اليوم سأتحدّث عن الساعة الميكانيكية التي كانت تعمل في المسجد قبل إزالتها في القرن 13، والتي كانت من مظاهر التفوّق التقني والتقدّم العلمي الذي رفع شأن العرب آنذاك، حتّى وقفت ساعة نحاسية ميكانيكية تخبر الناس عن الوقت، في مسجدهم وطوال قرون، في زمن لم يعرف فيه باقي العالم أيّ شيء عن علبة المسنّنات، والآلات ذاتية الدفع.
قبل 12 قرن من اليوم، رفع باب جيرون، شرق المسجد الأموي في دمشق، ساعة ميكانيكية تخبر الناس عن الوقت بكلّ دقّة. ورد وصف هذه الساعة لأوّل مرّة في كتاب منشور في بغداد في النصف الثاني من القرن التاسع، هو كتاب الحيَل، الذي نشره الأخوة بنو موسى بن شاكر؛ واختصّ بميكانيك الآلات. ثمّ ذكرها المهندس الفيزيائي أبو الفتح عبد الرحمن الخازني في كتابه المنشور في مرو سنة 1121 بعنوان “ميزان الحكمة”. ثمّ ذكرها مهندس الميكانيك الجزري في كتابه المنشور في ديار بكر مطلع القرن 13 بعنوان “العلم والعمل النافع في صناعة الحيل”، ما يعني أنّ الساعة بقيت موجودة حتّى زمنه.

لكن، تخبرنا الوثائق كذلك أنّ الساعة قد تبدّلت في النصف الثاني من القرن 12 حين صنع المهندس الفلكي الخراساني محمّد بن علي الساعاتي ساعة جديدة ونصبها في مكان القديمة، بتكليف من الأمير نور الدين محمود الزنگي، في أثناء حملة الترميم الشاملة التي أجراها الأمير على المسجد الأموي. ويخبرنا عن ذلك ابنه الطبيب فخر الدين رضوان بن محمّد الساعاتي، الذي وثّق ساعة أبيه وطريقة عملها في كتاب نشره في دمشق سنة 1203 بعنوان “علم الساعات والعمل به”. وعن هذه الوثيقة، يحاول المهندسون وطيلة العقود الماضية، إعادة بناء ساعة رضوان الساعاتي، المسمّاة بساعة جيرون.
جاءت المحاولة الأولى لإعادة بناء ساعة جيرون في مدينة فرانكفورت الألمانية، حين قام الأستاذ فواد سيزكين بصنع ساعة وفق النموذج المتروك في كتاب رضوان الساعاتي، وعرضها سنة 1984. (1). وكان الأستاذ سيزكين قد اعتمد على دراسات اثنين من الأكاديميّين الألمان الذين حاولوا سنة 1915 تحليل رسومات رضوان الساعاتي وتقديم قراءة عصريّة لها. (2). ثمّ جاءت المحاولة الثانية لبناء ساعة جيرون في مدينة القاهرة، حين قامت مجموعة من الباحثين في مجال التراث الإسلامي بمحاولة إعادة بناء الساعة ثمّ قدّمنها لمتحف القاهرة سنة 2009. (3). وكلا النسختين معروضتين إلى اليوم في كلا المدينتين.

كانت ساعة المسجد الأموي تقع على مستويين على الجانب الأيمن من الباب الشرقي للجامع الأموي المسمّى باب جيرون. تألّفت الساعة من ثلاث أجزاء أساسية. وهي:
القسم العلوي من قسمين، واحد نهاري والثاني ليلي:

