في واقع السياسة والسيطرة على المجتمع، غالباً ما يسيطر السياسي على المجتمع مستغلّاً القضايا الدينيّة. والسياسي هنا قد يكون من رجال الدين (أو نساء الدين) أو من السياسيّين اللادينيّين أو العلمانيّين. في كلّ الحالات تلعب مسائل وقضايا الدين دوراً عظيماً في اللّعبة السياسيّة، كما تحتلّ حيّزاً كبيراً من الخطاب السياسي. وغالباً ما يستفيد السياسيّون والزعماء من حالة أسمّيها “الأمّيّة الدينيّة”، أي جهل عامّة الناس لتفاصيل المسائل والقضايا التي يتكلّم فيها الزعماء والسياسيّون من المناحي الدينيّة.
من هنا، يبق الحلّ السليم للمجتمع كي لا يكون مطيّة للسياسي الكذّاب؛ هو محو الأمّية الدينيّة، وتعويم انتشار الفهم العميق للمسائل الدينيّة لمنع السياسيّين من استخدام عناوينها لاستغلال الميول العاطفية التي تتحكّم عادة بقرارات الشعوب. وهذا أمر لا يقتصر على مجتمع بعينه ولا على ملّة بعينها، إنّما نراه سائداً ومنتشراً في كل مجتمعات دول العالم، طالما نالت المعتقدات الدينيّة حيّزاً كبيراً من فلسفات وعادات وأعراف الشعوب.
وقد يعترض هنا أحدهم ويقول بأنّ محو الأمّيّة الدينيّة هو خير للمجتمع وهدف نبيل، لكن كيف لي أن أتعلّم كلّ شيء عن الدين ولديّ حياتي الخاصّة لأعيشها؟ ولديّ فيها هوايات واهتمامات لا تترك لي وقتاً من اليوم لدراسة كل شي عن الدين!
وأنا أتّفق مع هذا الاعتراض. فحين أقول بأنّ على المجتمع السعي إلى المزيد من محو الأمّيّة الدينيّة فلا أقصد السعي لتعلّم كل تفاصيل الدين ومسائله في كلّ أنحاء العالم. فنحن، ولهذه التفاصيل، اختلقنا مهنة وحرفة المتخصّص بالمسائل الدينية (الفقيه)، تماماً كما يختصّ آخرون بالقانون ومسائل الحقوق. لكنّ محو الأمّيّة الدينيّة لا يقتصر على دراسة الحقائق وحفظها، إنّما هو مبدأ وطريقة لكيفيّة الوصول إلى موضوعات نهج الدين والبحث فيها، سيّما تلك التي يستخدمها السياسيّون.
ثلاث بديهيّات لمحو الأمّيّة الدينيّة
في طليعة تطوير هذه الطريقة نجد مثلاً مشروع محو الأمّيّة الدينيّة في جامعة هارڤارد Harvard University، إذ أنّها أطلقت دروس أونلاين تبسّط فهم المسائل الدينيّة إلى ثلاث بديهيّات أساسيّة يجب أن يعرفها الجميع عن الدين:
البديهية الأولى
البديهيّة الأولى هي أنّ الأديان متنوّعة داخلياً على عكس الصورة الشائعة. والقول هنا جدير بالتكرار في أنّ كل دين متنوّع بشكل لا يصدّق. هناك مذاهب كبيرة بالطبع كانقسام الإسلام إلى سنّة وشيعة. وانقسام المسيحيّة إلى الكاثوليكيّة الرومانيّة والأرثوذكسيّة الشرقية والپروتستانتيّة. ولكن هناك اختلافات ثقافيّة كذلك. مثلاً هندوسي وُلد ونشأ في الهند قد يختلف في شعائره الدينيّة أو في فهمه لدينه عن هندوسي وُلد ونشأ في الولايات المتحدة الأميركية. لكن، حتّى على المستوى الإقليمي نجد اختلافات كبيرة كذلك، مثلاً سنّة تركستان يختلفون بمفاهيمهم عن سنّة المملكة العربيّة السعوديّة، وشيعة إيران يختلفون بشعائرهم عن شيعة پاكستان، والإنجيليّون الذين يعيشون في بوسطن يختلفون عن الإنجيليّين الذين يعيشون في نبراسكا أو الذين يعيشون في پنسلڤانيا، على الرغم من تشاركهم نفس العقيدة.
الاختلافات في أنظمة الحكم والتركيبة السكّانيّة ومستويات الدخل ومصادر هذا الدخل، قد تشكّل مفاهيم مختلفة لأعراف الناس ولدينهم الشعبي، أي الفهم الشعبي للدين. ومع هذا سنجد تنوّعاً حتّى داخل أصغر مجتمع ديني، داخل نفس الطائفة من نفس الملّة في ذات البلد ونفس المدينة مثلاً. تجمّعٌ من 100 شخص يصلّون في نفس المكان قد يحتوي على 100 دافع مختلف للتواجد في هذا المكان. قد تجد بينهم أفراداً تخلّوا عن إيمانهم بوجود إله، أو أشخاصاً يعتقدون بما يسمّى هرطقات أتت من خارج ملّتهم ومن خارج دين مجتمعهم كلّه.
كل هذا يقول أنّه حتّى في مجتمع ديني محلّي، لا يمكننا القول بأنّهم جميعاً في هذا التجمّع على صوت واحد. وحين ندرك أنّ الأديان متنوّعة على المستوى العالمي، وحتى على المستوى المحلّي، يجب أن تثيرك الريبة حين تسمع قائلاً يقول “كلّ البوذيّين غير عنيفين” أو “كلّ المسيحيّين الأميركيّين جمهوريّين” أو “كلّ الشيعة إماميّين”… وبالطبع قد يكون صحيحاً هذا القول في مجموعات معيّنة لكن هذه الأحكام هي تعميمات فقط، وهي تعميمات ليست بالدقّة المطلوبة.
البديهية الثانية
البديهيّة الثانية هي أنّ الأديان تتطوّر وتتغيّر بمرور الوقت على عكس الاعتقاد بأنّها ثابتة تاريخيّاً. فالكثير من الناس لا يقدّرون أهمّيّة ما تعنيه حقيقة أنّ دياناتنا موجودة منذ فترة طويلة جدّاً، وهي نتاج سياقها التاريخي. هذا يعني أنّ الأديان والمعتقدات والمذاهب واللاهوت قد تغيّروا بشكل ملحوظ على مدار القرون.
مشروع محو الأمّيّة الدينيّة الذي ذكرته قبل بضع فقرات؛ يستخدم العبودية كمثال، وكيف أنّ أئمّة الأديان الإبراهيميّة الكبرى قد أعادوا تفسير العبودية على مرّ القرون. في البداية برّروها وتسامحوا مع وجودها، واستعملوها كذلك، ولكن الآن في القرن 21 يُصار إلى شجبها واستنكار ممارستها. اللاهوت المسيحيّ يتغيّر كذلك بمرور الوقت، فحتى ما قبل القرن 19 كان من الصعب جدّاً الالتقاء بمسيحي يؤمن بالاختطاف ἁρπαγησόμεθα فلم تكن عقيدة واضحة المعالم بعد. ولكن اليوم، وخاصّة بعد سلسلة Left Behind الشهيرة في تسعينيّات القرن 20، أصبحت هذه العقيدة شائعة جدّاً بين المسيحيّين الإنجيليّين.
