, , ,

القمرية العربية نافذة اليمن إلى قمر السماء

الإعلانات

أحد نوافذ دار الحجر في صنعاء، التقطها في اليمن صيف 1986 الرحّالة الكندي بيرنار گَگْنون Bernard Gagnon. ودار الحجر قصر أثري من القرن 18 صمّمه الوزير المعماري علي بن صالح العماري. وتدوينتي هذه المرّة مَشوَرة بين مفاهيم الجمال العربي وحكاية ميلاد القمريّة الملوّنة البديعة.

أحد نوافذ دار الحجر في صنعاء، التقطها في اليمن صيف 1986 الرحّالة الكندي بيرنار گَگْنون Bernard Gagnon.

والحكاية هنا هي حكاية فن عربي يمني وعراقي أصيل، سلبه حقوقه الفكريّة الفرس وغيرهم بادّعاء أنّه أصولاً من العمارة الفارسية أو الرومانية القديمة. وهو ليس كذلك. وهذه حكاية تعود إلى عمق 4000 سنة في الماضي.

تبدأ الحكاية مع اختراع المصريين القدامى لفكرة النافذة المغلقة التي تسمح لضوء الشمس بالنفاذ إلى داخل الغرفة دون فتحها؛ فلا ينفذ الهواء. إلى جانب النوافذ الفنيقيّة والعراقية التي استعمل فيها الصانع كميّة كبيرة من قطع الزجاج الملوّن الأرمنازي فوصلها مع بعضها لتشكيل لوح النافذة. وكان يُبنى في بدن الجدار مباشرة، دون إمكانية لتحريكه. لكن، في مصر، ابتكر الصانع نافذة صنعها من الحجر الشفاف أو النفاذ للضوء وأطلق الناس عليها تسمية الشمسيّة، لكونها تسمح للشمس بالنفاذ إلى داخل الغرفة. 

الشمسيّة المصرية كانت قطعة مستطيلة من الحجر الشافّ أو الكريستال، تُنحت إلى أن تصبح ألواحاً رقيقة تثبّت في إطار خشبي أو معدني، وتعلّق في فتحات في الجدران، تماماً كالنوافذ المعاصرة. في القرن الأوّل قبل الميلاد ومع فتح الرومان لمصر، انتشرت هذه المنتجات المصرية في ربوع الإمبراطورية الرومانية، وصارت كذلك أحد أهم صادرات الإمبراطورية. ولمّا وصلت هذه الشمسيّات إلى اليمن صارت لها حكاية أخرى.

في اليمن، ومن عهد سبأ، عرف العرب نوافذاً دائريّة صنعوها من المرمر الأبيض الألباستر المستخرج من محاجر شبام الغراس. ولمّا كانوا يعبدون القمر فقد نحتو هذه النوافذ من المرمر الأبيض حصراً وبنقوش جميلة جدّاً حملت رموز عبادات القمر وفلسفاتها. وكان اليمنيّون كذلك يصنعون قباب معابدهم مزيّنة بهذا المرمر الشفّاف المحفور فتنير إلى الداخل مسطوعة بضوء الشمس أو القمر النافذ عبرها. وإذا لم تكن القبّة بكاملها مزيّنة بهذا الرخام، تكون دائرة القمَرة في أعلاها تماماً تعكس صورة القمر بدراً إلى الداخل.

مع وصول فكرة الشمسية المستطيلة إلى اليمن مستوردة من مصر الرومانية، أضاف اليمنيّون إليها طاقة إضافية ركّبوها أعلى الشمسية، وجعلوها بشكل نصف دائرة وحوّروا لها اسم القمريّة عن القمَرة السبئية، إكراماً لمعبودهم القمر. ثمّ تبارى أهل اليمن في أشكال وتصاميم القمريّات، واعتبروا أنّ لها مساهمة مباركة في أجواء البيت. إذ تسمح بوصول يد المعبود المقه إلى داخل البيت لتنقية أجوائه من الخبَث وبثّ البركة فيها. في الواقع شهد اليمن آنذاك تطوّرات مذهبيّة عبدت الشمس والقمر معاً بصيغة تتقرّب من العبادات المصرية والعراقية.

في ذات الوقت كان يتطوّر في العراق فنّ مختلف، نما على تطوير الفكرة الفنيقيّة القديمة في تركيب قطع زجاج ملوّن على بعضها باستخدام إطارات من الخشب أو غيره من المواد، إلى أن تطوّرت إلى تقنية الزجاج المعشّق العربية التي استعملت الجبس بديلاً كإطار لقطع الزجاج الملوّن، والتي انتشرت تباعاً حول العالم. 

منتجات الزجاج المعشّق العراقية انتشرت في العالم القديم تصدّرها الممالك السلوقية والأشكانية والساسانية تباعاً، ثم ومع أخذ الرومان لقسم من الجزيرة انتشرت صادراتها كذلك في ربوع الإمبراطورية الرومانية وعرف القسم الغربي من العالم الزجاج المعشّق الرقّي، وكان آنذاك يُصنع من المرمر بإطار من ألواح وأسياخ الرصاص، وهي التقنية التي نشرها الرومان جنوب أوروپا.

