يغيظني دوماً التشويه في تاريخ السريان ونسبتهم إلى غير موطنهم، ثمّ اعتبارهم قوميّة مستقلّة عن العرب. وكلّه من تشويهات المؤدلجين من المستشرقين أو من إساءة فهمهم لتدوينات تاريخ المنطقة العربية. السريان، وعلى الأقل في العهدين الساساني والأشكاني قبل الإسلام، كانوا من العرب. نالوا تسمية سريان أو سوريان انتساباً إلى وطن اسمه أسوريا أو أسورإستان أو سوريستان. الشعب منسوب إلى اسم البلد، وليس العكس.
وهذا الوطن ما كان في سوريا المعاصرة ولا هي الجمهوريّة العربيّة السوريّة من الأصل. دائماً ما يرمي إعلام الجمهورية السورية بنفسه على تراث السريان، ولا علاقة له به، لا جغرافيّاً ولا تراثاً. سوريا المعاصرة هي في الأصل دمج من ثلاث قطع، مقتطعة من الشام وحلب والجزيرة، منحتها فرنسا تسمية سوريه سنة 1864 حين طردت قوّات محمّد علي عنها ثمّ قطّعتها، وأطلقت تسمية سوريه على ما بقي من ولاية شام.
سوريا المعاصرة كانت قبل الإسلام قطعتين، الجنوبية اسمها فنيقيا، والشمالية اسمها إسَوريا، منسوبة هذه الأخيرة إلى اسم المملكة السلوقية قبل الأشكان والرومان.
أسوريا أو أسورإستان هي منطقة العراق المعاصرة، وتاريخياً هي الجزيرة ما بين دجلة والفرات. متنها نينوى التي هي الموصل المعاصرة، ولا علاقة لها بأيّ مدينة غيرها منذ القرن التاسع قبل الميلاد. أمّا السريان أصولاً فهم تغلب وربيعة ومضر وإياد، وجاورهم مزارعون من طيء ومن الأزد، وأطلقت عليهم باقي العرب تسمية سريان نسبة إلى اسم عاصمة ولايتهم الساسانية، سوريستان، وهي اليوم مدينة الكوفة في العراق.
لا يوجد قوميّة سريانية، وربطها بالكنيسة المسيحيّة تشويه للتاريخ، وفصل السريان عن العرب محض افتراء. اسم الكنيسة السريانية منسوب إلى البلد الذي نشأت فيه، لا العكس. لكنّ هذه الكنيسة قبلت في رعيّتها أناساً من شعوب عدّة ولم تقصر خدمتها على السريان فقط.
خلال العهد السلوقي كانت ما تزال سوريا بحدود المملكة الأسورية القديمة قبل الأخمينيّين. ثمّ قسّمها الأشكان الپارثيّون إلى ثلاث وحدات إدارية هي: عرب إستان وأسورإستان وإيلام (سوسيانا). حين صارت السلطة إلى الساسان قسّموا إيلام إلى حوزإستان وميسان، ثمّ خسروا القسم الغربي من عرب إستان للرومان بموجب معاهدة نصيبين سنة 299. وكانت حدود عرب إستان قبلها تسير مع مجرى الفرات.
في الخريطة أدناه تجد أسماء الأستانات الساسانية في القرن السادس، قُبيل الحرب الساسانية-البيزنطية التي طردت فيها الساسانية القوّات البيزنطية عن كلّ المشرق تقريباً فوصلت بحدودها حتّى غرب الأناضول ووسط السودان، وحاصرت القسطنطينية. ثمّ انتهت هذه الحرب العالمية ببداية نشوء الدولة الإسلامية، وهي الحقبة المعروفة في التراث باسم الفتوحات الإسلامية.

الأسماء والخارطة رسمتها وفق النقش الذي تركه منذ القرن الثالث شابور الأوّل (سابور) 𐭱𐭧𐭯𐭥𐭧𐭥𐭩 ثاني ملوك الساسان، والذي احتوى على فِهْرِست بأسماء الأستانات الساسانية وأسماء شعوبها. ومنقوش على كعبة الزرادشت الموجودة اليوم في محافظة فارس في إيران.
