تعود تسمية كمّون إلى العربيّة القديمة، الأكّدية والسومرية كَمُونُ 𒂵𒈬𒉡 دون تشديد على الميم (صـ57). وانتقلت منها إلى كلّ لغات العالم فيما بعد، فصارت في الكنعانية كَمّونٌ 𐤊𐤌𐤅𐤍 أو 𐤊𐤌𐤅𐤍𐤉 إذا كانت صفة ولفظها كمّونيّ وكمّونيّن. وعنها بقيت في العبريّة كذلك כמון بنفس اللّفظ؛ كمّون، ثمّ دخلت الإغريقية القديمة بصيغة كُمِنون (كُمِنٌ) κύμινον التي خرجت إلى اللّغات شمال الأوروپية. كل هذا السرد لتوضيح قِدم الكمّون في المنطقة العربيّة وفي التراث العربيّ، وأثره الكبير على الأذواق والصفات.
بدأت زراعة الكمّون في منطقة شرق البحر المتوسط (صـ234)، وأقدم البذور الأثريّة بين أيدينا عُثر عليها في سوريا المعاصرة، وتعود بعمرها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، أي حوالي 4000 سنة (صـ162). وثاني أقدم أثر لبذور الكمّون عُثر عليه في عدّة مواقع أثريّة مصريّة تعود إلى الفترة المسمّاة “المملكة المصريّة الحديثة” الّتي امتدّت رقعتها من حدود الصومال حتّى كيليكيا جنوب تركيا المعاصرة. وعمرها حوالي 3500 سنة (صـ206).
في تراث الأكّديّين نجد أنّ الكمّون كاد لا يفارق أيّ وصفة طعام أكّديّة، وكان في عرفهم كذلك مشروب لتهدئة النفس وطرد آثار تعب اليوم (أوساخ الروح) لذا اعتبروا مذاق ورائحة الكمّون من النكهات المحبّبة للخالق وللملائكة. واستعملوا لطحن الكمّون هاوناً حجريّاً أطلقوا عليه تسمية إرو أو إرُّ، وعرفوا نوعين من بذور الكمّون هي: الكمّون الشائع (الأخضر) “كَمُونُ”، والكمّون الأسود “زِيبُ” أو “ذِيبُ”.
وفي تراث المصريّين نجد أنّهم استعملوا الكمّون بكثرة في طعامهم كذلك، واستعملوه كأهمّ مادّة حافظة للتحنيط، إذ كانت الأجساد تدهن بمسحوق الكمّون في ختام مراحل تحويلها إلى مومياء، وتترك كميّة من بذوره كذلك في الأكفان (PDF). وتشارك المصريّون القدماء والإغريق عادة ترك مسحوق الكمّون على المائدة، تماماً كما نفعل اليوم مع الملح والفلفل. وعُثر على آثار لهذه الممارسة كذلك في المغرب العربيّ في الفترة التي تسبق العهد الروماني. واستمرّت هذه العادات في الإمبراطورية الرومانية حتّى صار الطعام لا يؤكل دون كمّون، بالإضافة إلى عادة الرومان بفرك الأجساد بالزيت والكمّون قبل المواقعة الزوجية.
المؤرّخ في تاريخ الطعام آدم مَسكِيڤتچ Adam Maskevich يعتقد بأنّ الكمّون هو الرحّالة الأوّل حول العالم، إذ أنّه التابل الوحيد الذي عَثر عليه في جميع مطابخ العالم بلا استثناء، من سومر والثقافة المينوية القديمة على جزيرة كريت، إلى الصين والهند منذ القديم، وصولاً إلى أميركا المعاصرة. ويكنّي مَسكِيڤتچ الكمّون بـ”تابل القميص المتعرّق” لأنّه لاحظ أنّ أكل الكمّون يحمي الناس من رائحة عرقه في فصل الحرّ.
أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة أريزونا گاري نبهان Gary Nabhan؛ يقول في كتابه: “كمّون، جِمال، وقوافل” أنّه و“بمجرّد تقديمه إلى ثقافة جديدة، يجد الكمّون مكانته عميقاً في المطابخ المحلّيّة، ولهذا هو التابل الأكثر شيوعاً واستخداماً حول العالم.”. في الحقيقة، كتاب نبهان هو نظرة أشمل على تجارة التوابل وعلاقتها بالتاريخ والثقافة. لكنّ الكمّون حصل على مكان في العنوان لأنّه دليل شديد الوضوح على عولمة الطهي، كما يقول الأستاذ نبهان.