تقنيّة الزجاج المعشّق بالجبس العربية انتقلت من العراق والجزيرة إلى البيزنطيّين والمغاربة في القرن العاشر. ثمّ وصلت اليمن في العهد الأيّوبي في القرن 12 وانتشرت، وكان اليمن يستورد جامات الزجاج الأبيض والأخضر والأحمر والأصفر والأزرق من الشام، ليحلّ محلّ المرمر الأبيض في قمريّات نوافذ منازل الأكابر. وأغلب هذا الزجاج الملوّن كان من صناعة الرقّة وقنّسرين ودمشق.

وعلى الرغم من شيوع قمريّات الزجاج الملوّن في اليمن في القرن 12 لكنّها لم تحلّ مكان القمريّات اليمنية البيضاء تماماً. لكنّ شحّ المرمر اليمني بعد بضعة قرون وتغيّر الذائقة العامّة مع زوال الفلسفات القديمة بفعل حلول الإسلام، ساهم بتحوّل أهل اليمن إلى تفضيل قمريّات الزجاج المعشّق بالجبس على القمريّات الحجرية البيضاء. وفي العهد العثماني واعتباراً من القرن 18 عرف اليمن ازدهار صناعة قمريّات الزجاج المعشّق بالجبس، وانتشرت وشاعت بين الناس.

في القرن 12 وثّق قسّيس ألماني وصول تقنية الزجاج المعشّق إلى ألمانيا وعموم غرب أوروپا، وقام بنفسه بصناعة نوافذ كنيسة القدّيس پانتاليون في كولون. ثمّ تفرّغ لاحتراف صناعة الذهب والزجاج المعشّق بعد سنة 1107. هذا الألماني هو روگير الهيلمارسهاوسيني Rogerus von Helmarshausen نسبة إلى بلدة هيلمارسهاوسين في هيسه الألمانية. وروگير معروف كذلك باسم القسّيس ثيوفيلوس Theophilus Presbyter واستعمله اسماً مستعاراً على كتاباته. 

وكان روگير قد ترك موسوعة ضخمة باللاتينية تحتوي أوصاف تفصيلية لمختلف فنون العصور الوسطى، ومعروفة باسم Schedula diversarum artium أي “قائمة مختلف الفنون”. وقد ترجم إليها العديد من النصوص العربية التي استجلبها من مدينة الرقّة، وشرحت بدقّة تقنيّات صناعة الزجاج المعشّق بالجبس، فانتشرت هذه الصنعة بفضل روگير في دول شمال غرب أوروپا، إلى أن وصلت إلى بريطانيا أخيراً في القرن 17.

أمّا في وسط آسيا ولا سيّما في أوزبكستان، فقد انتشرت بداية صنعة القمرات اليمنية، طالما انتشرت معابد القمر في البلاد قادمة عبر طريق الأرز من اليمن. ثمّ تطوّرت إلى قمريّات الزجاج الملوّن المعشّق بالجبس أسوة بانتشارها من العراق عبر الهضبة الإيرانية إلى وسط آسيا. وهي اليوم جزء أساس من عمارة المساجد ومنذ القرون الوسطى.

وعلى الرغم من تراجع فنّ الزجاج المعشّق بالجبس في العراق منذ سقط تحت الحكم المغولي في القرن 13، ثمّ دمار مدن الجزيرة وصناعاتها على يد دولة إلخان فارس. لكن ازدهار هذه الصنعة في اليمن عاد بالمنفعة على العراق في القرن العشرين. إذا عادت صناعة القمريّات إلى مدينة الفاو على يد الحرفيّين اليمنيّين المهرة، وانتشرت منها في ربوع العراق.

اليوم، لم تزل تختزن اليمن حصيلة كل ذلك التراث العربي القديم، مع كلّ ما رُفد فيه في مصر والعراق والشام. وصنعة القمريّات اليمنية هي آخر ما بقي من هذه الصناعة التقليدية في العالم، وهي تشهد تراجعاً كبيراً مع تغيّر ذائقة اليمنيّين إلى تبنّي أنماط معمارية غرب أوروپية وأميركية حديثة، تماماً كما أصابنا في الشام. وبزوال هذه الصنعة من اليمن تزول واحدة من أهمّ ملامح الجمال العربي وإبداعاته.

شخصياً قرأت عن العديد من المستعربين الذين استقرّوا في صنعاء وما غادروها من بعدها، وقد سحرتهم مناظر ما سمّوه رومنسيّة العرب الآخذة للقلوب. والقمريّات هي أجمل ملامح هذه الرومنسية العربية الرقيقة.

ـ

على هذا الرابط جمعت مختارات لأشكال القمريّات العربية

وهذه مجموعة مقالات وأبحاث أنصح بقراءتها إتماماً للموضوع:

الإعلان
الإعلانات

صورة أفاتار مؤنس بخاري
الإعلانات

تعليقات

رد واحد على “القمرية العربية نافذة اليمن إلى قمر السماء”

  1. صورة أفاتار فضل العراق على علم البصريات – البخاري

    […] قمرة العراقية هي في الأصل عن القمَرة السبئية التي صارت في عهد الإسلام تسمّى قمريّة، وهي طاقة في جدار الغرفة عليها نافذة منحوتة من المرمر […]

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم

%d مدونون معجبون بهذه: