يسخر الكثير من الناس من استعمال الحمويّين لتسمية شلكّات لصنف من فطاير القطايف، ولا يعلمون أنّ التسمية عربيّة عاربة وصحيحة تماماً بمعناها… وليس معناه ما يخطر في بالك.
كلمة قطايف هي التسمية العراقية لما عرفه أهل الشام بأسماء الطيور والأسماك… وفقاً للشكل الذي تتشكّل به القطايف بعد حشوها. والتسمية في الأصل هي للفطيرة التي تصنعها العجينة السائلة بعد شيّها على الصاج. وهذا يعود إلى ما قبل القرن العاشر، طالما أنّه مذكور في كتاب الطبيخ البغدادي الذي تركه ابن الورّاق في القرن 10.

شلكّات الحموية هي صيغة جمع لكلمة شلكّة، صيغة بدوية سريانية تشترك في المعنى مع كلمة سُلُك التي نستعملها تسمية لغطاء الرأس العربي-السومري… شبكة الصيّاد التي كان السومريّ غير الفلّاح يرتديها على رأسه، ثمّ تحوّلت إلى قماش السُلُك في رمزيّة نقوشه. ومع تبدّل المعاني نسي الناس المعنى الأصلي لكلمة شلكّة العربية واستبدلها معنى لصفة غيرها، هي في الأصل كلمة “شلَخة” وتعني بائعة الهوى التي تعرض نفسها في السوق مرتدية شلَخات من الثياب لا تستر كلّ بدنها. والسبب هو إبدال السين بشين، وإبدال الخاء بكاف.
لكلمة شلكّة شقيقات منها كلمة شُلُوق šulūq (شُلُق) وهو اسم لصنف من السمك النهري واردٌ كثيراً في نقوش المنطقة ما بين دجلة والمتوسّط. وكان يُطبخ محشيّاً أحياناً، وهو لربّما سبب تسمية فطاير القطايف بالشلُكّة لأنّها تشبه في شكلها بدن السمكة. يُعتقد اليوم أنّ صنف سمك الشُلُوق هو سمك القنومي Petrocephalus bane أو سمك الفيل الذي عبده بعض المصريّون قديماً. والقنومي هو أحد أصناف سمك الفيل التي كانت بحجم الكف، وعاشت سابقاً في نهر العاصي. اليوم بقي في نهر العاصي سمكة لخّ العاصي، وهي من قريبات سمك الشُلُوق ومن نفس عائلة سمك الفيل، لكن بشكل مختلف.

وعليه فإنّ الشلكّات هي قطايف مشكّلة على شكل سمكة شُلُوق التي كانت شائعة في المطبخ الحموي… في دمشق مثلاً يسمّي الناس هذه القطايف المحشية باسم سَتاتي لأنّها في نظر الدمشقيّين مشكّلة على شكل الستيتيّة، وهو صنف محبوب من طيور الحمام.
في اللّغة المالطية أطلق المالطيّون قديماً على العربيّ تسمية شَلُوك xlokk وهي تحوير مالطي عن الكلمة العربية شَلُوق šalūq والسبب كان أنّ العرب الذين داوموا على زيارة مالطا في مواسم التجارة هم من الذين يأكلون سمك الشُلُوق ويجلبونه معهم للتجارة. ولمّا كان هؤلاء العرب يصلون مالطا مع موسم هبوب الرياح الجنوبية الشرقية فقد بقيت كلمة xlokk إلى اليوم في المالطية تسمية للرياح الموسمية القادمة من جنوب الشرق. وعليه فإنّ كلمة شلُكّات في المالطية القديمة ستعني حرفيّاً العربيّات.
ولأنّ عباد السمك – من قدّسوا الأسماك من العهد السومري عبر العصور وحتّى عهد الأديان الإبراهيميّة – كانوا ينشدون للأسماك في صلواتهم بالغناء والترانيم الدينيّة الجميّلة، فقد بقيت في لغة الپالولہ كلمة شِلُوک بمعنى ترنيمة وصوت التسبيح والإنشاد. ولغة الپالولہ هي أحد اللّغات الأصليّة في پاكستان. والكلمة ذاتها موجودة في السنسكريتية بصيغة شلوكه श्लोक بمعنى “يَطرَبُ” أو “صوتٌ يُطرِبُ”.
ونعود إلى الطعام…
في المطبخ الدمشقي أكلة لذيذة جدّاً يشتهر بها المطبخ الدمشقي عن سائر الشام وتسمّى بسماشكات… وقد لا يخطر في بالك أنّها تعود باسمها إلى كلمة شلكّات التي يستعملها الحمويّين كذلك. فلنمشي في تفاصيل هذه التسمية.

البسمشكات هي شرائح لحم ملفوفة على حشوة من الأرز في شكل يشبه تماماً منطق تشكيل قطايف الشلكّات أو الستاتي، ولأنّ اللّحم لا يلتصق بسهولة التصاق أطراف القطايف، فإنّ شرائح اللّحم تُربط على الحشوة بالخيوط حتّى تتماسك. وكمثل القطايف، تُقلى شرائح اللّحم بعد حشوها.
أكلة البسماشكات هي في الأصل أكلة إيطاليّة وصلت دمشق بطريقة ما، واسمها الأصلي هو بستيكّه دى فيانكو رِپيِينا أرّوتولاته Bistecca Di Fianco Ripiena Arrotolata ومعناها شرحة لحم ملفوفة ومحشيّة. ولم تزل أحد الأكلات الشائعة في المطبخ الإيطالي وبأشكال وحشوات كثيرة ومختلفة شديدة التنوّع. لمّا وصلت هذه الوصفة إلى دمشق في العهد العثماني، لرّبما وُضعت فيها كلمتيّ بستيكّه وشلكّات بجانب بعضهنّ فصارت بستيكّه شلكّات أي فطاير اللّحم المحشيّة، ومع التداول دُمجت الكلمتين فخرجت كلمة بسماشكات.

ولا ننس أنّ الثلث الأخير من العهد العثماني شهد هجرة واسعة من الإيطاليّين إلى البلاد العثمانية، سيّما مدن الإسكندرية ودمشق وحلب وأنطاليا حيث تشكّلت جاليات إيطاليّة واضحة، وبقيت منها بعض العائلات التي حملت الهويّات الوطنية لاحقاً ولم تزل بوجودها إلى اليوم. منها من تحوّل إلى الإسلام ومنها من بقي مسيحيّاً ويهوديّاً كما أتى.
كثرة الإيطاليّين في هذه البلاد دفعت إيطاليا للمطالبة بأنطاليا بعد الحرب العالمية الأولى وكادت أن تأخذها فعلاً مع تقاسم أراضي العثمانية، وهي واحدة من الحوادث التي دفعت حكومة جمال عبد الناصر إلى طرد الإيطاليّين من مصر بالرغم من دعمهم للحركة الناصرية، وبالرغم من تحالف حزب مصر الفتاة مع الفاشيّين الإيطاليّين سنة 1942، وهو حزب كان جمال عبد الناصر والسادات من أعضائه.
بالخلاصة، الشلكّات كلمة عربيّة تعني الفطاير المشكّلة على شكل سمكة الشُلُوق. كلمة جميلة من تراث منطقة المشرق العريق، وأنا أحبّ أكل الشلكّة باليد ولو شرشرت عليها القطر والزيت، وإذا كنت خارج البيت فلفافة من ورق تفي بالغرض. وصحّة لكلّ محبّ.
اترك تعليقًا