معالم, تاريخ, دمشق, سوريا

هل تعرف أن اسم قاسيون بين أهله كان ضَرْع دمشق؟

كان جبل قاسيون قد اكتسب قديماً أهميّة دينيّة لدى أهل دمشق لما ضمّه من أضرحة ومزارات. يذكر الباحث أحمد حلمي العلّاف، في كتابه “دمشق في مطلع القرن العشرين” أنّ أهالي دمشق كانوا يزحفون إلى حيّ الصالحية ويصعدون جبل قاسيون بعد عصر يوم الوقفة ويلبّون كما يلبّي الحُجاج على جبل عرفات. فقاسيون وما احتوى من أضرحة ومزارات ومدارس كان جديراً حقّاً بالتقديس.

ومن هذه الأضرحة والمزارات مغارة الجوعيّة التي تقع في أعلى مقبرة الخميسيّات وأسفل كهف النبي ذو الكفل الذي بُني عليه مسجد منذ عقود. ويعود سبب تسميتها بمغارة الجوعيّة إلى أسطورة تُروى من أنّه لجأ إليها أربعون نبيّاً خوفاً من شعبهم ولم يكن معهم إلا رغيف خبز واحد، فلم يزل كلّ واحد منهم يؤثر صاحبه عليه حتّى ماتوا جميعاً من الجوع. وفي القرن 19 سُدّت المغارة وبني على بابها مقام فيه عدد من قبور الصالحين. (2.صـ15).

وتسمية قاسيون في الأصل قاسيٌ، تسمية آرامية عن الكلمة الأكّدية قَسُّ (11) وتعني مقوّس، محدّب، بسبب شكله المدوّر الذي يعرفه أهل دمشق جيّداً. (12). وأمّا ما ذهب إليه الأستاذ ياسين عبد الرحيم في الصفحة 1817 من كتابه “موسوعة العامية السورية” من أنّ تسمية قاسيون تعود إلى قساوة تربة الجبل وصخوره، فغير صحيح ولا يصحّ. لأنّ تسمية قاسيون أقدم من تصريف العرب التهاميّين لكلمة قسا إلى قاسية، أي الأرض التي لا تنبت شيئاً. ثمّ أنّ سكّان دمشق زمن تسمية الجبل كانوا من الآراميّين وما كانوا من التهاميّين.

خريطة أحياء مدينة دمشق 2021
خريطة أحياء مدينة دمشق 2021

أمّا حيّ الصالحيّة الدمشقي فتبدأ حكايته في مدينة نابلس.

سنة 1153 تعاهدت مملكة الشام البوريّة التركيّة مع الملك الفرنسي لويس السابع ومع مملكة القدس الفرنسيّة ونزلت تحت حمايتها، ما مدّ من سلطان الصليبيّين على كلّ الشام وصاروا بوجودهم تهديد حقيقيّ للحجاز ولطريق الحج… هذا التهديد دفع الزنگيّين الأتراك لإزالة المملكة البورية سنة 1154 والانتقال إلى دمشق. (3.صـ568).

في هذه الأثناء نشط الحنابلة في نابلس بالدعوة لمقاومة الفرنسيّين وكان على رأسهم ناشط من بني قدامة من بلدة جمّاعين اسمه أحمد المقدسيّ. اعتاد الناس على تسميته بالشيخ أحمد (4). وبسبب نشاطه المتزايد بالتحريض على الفرنسيّين صدر أمر باعتقاله لإعدامه، فخاف عليه كاتب من المسيحيّين؛ يقال أنّه فرنسيّ ويقال أنّه أرمني، وأخبر هذا الكاتب الشيخ أحمد بالقرار الصادر بحقّه، فهرب الشيخ مع ثلاثة من أهله سرّاً إلى دمشق سنة 1156 (5).

في دمشق فوجئ أحمد المقدسيّ بزوال مُلك البوريّين، ونزل في مسجد أبى صالح في حي القصاع، بين باب توما وباب شرقي، بين الحنابلة في منطقة يمرّ قربها نهر عقربا. ثمّ وصل إلى السلطان الزنگي نور الدين يستجير به فمنحه السلطان الأمان وخصّص له نفقه وقدّم له المكانة والقدرة. هذا الإكرام دفع الشيخ أحمد لإرسال أقربائه إلى نابلس للعودة بكلّ أهله (4).

وبالفعل، نزح بنو قدامة عن نابلس جميعاً ولجؤوا إلى دمشق. وتختلف المراجع في أعدادهم، فقد كانوا بين 40 و150. وبين النازحين من أهل أحمد المقدسي كان طفل بعمر تسع سنوات اسمه عبد الله، وهو الذي نمى في دمشق ليصبح من أشهر منظّري الحنابلة، الذي اشتُهر بين المسلمين باسم ابن قدامة الدمشقي. الشيخ موفق الدين أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن قدامة بن مقدام العدوي القرشي المقدسي. (6.صـ165-173).

بعد عام من إقامة بني قدامة شرق دمشق تذمّر منهم آل الحنبلي الدمشقيّين وقد خافوا أن يسلبنهم الوصاية على الأوقاف الحنبليّة… نقل المشكلة إلى السلطان نور الدين الزنگي قاضيه الشافعي شرف الدين بن أبي عصرون، ومدح ببني قدامة، فأمر السلطان بتعيين الشيخ أحمد المقدسيّ فعلاً على أوقاف الحنابلة… رفض الشيخ أحمد القرار وقال ”أنا ما هاجرت حتى أنافس الناس على دنياهم، ما بقيت أسكن هاهنا“ (7.صـ37).