القسم النهاري من القسم العلوي:
الجزء الخارجي المرئي المطلّ على المارّة وهو عبارة عن لوح خشبيّ ونحاسيّ كبير بأبعاد تقريبية 240 × 240 سم. تحتوي على الوظائف الأساسية للساعة: 12 باب نحاسي ينفتح باب منها في كل ساعة لإظهار رقم الساعات الـ12 النهارية. وتحت كل باب مؤشّر بشكل هلال ينزلق مع مرور الوقت لبيان الجزء من الساعة. وفوق كل باب قبّة نحاسيّة ترتفع على رأس كل ساعة مع دوران الباب. وعلى جانبي صفّ الأبواب تمثالين لصقرين من النحاس، تقوم هذه الصقور برمي كرات نحاسية في جرس لتُحدث صوت رنين على عدد الساعات، للتنبيه إلى الميقات.
القسم الليلي من القسم العلوي:
في منتصف الجزء الخارجي وفوق صفّ الأبواب يوجد قرص نصف دائري يسمّى دائرة الليل، وفيها 12 فتحة دائرية متساوية تسمح بمرور الضوء من مصباح خلف القرص، ويدور هذا المصباح للإشارة إلى الوقت. وداخل دائرة الليل هناك دائرة أخرى مرسوم عليها أبراج الفلك، بما يعطي معلومات محدّدة عن تغيير الفصول. وفي وسط هذه الدائرة سهم يدور مع مرور ساعات النهار ليشير إلى موضع الشمس والزوال من شروقها إلى غروبها.
القسم السفلي:
يضمّ محرّك الساعة، والذي يولّد الحركات التي تنقلها أوتار دقيقة إلى كل جزء من أجزاء الساعة، ويعمل المحرّك بواسطة فوّاشة في خزان ماء. ويتحرّك الماء من الخزّان وإليه بواسطة صمّام تحكّم يُضبط لتعيير سرعة جريان الوقت.

أخيراً، لا يُعرف تماماً سبب إزالة الساعة من المسجد الأموي في دمشق في القرن 13، لكنّ الغالب أنّها تخرّبت في أثناء الحملة المغولية على المدينة ما بين سنوات 1260 و 1323، ولم تقم دولة المماليك من بعدها بإعادة تنفيذ ساعة جديدة لتحلّ في مكانها. ثمّ لم يفلح الأوروپيّون ببناء ساعة بيگبن اللندنية الشهيرة إلا بعد ستة قرون من زوال ساعة جيرون من دمشق. وهي ليست كمثلها.
هوامش:
مخطوطة كتاب فخر الدين رضوان بن محمّد بن علي الساعاتي الخراساني الدمشقي موجودة في مكتبة فورشونگس بيبليوتيك Forschungsbibliothek في مدينة گوتا Gotha الألمانية. نسخة عنها موجودة في متحف إسطنبول، وكان قد نسخها المهندس المصري بيلك عبد الله القبجاقي. ونسخة ثالثة موجودة عند المكتبة الوطنية في القاهرة، كانت قد نُسخت بأمر أحمد تيمور باشا. والنسخ الثلاث متطابقة.
أنصح بقراءة المقال التالي للاستزادة: Moustafa Mawaldi. Ridhwan al-Sa’ati: A Biographical Outline
المراجع:
1 Eilhard Wiedemann, Gesammelte Schriften zur arabisch-islamischen Wissenschaftsgeschichte. Gesammelt und bearb. von Dorothea Girke. Frankfurt: Institut für Geschichte der Arabish-Islamischen Wissenchaften, 1984, 3 vols.
2 Wiedemann, Eilhard & Hauser, Fritz, “Über die Uhren im Bereich der islamischen Kultur”, Nova Acta: Abhandlungen der Kaiserlich Leopoldinisch-Carolinischen Deutschen Akademie der Naturforscher, 100 (1915), Heft 5 – reprinted in: Gesammelte Schriften zur arabisch-islamischen Wissenschaftsgeschichte (Frankfurt am Main: Institut für Geschichte der Arabisch-Islamischen Wissenschaften an der Johann Wolfgang Goethe-Universität, 1984 [= Veröffentlichungen des Institutes für Geschichte der Arabisch-Islamischen Wissenschaften, Reihe B, Band 1]), vol. III, pp. 1211-1482.
3 Abdel Aziz al-Jaraki. From Frankfurt and Cairo to Damascus: Recent Models of the Umayyad Mosque Clock. https://go.monis.net/4GGkWp