في داخل حرم المسجد الأمويّ في دمشق بئر ماء، يخيّل للكثيرين أنّها كانت جرن تعميد الكنيسة التي كانت في موقع المسجد، كما يشاع، لكنّ الواقع غير ذلك. وما تسمية البعض لهذه البئر بجرن الكنيسة إلّا تزوير يركب على أكتاف جهل أهل دمشق بتاريخ مدينتهم، وهجران الكتب العتيقة، التي ترك قراءتها أغلب الناس.
هذه في الصورة هي بئر ماء حفرها المسلمون بعد السيطرة على دمشق في القرن السابع، وبعد إنشاء مسجد الرفقاء في حرم معبد أداد القديم، وهو نفسه الذي سمّاه ابن كثير مسجد الصحابة (1)، وسمّاه ابن بطّوطة مصلّى الرفقاء (2). وعلى الأغلب أنّ اسم المسجد كان مصلّى الصحابة، لأنّ المحراب الباقي عنه في المسجد الأموي اسمه محراب الصحابة (3)، ولأنّ أغلب التدوينات الإسلامية من زمنه ذكرته باسم المصلّى، ولم تذكره باسم المسجد ولا الجامع.

وكان المسلمون قد أسّسوا المصلّى المذكور في الركن الجنوبي الشرقي من حرم معبد أداد القديم، خارج الكنيسة وإلى شرقها، بينما بقيت الكنيسة للمسيحيّين لم تُمس. ثمّ حُفرت البئر موضوعنا هنا، وتمّ تشييدها بهدف تزويد المصلين بماء الوضوء والشرب. وقد حافظ الوليد على هذه البئر وأضاف إليها عمودين نفيسين مع توابعهما، قدّر ثمنهم بألف وخمسمائة دينار ذهبي، دفعها الوليد لخالد بن يزيد في أثناء التجهيزات التي أُجريت على البئر. ومع التوسعة إلى المسجد الأموي صارت البئر داخل حرم المسجد.
إذاً، لم يكن من موضع للكنيسة قرب أو حول البئر. ولم تكن البئر موجودة قبل ضمّ الدولة الإسلامية لدمشق. وحفرها وأنشأها المسلمون بعد إنشاء مصلّى الصحابة (الرفقاء). إذاً فهذه البئر ما كانت في أيّ وقت من أوقاتها جرناً لتعميد المسيحيّين، ولم تصل جدران كاتدرائية يوحنا إلى موضع البئر.
من جهة ثانية، ليس من عادة الكنائس المسيحيّة أن يكون في قلبها بئر ماء، ولا يقام جرن التعميد على بئر ماء. إنّما في الكنائس الأرثوذكسية، يقام جرن المعموديّة المكرّس داخل الكنيسة على الشمال، وعلى شمال الداخل إليها، مع مغطس المعمودية كذلك مقابل الجرن. وكان يُفترض، وفق العقيدة القديمة، أن يكون التعميد في ماء جار، وعليه يكون جرن التعميد على ماء يجري من نهر أو ساقية وليس على بئر. (4). والكنيسة المشرقية الوحيدة التي تحتوي بئراً في داخلها هي كنيسة بئر يعقوب في فلسطين، والتي أقيمت على بئر ماء بسبب اعتقاد سائد في أنّ هذه البئر سقت المسيح في أثناء رحلة عودته إلى الجليل. فلم تكن إقامة البئر داخل الكنيسة وظيفيّة، إنّما بُنيت الكنيسة كلّها في موقعها لقدسيّة البئر نفسها.
ثمّ، من باب العقل والمنطق، لماذا يهدم الأمير الأموي كنيسة كاملة، ثمّ يترك منها جرن التعميد واقفاً في مكانه وفي قلب المسجد؟ هذا غير منطقي. ووصف البئر الموجودة داخل المسجد الأموي اليوم بجرن التعميد، هو افتراء على تاريخ المسجد وتاريخ دمشق. وافتراء كذلك على خطى الأمويّين لإنشاء هذا الصرح المسمّى على اسمهم إلى اليوم. إنّما ترك الوليد بن عبد الملك هذه البئر في مكانها، وحسّنها وأنفق على صيانتها لتستمر، لأنّها كانت أوّل ما صنعه المسلمون في دمشق لأجل طهارة الوضوء، فهي أوّل خطوة اتّخذها مسلمي دمشق والوافدين عليها، للتهيؤ لأوّل صلاة جماعة للمسلمين في المعبد القديم.
المخطّط التالي رسمه الأستاذ روس بورنس (5) يحدّد المسؤولية التاريخية عن الآثار الباقية اليوم من أجزاء المسجد الأموي في دمشق، ونلاحظ أنّه بينما كانت الكنيسة البيزنطية على الغرب خارج باب البريد، كان مصلّى الصحابة في الركن الجنوبي الشرقي، حيث مقام يوحنّا (يحيى) والبئر المفترى عليها لوّنتها بالأحمر.

المراجع:
1 ابن كثير كتاب البداية والنهاية جـ12 صـ404
2 ابن بطوطة كتاب تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار جـ1 صـ66
3 علي الطنطاوي. كتاب الجامع الأموي في دمشق جـ1 صـ29
4 مقدمة في علم اللاهوت الطقسي – القمص إشعياء عبد السيد فرج https://go.monis.net/iXiGGA
5 MONUMENTS OF SYRIA أوابد سورية A Window on Syria’s Past by Ross Burns https://go.monis.net/A2fICz
موقع جميل ومعلوماته قيمة مشكورة جهودكم وجزاكم الله كل خير
إعجابإعجاب
العفو رامز وشكراً لك على اهتمامك
إعجابإعجاب