مثال آخر نجده في الموقف الديني من الإجهاض. فحتّى سبعينيّات القرن 20 كان يستحيل أن تجد رجل دين من أيّ ملّة إبراهيميّة يبرّر إجهاض جنين؛ ولو في أيّامه الأولى. لكن سنة 1971 أصدر الائتلاف المعمداني لجنوب الولايات المتحدة الأميركيّة قراراً يسمح بإمكانيّة الإجهاض في ظل ظروف خاصّة، مثل الاغتصاب وسفاح القربى، أو بوجود دليل واضح على تشوّه الجنين الشديد، أو في احتمال تلف الصحّة العقليّة والجسديّة والعاطفيّة للأم. وعلى الرغم من تراجع ائتلاف المعمدانيّين الجنوبيّين عن هذا القرار سنة 2003 وإحياء تحريم الإجهاض، لكن بتّ تسمع ذات التبريرات مكرّرة في العديد من مذاهب الأديان الإبراهيميّة؛ منذ السبعينيّات وحتّى اليوم.
كل هذه الأمثلة لإظهار حقيقة أنّ الأديان ليست متنوّعة داخليّاً وحسب، بل وإنّما هي متنوّعة تاريخيّاً. وتخضع باستمرار لإعادة تفسير من قبل أتباعها الأحياء، في كلّ لحظة من الزمن وعبر التاريخ.
البديهية الثالثة
البديهية الثالثة، التأثيرات الدينيّة متأصّلة في كلّ الأبعاد الثقافيّة بدلاً من أن تعمل في مجال خاص من الحياة الاجتماعيّة. وهذه النقطة أكثر تعقيد من سابقاتها؛ بعض الشيء.
غالباً ما نفكّر في الدين على أنّه شيء شخصي. قرار تصنعه أنت كفرد مستقلّ، وكفرد تمارس الشعائر في حياتك الشخصية الخاصّة. لكن في الواقع من المستحيل فصل الدين عن سياقه الثقافي والاجتماعي. بنفس الطريقة التي تكون فيها دائماً العرقيّة، والإثنيّة، والجنس، والنشاط الجنسي (الجنسانيّة)، والطبقة الاجتماعيّة الاقتصاديّة، عوامل في التفسير والفهم الثقافي، وكذلك هو الدين؛ بغضّ النظر عن وجه الطائفة الذي تنظر إليه. في فنّ السياسة وفي آداب الملابس والطعام، دائماً سنجد التأثيرات الدينيّة.
عندما ندرك أنّ الدين هو جزء لا يتجزّأ من الحياة الاجتماعيّة ومغروس في كلّ جانب من جوانب ثقافتنا، ولا ينحصر في عالمنا الشخصي الخاص، ستكون حياة الناس مهيّأة بشكل أفضل لفهم متى تكون هذه التأثيرات الدينيّة حاضرة، ومتى تتدخّل في أحكامنا على الآخرين من حولنا وعلى آرائهم ومنجزاتهم الفكريّة.
في الختام
هذه هي البديهيّات الأساسيّة الثلاث التي أشعر أنها تضع الأساس لكونك شخصاً متعلّماً دينياً، غير أمّي، إذا فهمت أنّ الأديان متنوّعة داخليّاً وتاريخيّاً، وأنّ الدين جزء لا يتجزّأ من كلّ جانب من جوانب الثقافة، فستكون جاهزاً للتعامل مع أيّ موضوع يتعلّق بالدين. ولا أقصد هنا القول بأنّه يجب أن يكون الدين جزء من كلّ شيء. ولكن، شئنا أم أبينا فالدين هو جزء لا يتجّزاً من الواقع والتراث معاً.
عنوان برنامج الدين وحياة العامّة RPL من مدرسة اللاهوت بجامعة هارڤارد، ومن ضمنه مشروع محو الأمّيّة الدينيّة، وهو كما أسلفت مشروع يعمل منذ سنة 2015 على تعزيز فهم العامّة للدين. وأذكر عنوانه لأنّني استقيت محتوى هذه التدوينة من دوراته. https://rpl.hds.harvard.edu
مقال أنصح بقراءته Battling religious illiteracy
اترك تعليقًا