الرسمية هي التركية.
- أقاليم شهريلر الأزاد (المدن الحرّة). وهي مدن ذات إدارة اتّحادية خاصّة بها تصل إلى مستوى الإقليم (مثل مدينة برلين اليوم). وهذه المدن هي: القسطنطينية، دمشق، سلانيك، مكة المكرّمة، المدينة المنوّرة، القدس، بيروت، جدّة، حلب، إزمير، أُسقب (سكوبيا).
يحتوي كلّ إقليم على مناطق ذات حكم ذاتي للأقلّيّات الإثنيّة التي لا تنتمي إلى ملل الأغلبيّة، وتتمتّع كل منطقة حكم ذاتي بامتيازات لغويّة ودينيّة واستقلاليّة إداريّة. وهذه المناطق مع عواصمها هي:
- في الإقليم العربي: متصرّفية جبل لبنان (بيروت)، ومتصرفية فلسطين (القدس)، ومتصرّفية الكويت.
- في الإقليم الرومي: متصرّفية الألبان – أرناؤود (پريشتينه)، ومتصرّفية جَنُوب روملي (يانية).
- في الإقليم التركي: متصرّفية إرمنيستان (أرضروم)، ومتصرّفية كردستان (دياربكر)، ومتصرّفية الپنطس – قره دنيز (طرابزون).
يحتوي كلّ إقليم إلى جانب المتصرّفيّات على ولايات تتبع إدارة الإقليم مباشرة، وهي مع عواصمها:
- ولايات الإقليم العربي: بغداد، البصرة، حلب، الحجاز (جدّة)، الموصل، الشام (دمشق)، اليمن (صنعاء).
- ولايات الإقليم الرومي: الجزائر البحرية (رودس)، كريت (خانيّة)، قبرص (نيقوسيا)، تراكيا (أدرنه).
- ولايات الإقليم التركي: أضنة، أنقرة، إسكي شهر، إسطنبول (قسطنطينية)، قونيا، عثمانية (قيصريه)، قصطموني، سيواس، خُداونديگار (بورصا).
وكان مشروع الفدرلة هو الذي أقرّ تحوّل البلاد عن الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني الألماني، وكان يهدف لدفع كل لغات الدولة لاستخدام الحرف اللاتيني، بما فيها التركيّة والعربيّة واليونانيّة والكرديّة. لكنّ هذا المشروع لم يتحوّل قانون إلّا سنة 1928. ثمّ أحدث مصطفى كمال سنة 1928 {هيئة اللّغة التّركية} التي عدّت تحويل الأبجديّة إلى اللاتينيّة أحد إجراءات التتريك. فحوّلت الأغلبية الساحقة من أهل البلاد إلى أميّين.
وبتاريخ 11 آب أغسطس سنة 1928م تم الشروع بتقديم أوّل درس في تعليم الأبجدية الجديدة في قصر دولمه باهتشه، وكانت البداية مع نواب مجلس الشّعب وكبار موظّفي الدّولة.
واعتبارًا من شهر أيلول سبتمبر اُفتتحت الدّروس، ونظمت المؤتمرات، وشُرع في نشر الأبجدية الجديدة في الصّحف. وإلى جانب ذلك انطلق مصطفى كمال أتاتورك في حملة زيارات واسعة شملت مناطق كثيرة من البلاد، وكلّ منطقة يزورُها يقدّم بنفسه دروسًا في تعليم الأبجدية الجديدة ويَعرض ذلك أمام النّاس على الألواح. وبتاريخ 1 نوفمبر سنة 1928 م صدر قرار رسمي بتبني الحُروف التركيّة الجديدة وتطبيقها، ويوم 3 من الشهر نفسه دخل حيز التّنفيذ. وهذه بعض مواد هذا القانون:
- المادة رقم 1: لقد تم تبني الحروف اللاتينية بدلاً من الحُروف العربية التي كانت تكتب بها اللّغة التركيّة.
- المادة رقم 2: اعتبارًا من نشر هذا القانون سوف يكون لزاما على جميع دوائر الدّولة ومؤسساتها، وجميع الشركات وجميع المؤسسات الخاصة والتّابعة للدولة قَبُول الأبجدية الجديدة وتطبيقها.
- المادة رقم 3: بتاريخ الأوّل من يناير 1929م.ينبغي أن تكون الحُروف التركيّة قد دخلت حيّز التطبيق في المعاملات بجميع دوائر الدّولة.
- المادة رقم 5: يتعيّن اعتبارًا من 2 يناير 1929 طبع الكُتب بالحروف التركيّة.
- المادّة رقم 9: ينبغي استخدام الحروف التّركية في التّعليم في جميع المدارس، ويُمنع التّدريس من الكتب المطبوعة بالحروف القديمة.
اترك تعليقًا