علميّاً اللّغة الأم اصطلاحاً هي اللّغة الشريانية، ما أجمل هذه التسمية! فهي اللّغة التي نبتت في بدنك مع شرايينك، وتكوّنت كلتيهنّ في ذات الوقت. وعلى الرغم من انتبات أغلب الناس على لغة أمّ واحدة. لكن، مع ذلك، للكثير من الناس حول العالم لغتين أم أو أكثر. إذ تتعدّد اللّغات الشريانية في بيوت الزيجات المختلطة، وكذلك في المجتمعات المختلطة؛ متعدّدة الثقافات. كمجتمعات الأقلّيّات والمهاجرين والبلدان متعدّدة اللّغة. وتعدّد اللّغات الشريانية حسن وجميل ومن أروع البيئات لنموّ عقل الإنسان وتوسيع قدراته. إذ تساهم اللّغات بشكل فعّال في بناء شخصيّة الإنسان وطريقة إدراكه للعالم من حوله. “وقد أظهرت العديد من الدراسات أن ثنائيّة اللّغة أو التعدّديّة اللّغوية بشكل عام، بغضّ النظر عن ماهية هذه اللغات، تعزّز من القدرة المعرفية، وتحسّن من التركيز وتقوّي الذاكرة”. (~د. علاء جمعة DW).
اللّغة العربيّة هي ثمرة تطوّر كلّ ما يُعرف باللّغات الساميّة. نتاج تطوّر عشرات آلاف من السنين، في وطنها ودون انقطاع. “العربيّة تلك اللّغة السهلة الممتنعة. الصعبة المستحيلة التي تمدّ لسانها الفصيح للغرباء وتقول لهم لا يكفي أن تقرأوني لتفهموني. أنا لغة الأسرار والأضداد. حتى نحن أبناءها تعاندنا كثيراً. ترفع عصيّ النحو والقواعد في وجوهنا، وتراقب سكوننا وضمّة الفاعل ثم تنصب المفعول به شاهداً علينا. لكنّنا لا نعدم وسيلة في التمرد والمشاغبة، فتغضّ الطرف حيناً وتمنحنا حالات الاستثناء، ثم لا تلبث أن تبتسم وتضمّنا جميعاً بواو الجماعة. وتقول ما كان نتركه لكان وأخواتها. وتخصّص للنساء نوناً مدوّرة بكلّ أنوثة وجلال لتعيد إليهنّ الاعتبار. فلا نستطيع في النهاية إلا أن نعترف أننا عشّاقها الأبديّين بلا إنّ وحيثما ولكنّ. (~آية الأتاسي، الحياة).

في الخارطة نرى مساحات انتشار اللّغات الأمّ الأصلية للشعوب القديمة ملوّنة بحسب تصانيف عائلاتها، وباللّون البنّي في أفريقيا وآسيا عائلة اللّغات الأفريآسيوية وأكثر بنات هذه العائلة انتشاراً هي اللّغة العربية. ولا علاقة للّون البنّي في أميركا الجنوبية باللّغات الأفريآسيوية. الخارطة من تنفيذ سنة 2008 ومصدرها هنا.
يتحدّث الناس في عالم اليوم 7102 لغة حيّة. منها 2301 في آسيا، و2138 في أفريقيا، و1312 في منطقة المحيط الهادئ، و286 في أوروپا.
ومن بين هذه اللّغات الآلاف 12 لغة فقط يعتبرها ثلثيّ سكّان العالم في منزلة لغة أم، تأتي العربية بيهنّ في المرتبة الرابعة، وهذه اللّغات على الترتيب هي:
- الصينية بلهجاتها 1,4 مليار مستخدم.
- الهند-أوردية 588 مليون مستخدم.
- الإنگليزية 527 مليون مستخدم
- العربية 467 مليون مستخدم.
- الإسپانية بلهجاتها 389 مليون مستخدم.
- الروسية 254 مليون مستخدم.
- البنغالية 250 مليون مستخدم.
- الپرتغالية بلهجاتها 193 مليون مستخدم.
- الألمانية بلهجاتها 132 مليون مستخدم.
- اليابانية 123 مليون مستخدم.
- الفرنسية 118 مليون مستخدم.
- الإيطالية 67 مليون مستخدم.
وبينما تنتشر الإنگليزية على المستوى الرسمي في 101 بلد، ينتشر استخدام العربية في 60 بلد، وهي الثانية على مستوى العالم على هذا التصنيف. وأقصد بالرسمي هنا أي أنّها لغة دولة أو لغة أقليّة. ومصدر هذه المعلومات الإحصائية هو CIA’s Factbook.
اللّغة العربيّة ليست لغتي الأمّ ولغة أمّي فقط… إنّها اللّغة التي أتحاور بها مع نفسي وألقي عليها السلام. لغة أحلامي، وطموحاتي، وأمانيّ. هي فعلاً لغة شراييني وبنت دمي. ولست ابناً للغة واحدة في الواقع إنّما أنا من بيئة تعدّدت فيها اللّغات الشريانيّة فصارت كلّها لغاتي الأم، حتّى أنّني تعلّمت الكثير من تفاصيل الحياة أوّل مرّة بغير العربيّة. لكنّني اخترت لي لغة أمّي لغة أم. كمّ هائل من تفاصيل جمال هذه اللّغة البديعة نجده في كلماتها القديمة. والكلمات القديمة هي الكلمات التي تعيش في اللّغة العربية حتّى من قبل ميلادها، ككلمة بنت مثلاً وما فيها تفاصيل مذهلة مليئة بالحبّ.
بِنْتُ هي صيغة التأنيث عن بِنُ، ولكلمة بن شقيقة هي كلمة فن.
الفَنّ هو التفريع من الشيء، مثلاً أغصان الشجرة أفنانها، وأفرع العلوم فُنونها.
أمّا البَنّ فهو الشقّ من الشيء، مثلاً أصابع اليد أبنانها، وشقّوق الجبال بُناها.
وعن فعل البنّ هذا أتت كلمة بِنت، البِنت شقّ من الجسد. شقّة من الروح، وشقيقة القلب. وإذا قال الواحد فينا “يا بنتي” فهو حقيقةً يقصد “يا قطعة مشقوقة منّي”. كم دافئ وحميميّ هذا المعنى. ومن أشكال صرف كلمة بِنت في اللّهجات العربيّة القديمة: بانة وبانَ وبَنَى وبَنَا وبُنيّة وبَنّوتة وبَنّونة وابنة؛ نظيرة لكلمة ابن. وأحياء المدينة أبنانها وبُنونها وبُناها، والبُنى فيها شقوقها، وإعمارها بَنْبَنَتُها وبِناءُها. وإذا استمرّيت لن أنتهي… كم هي عظيمة اللّغة العربيّة. وتحيّة قلبيّة لكلّ من استحظّ بالعربيّة لغة أم.
اترك تعليقًا