يتداول الكثيرون هذه الأيّام منشورات حول تاريخ مدينة كييڤ، وأنّها مهد القومية الروسية المعاصرة، هل هذا حقيقي؟ وما هو التاريخ الحقيقي لمدينة كييڤ، عاصمة دولة أوكرايينا، أوكرانيا بالعربية؟ إذ مع أنّ أهل كييڤ يحتفلون بالسنة 482 على أنّها سنة تأسيس المدينة، غير أنّ تاريخها في الواقع يزيد عن ألفيّ سنة. وأقدم أثر بشري فيها يعود إلى 27 ألف سنة مضت.
تقول الأسطورة أنّ من استوطن التلّ المطلّ على نهر دنيپر أوّلاً هم أربعة أشقّاء، كُيى Кий و شُىك Щек و خورىڤ Хорив و لىبيد Либідь شقيقتهم الصغرى. وعن القرية التي أسّستها هذه الأسرة نشأت ونمت مدينة كييڤ، متّخذة من اسم الشقيق الأكبر اسماً لها. مع ذلك لا توجد معلومات دقيقة ومؤكّدة تاريخياّ حول تاريخ نشأة المدينة عن قرية هذه الأسرة.
في خارطة الجغرافي المصري پطولمي (بَطْلُمْيوس) من القرن الثاني نجد العديد من المدن على طول نهر دنيپر، الذي سمّاه پطولمي آنذاك بوروسثىنس Βορυσθένης أي نهر البروس. ويعتقد بعض المؤرّخين أنّ المدينة التي سجّل اسمها پطولمي أزَگَريُم آنذاك هي ذاتها مدينة كييڤ المعاصرة. (1). وأذكر هنا أنّ اسم أزَگَريُم و أزَگَرته هو ذاته الاسم الذي منحه الإغريق لمحافظة أربيل شمال العراق في العهد السلوقي. وكذلك نفس التسمية نالتها المحافظة التي أدارتها مدينة پترا (البتراء) جنوب المملكة الأردنية المعاصرة.
بالعموم، تشير المكتشفات الأثرية إلى أنّ كييڤ كانت مأهولة خلال عهد حضارة تريپيلّيا (گُگُتِني) قبل نحو 6800 سنة، (2) وفي مطلع العصر الحديدي استقرّت في المنطقة قبائل مزارعة؛ أصلها غير واضح، لكنّها مارست الزراعة لأوّل مرّة في المنطقة، كما تناسبت مع قبائل الساكا (السكوثيّين) غير المزارعين، وتعايشت معهم بالتبادل التجاري. وسهول أوكرانيا بالعموم معروفة بأنّها منشأ الساكا ومهد القبائل التركية بالعموم.
عثر الآثاريّون في كييڤ على الكثير من النقود الرومانية المؤرّخة ما بين القرنين الثاني والرابع، ما يجعلها ربّما سوقاً تجارية مارس فيها التجّار الرومان التجارة مع إمارات الساكا المحلّية. في تلك الفترة عاشت على طول نهر دنيپر قبائل تتبع حضارة زَرُبِنتسي، منذ فترة القرن 3 ق.م واستمرّت بالازدهار كقرى زراعية حتّى القرن الأوّل بعد الميلاد، قُبيل فترة نشوء العلاقات التجارية بالرومان، ويعتقد الآثاريّون أنّ أهل قبائل حضارة زَرُبِنتسي الزراعية هم الأصل المباشرة لقبائل السلاوة، المتحوّلة لاحقاً إلى قبائل السلاڤ وإماراتهم.
خلال الفترة ما بين القرنين الثاني والسادس تزايدت هجرة قبائل السلاوة الزَرُبِنتسيّين إلى كييڤ وتحوّلت إلى مدينة صغيرة تتّسع سوقاً ومحطّة للتجارة الدوليّة، وكانت لم تزل تحت حكم إمارات الساكا المختلفة، من خزر (قزّ) وآلان وسرمتيّين وأنتاي وقِميريّين وغيرهم. وكانت العديد من قبائل الساكا الترك تشتري أبناء السلاوة عبيداً للعمل في الحقول بشكل أساسي إلى جانب الخدمات المنزلية. وكان استعباد السلاوة هو السبب الرئيس لنشوء إمارات السلاڤ لاحقاً، بعد أن ثار هؤلاء العبيد على مُلّاكهم.
ثمّ في صيف سنة 482 صارت كييڤ مركز إدارة إقطاعيّة (وحدة إدارة) وصارت لها مكانة معتبرة على مستوى الدولة. وهنا يقال أنّ الأكبر بين الأشقّاء الأربع امتلك إقطاعيّة كييڤ، وصار ينادى بالملك كيى وفق الأسطورة، ما يعني أنّ اسم المدينة تحوّل إلى كييڤ في تلك السنة وما كان قبلها. (3)
في القرن التاسع تحالف الڤايكينگ النورسيّين من السويد مع قبائل الروس (سقالبة البلطيق) ودعمنهم للتوسّع جنوباً للاستيلاء على مدينة كييڤ وإمارتها وتحويلها سنة 879 إلى إمارة الروس الكييڤيّين Роусь التي استمرّت حتى سنة 1240. (4). وفي الواقع نشأت الإمارة الروسيّة في المنطقة من العاصمة نوڤگورود Великий Новгород سنة 879 ثمّ انتقلت بالعاصمة إلى مدينة كييڤ سنة 882. (5). وكانت إمارة كييڤ آنذاك إمارة تحت حكم الڤايكينگ الفرنج، ثمّ استولى عليها الروس بعد عشر سنوات. ومع تحوّل كييڤ إلى عاصمة دولة، ولأوّل مرّة في حياتها، تصاعدت فيها التنمية حتّى بلغت عصرها الذهبي خلال القرنين 10 و12.

استيلاء الروس والنورسيّين على مدينة كييڤ هجّر البقيّة من أهلها من شعوب الترك وترك فيها الموالين من قبائل السلاڤ فقط، وأغلبهم من الزَرُبِنتسيّين، وصارت المدينة لاحقاً قاعدة للتجارة السويديّة-العبّاسيّة طيلة القرنين التاسع والعاشر. وانتشرت إذّاك مخيّمات النورسيّين العسكريّة وقراهم على طول نهر دنيپر، والتقاهم أحمد بن فضلان آنذاك وأطلق عليهم تسمية الفرنج وهي التسمية التي استعملها الڤايكينگ لأنفسهم بصيغة ڤَرَنگ Varangian ذات التسمية الأصل للفرنسيّين الفرانكيّين. (6).
ويعتقد بعض المؤرّخين أنّ الصراع الروسي-الفرنجي على الحكم في إمارة كييڤ كان في الواقع صراعاً داخليّاً داخل مملكة الخزر، وأنّ هؤلاء الروس والفرنج كانوا في الواقع مماليكاً لدى أتراك القز يحكمون باسمهم حتّى العقد الثالث من القرن العاشر. ومن هؤلاء المؤرّخين: الأوكراني أوميليان يوسيبوڤيچ بريتساك Омеля́н Йо́сипович Пріца́к، والفرنسي كونستانتين زوكرمان Constantin Zuckerman، ويستدلّون على آرائهم اعتماداً على الأدلّة الأثريّة المكتشفة في مخطوطات رسائل كييڤ (القرن 10) ورسائل ششتر (وثائق كامبردج) المكتشفة في وثائق جنيزة في القاهرة في مصر.
خلال القرن العاشر يذكر الجغرافيّون العرب والفرس مدينة كييڤ باسم مدينة زانبَت و صانبت و صابط. ومن هؤلاء كان أبو علي أحمد بن عمر بن رسته الأصفهاني، وهو جغرافي عربي من أصفهان، سافر بتكليف من حكّام الدولة السامانية وذكر زانبَت في كتابه الأعلاق النفيسة. بالإضافة إلى أبو سعيد عبد الحي بن الضحاك بن محمود الجرديزي (الگردیزی)، وهو جغرافي أفغاني من غرديز، سافر بتكليف من الدولة الغزنويّة وذكر زانبَت في كتابه زين الأخبار. كما ذُكرت زانبَت في كتاب حدود العالم من المشرق إلى المغرب، كتاب جغرافيا باللّغة الفارسية، نُشر في القرن العاشر لمؤلف مجهول من قوزقان الواقعة الآن في شمال أفغانستان.
المرجع التاريخي الوحيد الذي يذكر إمارة كييڤ الأولى هو الجغرافي العراقي العربي أَبُو ٱلْحَسَن عَلِيّ ٱبْن ٱلْحُسَيْن ٱبْن عَلِيّ ٱلْمَسْعُودِيّ. إذ يذكر كييڤ باسم الدير ويقول أنّ ملكها ملك على كل الملوك السقالبة أي السلاڤ. (7) في الواقع كان اسم الملك الحقيقي آنذاك هو أسكولد ديري óskyldr Dyri، وكان من الفرنج الڤايكينگ النورسيّين.
نوقش تأصيل اسم كييڤ القديم زانبَت من طرف العديد من المؤرّخين الروس والأوكرانيّين، ثمّ نشر المؤرّخ اللّيتواني يولي داڤيدوڤيچ بروكوس Юлий Давидович Бруцкус كتاباً بعنوان: الأصل الخزري لكييڤ القديمة. ناقش فيه بأنّ كلا التسميتين زانبَت وكييڤ من أصل خزري تركي وتعنيان قلعة التلة أو المستوطنة العليا. ويعتقد بروكوس أنّ المركز الخزري القديم لكييڤ يقع في أحد ضواحيها المعاصرة؛ ڤوشهورود Вишгород، الواقعة إلى الشمال من مركز مدينة كييڤ.
بكلّ حال، تحوّلت مدينة كييڤ إلى المسيحية مع تحوّل الروس إلى المسيحية سنة 988، ثمّ بُنيت فيها أوّل كنيسة سنة 996، ثمّ نشأت إمارة كييڤ سنة 1132، ثمّ نزلت تحت حكم المغول بعد حرب طويلة دامت من 1237 حتى 1242، ثمّ صارت إمارة الروس الكييڤيّين ضمن كونفدرالية القبيلة الذهبية وحكمها نائب عن الملك المغولي، ثمّ أخذتها دوقية ليتوانيا سنة 1362، واستمرّت تحت الحكم الليتواني باسم دوقية كييڤ حتى سنة 1471، ثمّ صارت محافظة ضمن محافظات الكومنويلث الپولاندي-الليتواني ثمّ حكمها هتمانات القوزاق Військо Запорозьке باسم الإمبراطورية العثمانية ما بين سنوات 1649-1764. ثمّ صارت جزء من الإمبراطورية الروسية اعتباراً من 1775.
المراجع:
1 Ерофалов-Пилипчак, Борис (22 February 2019). “Римский Киев: или Castrum Azagarium на Киево-Подоле”.
2 Kiev in the Ukrainian Soviet Encyclopedia: “Населення періоду мідного віку на тер. К. було носієм т. з. трипільської культури; відомі й знахідки окремих предметів бронзового віку.”
3 Petro Tolochko, Glib Ivakin, Yaroslava Vermenych. Kyiv. Encyclopedia of History of Ukraine.
4 Rabinovich GA From the history of urban settlements in the eastern Slavs. In the book.: History, culture, folklore and ethnography of the Slavic peoples. M. 1968. 134.
5 Paul R. Magocsi. A History of Ukraine: The Land and Its Peoples, p. 56.
6 Gabriel, Judith (November–December 1999). “Among the Norse Tribes: The Remarkable Account of Ibn Fadlan”. Saudi Aramco World. Vol. 50, no. 6. Houston: Aramco Services Company. p. 36–42.
7 Golden, P.B. (2006) “Rus.” Encyclopaedia of Islam (Brill Online). Eds.: P. Bearman, Th. Bianquis, C.E. Bosworth, E. van Donzel and W.P. Heinrichs. Brill.