لعلّ أكثر ما قبّحت فيه العرب من السلوك هو النكران. فلا يوجد ديانة عربيّة ما أدانت النكران ولا أقسى من التسميات التي وصمت بها العرب في تراثها هذا السلوك. وفي اللّغة والآداب العربية فرق واضح ما بين الإنكار والنكران. فالأوّل محمول؛ وصف فيه الأطبّاء سبل العلاج، أمّا الثاني فمنبوذ هو وسالكه.
في الشرع الإسلامي المبكّر وصف الفقهاء الإنكار باسم كفر المعروف. إلى هذا الحد كره المسلمون الإنكار فجعلنه في مرتبة الكفر بالأشياء. ولعلّه أصدق التعابير في الإنكار، لأنّك إذا أنكرت المعروف غطّيته بالزيف وشوّهت أثره وخدعت به الناس فظلمت صاحبه. أمّا في الآداب العربية فأكثر ما يتداوله الناس في النكران هو تعريف نكران الجميل. وقالت العرب: من ينكر جميل قلبك، ووفائك حتماً سينكر جميل أفعالك، هناك أناس هكذا مهما كنت ودوداً معهم لن يثمر معهم شيء.
كراهة النكران وصلت بالمسلمين إلى مستوى ترسيخ النهي عنه في الحديث الشريف، واعتبره المسلمون سبباً لدخول النار وللعقوبة في الحياة الدنيا ولزوال النعم. ثم يصعّد الإسلام حتّى يُنقل عن رسول الإسلام أنّه قال في خطبة جمعة: “من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، التحدّث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب” وهكذا اعتبر رسول الإسلام أنّ النكران من أسباب الفرقة وهي برمزيّتها كنكران فضل الله. لهذا وصم الفقهاء النكران باسم كفر المعروف.
هذه المبادئ لا نجدها في الإسلام وحده، بل هي كذلك نفسها موروثة ومحمولة في التراث السابئي واليهودي والقمري والزرادشتي والبوذي والتِنگري، واعتبرتها هذه الأديان الشرقية من صُلب الكارما، فإن أنكرْت على الناس الجميل منها أنكرَت عليك الدنيا حقّك بالسعادة وسلبتها منك. وفي التراث العربي أنّ مناكرة الناس تجلب الأهوال. فإذا ناكرْت الدنيا تناكرَتك: أي تجاهلتك وأهملتك.
في التراث البخاري تتكرّر حكاية أمير نكّار بزخارف مختلفة في أديان مختلفة، وخلاصتها أنّ أميراً أثرى من ثراء أبيه وزاد عليه، ثمّ أنكر على معلّمه ومربّيه معروف حُسن الكلمة والأخلاق، فابتُلي بسقم حرمه الاستمتاع بثروته، ومهما دفع من مال ما داواه من سقمه، حتّى خرج مسافراً يبحث عن معلّمه ليشكر له فضله ويعود عن إنكاره ويغتنم مغفرته فيتخلّص من سقمه. وسافر وطال سفره على ألمه، ثمّ وصل متأخّراً حين صادف جنازة معلّمه، وانهار على تراب قبره يرجوه المغفرة ويذكر له أفضاله عليه، حتّى عرفها كلّ الناس من صراخه فزال عنه السقم. ثمّ زالت عنه ثروته بجريرة ما صنعه في معلّمه من حزن بنكرانه الذي ما بدّله في حياته. فعاش الأمير زاهداً فقيراً معدماً ناشراً كلمات معلّمه ذاكراً فضله ومنبّهاً الناس عن ممارسة النكران. وجال شريداً لا يعرف أرضاً مستقرّاً ولا وطناً، يتغذّى بالقليل ما يجود به عليه الناس.
في اللّغة فرق كما أسلفت ما بين الإنكار والنكران.
الإنكار هو مرض عقلي فهو آلية تكيّف تمنحك الوقت للتأقلم مع الأوضاع المحزنة، ولكن يمكن أن يعطّل الإنكار من قدرتك على التصدّي للتحدّيات. وهذه حالات يعالجها الطبّ النفسي.
أمّا النكران فهو على وزن غفران، ضدّ له ونقيض منه. والكلمة في الأصل أتت من الجذر (ن ك ر) وله معان ومقاصد كثيرة. لكنّ الفرع الذي خرجت منه العرب بكلمة نكران هو النُكِرة؛ وهي ضدّ المعرفة.
مثلاً نَكِرْتُ الرجلَ نُكْراً ونُكوراً، وأَنْكَرْتُهُ واسْتَنْكَرْتُهُ، أي رفضت معرفتي به. أو كفرت معرفتي به. أو صنعت ما قتل التعارف ما بيننا.
وقد نَكَّرَهُ فتَنَكَّرَ، أي غيَّره فتغيَّر إلى مجهول. ورجل نَكِرٌ ونَكَرٌ، أي داهٍ مُنْكَرٌ. وهذا أخطر صنف.
النَكِرُ هو أخطر أصناف الناس لأنّه استنكر على الناس المعروف بالنَكارَة. والنَكارَة هي الدهاء. فالنَكِرُ هو شخص يأتمر عليك بدهاء، ثمّ يتسلّل فيك، ثمّ يُمكر بك، ثمّ يأخذ منك، ثمّ إن عاتبته ينكر عليه ما أخذه منك، ويكون قد دبّر سلفاً ما ينويه من النكران، فأوقعك بدهائه.
بادل المعروف بالمعروف لا تبادله بالنكران، وكن سبّاقاً بالمعروف حتّى تَحيد عن النكران. والعُرْفُ ضدّ النُّكْر. يقال: أَوْلاه عُرفاً أَي مَعْروفاً. والمَعْروف خلاف النُّكر. فلا تكن نكرة.
وأختم باقتباس عن ستيڤ مىرابولي أتّفق مع ما فيه “كلّما فهمتُ العقل والتجربة الإنسانية، بدأت أشكّ في وجود شيء اسمه تعاسة؛ لا يوجد سوى النكران.”.
اترك تعليقًا