وهذا سرد بالبلاد التي عرفت تواجداً ملحوظاً للعرب في الدولة الساسانيّة، كأغلبيّة أو كأقليّة كبيرة. أو عرفت حكماً من ضبّاط عرب في الجيش الساساني أسّسوا لأنفسهم مدناً عربيّة من حولهم. ونبدأ من الغرب نحو الشرق ومن الشمال إلى الجَنُوب:
أران (أردان) عاصمتها جبلة (گَبَلَه). سمّاها الإغريق في العهد الهيليني ألبانيا وأطلق عليها الپهلويّون عدّة أسماء منها آريان وآريا وأران وأردان والمقصود أنّها بلاد العرب، حيث أنّ آران كانت أحد أسماء العرب عند الپارثيّين، نسبة إلى مملكة آريا العربية على نهر المُرغاب، أو العكس.
عرب إستان (عربستان) عاصمتها نِسِبِس وهي اليوم مدينة نصيبين في تركيا. عرفها السريان باسم بيت عربايى وعرفها الپهلويّون باسم أرواستان (أروى إستان، أرڤه ستان) ومذكورة في بعض المصادر العربية باسم عرفه وعربه. وعلى الرغم من وجود مؤسّسات عاصمة الأستان في مدينة نِسِبِس غير أنّ القيادة العسكرية للإستان كانت في قلعة سِسَڤرانُن على الحدود البيزنطية-الساسانية. وهي اليوم على الجانب التركي من الحدود السورية-التركية بالقرب من يزيورت Yazyurdu.
حذيعب (حذياب) ܚܕܝܐܒ عاصمتها مدينة أربيل وهي اليوم في العراق. أطلق عليها الإغريق في الحقبة الهيلينية تسمية أديَبِيني Ἀδιαβηνή وأطلق عليها الپهلويّون تسمية نودشيرَگان أي عرش شيرَگان (شيريخان) خان الشرق. وأطلق عليها البابليّون في القرنين 5 و6 تسمية حَذياڤ. واسم حذيفة العربي منسوب إليها.
أسور إستان (سوريستان) عاصمتها سوريستان هي اليوم مدينة الكوفة في العراق. وهي نفسها بيت أرَمايى ܒܝܬ ܐܪܡܝܐ وهي كذلك بابل وبابيل والإرخ والكرخ وعراق. وهذه الأخيرة تسمية بلسان طيء معناها نهر أو أرض مروية بنهر. أطلق الپهلويّون على أهلها تسمية آسوريگ (آسوريچ) وأطلق عليهم العرب تسمية سوريان. وكان على رأسهم قبيلة إياد العدنانية.

أطلق الساسان على الوحدة الإدارية الشاملة لسوريستان الكبرى تسمية بيه قُباد (ڤيه كَڤات، بيه جواد) وهي اليوم مدينتي الكوفة والنجف وضواحيهم.
حوزإستان (خوزستان) عاصمتها جنديسابور (گُندیشاپور) وسمّاها الپهلويّون ويه-أنطيوك-شابور 𐭥𐭧𐭩𐭠𐭭𐭣𐭩𐭥𐭪𐭱𐭧𐭯𐭥𐭧𐭥𐭩 ويعني: شابور أحسن من أنطاكيَة. أمّا اسمها السرياني قبلها فكان بيت لپط ܒܝܬ ܠܦܛ. وحوزإستان في الأصل هي إيلام وسمّاها السلوقيون سوسياء أو سوسيانا. في عهد سابور الأوّل منتصف القرن الثالث أُجبرت إيلام على ترك السريانية وتبنّي الپهلوية، كما غيّر سابور اسمها إلى حوزإستان، وحوز هي التسمية التي كان يصف بها الپارسيّون أهل إيلام قبل تأسيس الدولة الساسانية. ويُعتقد أن حوز أو خوز منحولة عن اسم الإوزّة قوز كونها كانت أهم صادرات إيلام قديماً.