على إثر هذا الخلاف، ترك بنو قدامة حي باب شرقي وانتقلوا إلى مكان على نهر يزيد كان يحبّ الشيخ أحمد النزهة والصلاة فيه. وهو دير قديم مهجور يطلّ على واحة كان يقول لها الدمشقيّون قرية النخل، تشرف على مدينة دمشق وبساتينها. أعاد الشيخ أحمد مع أولاده ترميم الدير وأقاموا فيه، ثمّ أقاموا لهم جميعاً بيوتاً إلى جوار الدير، وكان أول ما بني بيت أحمد بن قدامة، وبيت ابنه أبي عمر، ثم بني بعد ذلك بيت ابنه الموفّق (7.صـ38) ثم بنى الشيخ أبو عمر مدرسته المعروفة بالعمريّة؛ وكانت همّة أبي عمر وعزيمته لا تفتر؛ فبنى مع المدرسة مصنعَ ماءٍ جعله تحتها (7.صـ169) أي ناعورة، ولم تزل قائمة إلى اليوم.

وببناء مساكن آل قدامة والمدرسة العمريّة نشأت قرية جديدة، ولم تزل هذه النواة الأولى موجودة إلى اليوم باسم حارة الدير، وهي الحارة التي صار أهل دمشق يسمّونها الصالحيّة نسبة إلى مسجد أبي صالح الذي نزل فيه آل قدامة أوّل لجوئهم إلى دمشق (7.صـ26). في نفس الوقت، يحبّ أهل دمشق الاعتقاد بأنّ تسمية الصالحية هي نسبة إلى صلاح أهلها وحسن أخلاقهم، لكنّ أبو عمر بن قدامة نفى ذلك وقال “إنّما هي نسبة إلى مسجد أبي صالح لأنَّا نزلنا فيه أولًا، لا أنَّا من الصالحين” (7.صـ26). ثمّ وصلت أخبار استقرار بني قدامة في واحة قرية النخل فصار النازحون يقصدنها من القدس والجليل فتزايدت البيوت والأسواق، وانتقل إلى جوارهم يقيم معهم من أهل دمشق فاتّسعت قرية الصالحية، وترسّمت في العهد الأيّوبي فصارت الصالحية بحجم مدينة دمشق القرن 13 (10.صـ114-115).

تسمية قرية النخل تعود في الواقع إلى آلاف من نخلات البلح كانت في موقع الواحة، قطعها جميعاً واحد من غزاة دمشق وسقى أرضها بالنفط كي لا يقوم زرع بعدها. ويقال أنّه قازان بن أرغون (محمود غازان) سابع سلاطين الإيلخانية في إيران في أثناء حربه مع المماليك سنة 1299، ويقال كذلك أنّه تيمور لنگ في أثناء حربه مع السلطان المملوكي زين الدين فرج سنة 1400 (8.صـ8). بكلّ حال لهذه النخلات الفضل بسمعة بلح الشام الشهير، وهي نخلات خدمت الدير وخدمها منذ ما قبل المسيحية.

هذه حكاية ميلاد حيّ الصالحيّة الدمشقيّ، الذي عاش صلة وصل ما بين دمشق وفلسطين لعقود طويلة، وحتّى بعد تحرير نابلس وجمّاعين على عهد صلاح الدين الأيّوبي؛ استمرّت الهجرات وصارت الناس تجول باستمرار ما بين الصالحية وجمّاعين، إذ لم يهجر كلّ القُداميّين إلى دمشق مرّة واحدة وبقي منهم شطر في البلدة الأم جمّاعين. فالمهاجرون كانوا قداميّي نابلس فقط. وهكذا صارت القرية ومن ثمّ حيّ الصالحية سوقاً تجاريّة لأهالي فلسطين، فيها أفرع لكلّ تجاراتهم.

لا أستغرب إن تكرّرت حكاية حيّ الصالحيّة آلاف المرّات عبر التاريخ قبل نزوح القداميّة والنابلسيّة إلى دمشق، فجبل قاسيون ومنذ عُمِرت دمشق للناس ملجأ، وهذا سبب تلقيبه بين الدمشقيين القدامى بضَرْعِ دمشق تشبيهاً بضَرْعِ المرأة المرضع.

المراجع:

1. أحمد حلمي العلّاف. دمشق في مطلع القرن العشرين. دار بركات للطباعة والنشر 2008.

2. دوريّة التراث العربي، عـ62.

3. Josef W Meri; Jere L Bacharach. Medieval Islamic civilization : an encyclopedia. New York : Routledge, 2006. p568.

4. Makdisi, G., “Ibn Ḳudāma al-Maḳdīsī”, in: Encyclopaedia of Islam, Second Edition, Edited by: P. Bearman, Th. Bianquis, C.E. Bosworth, E. van Donzel, W.P. Heinrichs. Consulted online on 07 March 2021.

5. Ibn Qudamah, Lam‘at al-I‘tiqad, trans. G. F. Haddad.

6. محمد بن أحمد الذهبي. سير أعلام النبلاء. جـ22. بيروت: مؤسسة الرسالة.

7. ابن طولون. القلائد الجوهرية فى تاريخ الصالحية. جـ1.

8. ابن كثير. البداية والنهاية. جـ14.

9. صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي. الوافي بالوفيات. جـ10.

10. رحلة ابن بطوطة. جـ1.

11. John Huehnergard. Glossary of Akkadian Words. Harvard Semitic Studiese: Volume: 45. Brill 2011.

12. I. J. Gelb. Old Akkadian Writing and Grammar. The University of Chicago Press. Illinois. 1961.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s