في الألواح المسماريّة التي سرقتها جامعة ييل الأميركية من بابل مجموعة تسمّى “لوائح ييل للطهي” وهي نقوش وصفات طهي عراقية تعود إلى سنة 1750 ق.م، وهي أقدم تدوين معروف لوصفات الطهي في العالم القديم. واكتُشف من هذه الألواح أنّ العرب القدماء في العراق أكلوا الطعام حارّاً متبّلاً باستمرار بالكثير من البصل والثوم والكمّون، هذا الثلاثي الذي لا تخلوا طبخة بابليّة من تكراره.
وبعد نحو ألف سنة من تدوين ألواح ييل، احتفل الملك الأسوري “أشُر-نَسِرپال الثاني” بافتتاح عاصمة بلاده الجديدة “نِمرود” شمال العراق. وتذكر النقوش الملكيّة بفخر أنّ الملك قدّم كميّات كبيرة من الكمّون على مائدته كما أنّه احتفل برشّ الضيوف الملكيّين بالكمّون المسحوق، زيادة بالبركة وتعبيراً عن البذخ والثراء. (مصدر).
هكذا نرى أنّ المحلّيّ المعتادَ في منطقة المشرق هو محبّة الكمّون والغرام في استخدامه في الأطعمة والمشروبات، وهو تراث موروث ومعتاد طيل السنين الآلاف الماضية. أمّا كراهة الكمّون فهي ذوق وافد على منطقة المشرق وليس من الأصل فيه. تماماً كتقاليد المحاشي الوافدة في الأساس من وسط آسيا، وليست أصيلة في مطابخ العرب.
في الواقع، الوصفتين الوحيدتين المحلّيّات من وصفات المحاشي في الشرق الأوسط هنّ أحدث وصفة: الكوسا المحشي، التي ظهرت بعد وفادة الكوسا كنبتة من الپيرو. والثانية هي وصفة اليبرق ولفّ ورق العنب، التي ظهرت في إمارة قرمان التركمانيّة بعد تحريم صناعة وتجارة النبيذ في الإمارة، وبدأت تجارة ورق العنب والتشجيع على استهلاكه كتعويض لأصحاب كروم العنب بعد أن فقدوا عائد بيع الخمور من نتاج أراضيهم.
أخيراً، فيم يُعرف تاريخياً باسم “التبادل الكولومبي” ما بين سنتي 1492-1493، اشترى البحّارة الإسپان كميّات من الفليفلة الحارّة والشوكولا، بمقابل كميّة من الكمّون. هذا الأخير أذهل أهل العالم الجديد، بينما أذهلت توابلهم أهل العالم القديم، وتُعرف هذه المقايضة بأنّها البادئة التي أطلقت تبادلاً تجاريّاً هائلاً ما بين العالمين. فلولا الكمّون لما تعرّفنا على كلّ منتجات الأميركيّتين الزراعيّة الرائعة.
المراجع:
Heinrich Zimmern (1915) Akkadische Fremdwörter als Beweis für babylonischen Kultureinfluss (in German), Leipzig: A. Edelmann, page 57.
Oxford Lexico Definition Dictionary.
Nabhan GP (2014). My library My History Books on Google Play Cumin, Camels, and Caravans: A Spice Odyssey. Univ of California Press. p. 234.
Pickersgill, Barbara (2005). Prance, Ghillean; Nesbitt, Mark (eds.). The Cultural History of Plants. Routledge. p. 162.
Zohary D, Hopf M (2000). Domestication of plants in the Old World (first ed.). Oxford: Oxford University Press. p. 206.
Akkadian Dictionary, Association Assyrophile de France.
Encyclopaedia Britannica. 2018. Retrieved 24 February 2018.
Sastry EV, Anandaraj M. “Cumin, Fennel and Fenugreek“. Encyclopedia of Life Support Systems (EOLSS). Retrieved 29 November 2013.
Adam Maskevich. From Ancient Sumeria To Chipotle Tacos, Cumin Has Spiced Up The World.
Gary Nabhan. Cumin, Camels, and Caravans. the University of Arizona Southwest Center.
The Standard Inscription of Assurnasirpal II. Nimrud: Materialities of Assyrian Knowledge Production
Charles C. Mann. 1493 Uncovering the New World Columbus Created
اترك تعليقًا