ميسان (ميشان) عاصمتها مدينة فرات ميسان (ڤهمن أردشير) في العراق. أطلق عليها الپهلويّون تسمية ميشان 𐭬𐭩𐭱𐭠𐭭 والياء فيها صوتها ألف مائلة صوب الياء. واسمها معناه الشمسية أو أهل الشمس أو بلد الشمس، بسبب عبادة أهلها للشمس مي أو ميس. وكان أغلب أهلها آنذاك من طيء.
مژان (مژُن) عاصمتها مژان وهي اليوم مدينة صُحَار في عُمان ومن أسمائها القديمة عُمَانَة. ومژان هي نفسها مجان ومگان، وأطلق الساسان على أهلها تسمية طازِيگان (طاژيگان) أي الطيايا (طاجيگ) وهي أحد أسماء العرب ونسبتها طيء.
أبَارشَاهر (اَبهَرشَهر) عاصمتها نيسابور وهي اليوم مدينة نیشابور في إيران. اسمها الأصلي هو أپَرن خشاهر، أي مملكة الأپارنيّين. سمّاها الجغرافيّون العرب بلاد السحاب، وتُعتبر البلد الذي نشأ فيه تحالف أپارني التركماني المؤسّس للإمبراطورية الأشكانية الپارثية، التي تحوّلت فيها اللّغة الپارثية إلى الپهلوية، باندماج الپارثية بلهجة عربية قديمة قريبة من الآرامية.
گِرمان (كِرمان) عاصمتها شيرَگان وهي اليوم مدينة سيرجان في إيران. يتطابق اسم العاصمة مع اسم أستان حذياب شمال العراق. أمّا كلمة گِرمان فتعني المحاربين أو العساكر بلسان بابل. ولطالما ازدهر الوجود العربي في جنوبها وبخاصّة العرب من الأزد، الذين كانت لهم الإقطاعات الكبيرة في المنطقة قبل أن يُجليهم الساسان إلى الضفة المقابلة من الخليج العربي، إلى مدينة مژان (صُحَار).
مرو (مرگوش) عاصمتها مرو وقد زالت اليوم من الوجود. وهي نفسها مملكة مروة ومروى في التراث العربي. أطلق عليها الإغريق في الحقبة الهيلينية تسمية مرگيانى Μαργιανή وتعني العربيّة، حيث أنّ مرگيان كانت أحد أسماء العرب في الإغريقية ونسبتها مرگ.
هرو (هرات) عاصمتها هرو وهي اليوم مدينة هرات في أفغانستان. وهرو هي نفسها خوراسان وعرفها الپهلويّون باسم هَرِڤ 𐭧𐭥𐭩𐭥 وعرفها الصُغديّون باسم هَريو. وكان اسمها في العهد الأخميني آريا. والعرب موجودون في جنوبها من قبل العهد الأخميني، ثمّ استعان بهم دارا الأوّل عماداً لقوّاته في المنطقة.
مگران (مكران) وعاصمتها تُربَت. وتسميتها مگران منسوبة إلى مگان جارتها الغربية، فالتسمية مگران أضافت الراء البابلية التي تكتب ولا تُلفظ ويقصد منها وجود مدّ في صوت الحرف التالي. فالتسمية مگران معناها المگانيّون. أي أنّهم الشقّ الشرقي من العُمانيّين.
بعد كلّ هذه التفاصيل نلاحظ أنّ انتشار العرب في هذه المناطق لم يبدأه الإسلام، ولا الفتوحات الإسلامية. بل هم منتشرون بشكل طبيعي في بلاد رأوها بلادهم، تشاركوها مع الساكا وغيرهم وساهموا بثقافتهم في تراثها. أمّا كلّ الخرافات عن التعريب والهجرة العربية من شبه الجزيرة العربية بعد الإسلام فمجرّد وهم وقراءة خاطئة للتاريخ.
وبعد كل هذا، كيف تكون السريانيّة غير العربيّة!
اترك تعليقًا