في تاريخ اللّغة العربيّة، وبالأخص في تاريخ اللّهجة الفصحى منها، نجد أنّ أغلبها قد صُنع وتمّ تقعيده في بداية العصر العبّاسي من عصور الدولة الإسلامية، لا قبله.
انظر معي هذا الخطّ الزمني في الصورة:

في العهد الأموي تأسّست مدرسة النحو في مدينة البصرة بغاية تفصيح القرآن، أي لتوضيح نصوصه وتخفيف الارتباك في قراءتها. وفي العهد الأموي كذلك وُلدت مهنة الصحّاح، ووُضعت النقاط على الحروف، ووُضع نظام القياس اللّغوي الضابط لتشكيل كلمات جديدة، والناظم للحن الكلام العربي. فتأسّس بعده بعدّة سنوات نظام الإعراب. وهذه كلّها كانت طلائع بدائية في تأسيس اللّغة العربية المعاصرة، وهمّها الأوّل هو تحسين نقل آيات القرآن عبر النصوص المكتوبة.
أمّا في العهد العبّاسي فقد وُضع علم العروض، وعلامات التشكيل، وعلم الموسيقى والأوزان الشعريّة، ونُشر كتاب العين، أوّل معجم عربيّ معروف في التاريخ (ولو أنّ في التاريخ روايات عن معجم سبقه صدر في مدينة بخارى أيّام الأمويّين واعتمد الفراهيدي عليه). وكتاب العين صار الأساس لكلّ ما أتى من بعده، حتّى يندر أن تجد معجماً واحداً للغة العربية لم ينسخ بيانات كتاب العين أوّلاً، ثمّ أضاف عليها.
كلّ هذه التطويرات حدثت في بداية العهد العبّاسي، ما بين سنوات 750م، سنة تأسيس الدولة، إلى سنة 780م… وفي فترة سنة 760م وحولها وبعد عقد واحد من استلام آل عبّاس للسلطة، جرى تقعيد اللّغة العربية، وهو الإجراء الذي جسّد تماماً ما نعرفه اليوم بالعربيّة الفصحى. اللّغة التي اعتمدتها الدولة السلجوقيّة لاحقاً في تأسيس المدارس النظاميّة سنة 1065م.
وكان اعتماد الدولة السلجوقيّة على فصحى البصرة بنسختها العبّاسيّة سببه أنّ جميع الحكومات الإسلامية في وسط وغرب آسيا اعتمدت آنذاك مقرّرات الثقفي والعدواني سنة 760م في تقعيد اللّغة العربية، وعليه بُني كلّ من كتابيّ {تاج اللغة وصحاح العربية} و {مقاييس اللّغة} الذين وضعها معياراً للّغة العربية في دول الترك والفرس خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العاشر.
بكلّ حال، انتهت مدرسة نحويّي البصرة بمجزرة مدينة البصرة سنة 871م وتوقّف من بعدها التطوير على اللّغة العربيّة على نطاق إسلامي، باستثناء بعض التطويرات المتفرّقة التي أجرتها بعض الحكومات الإسلاميّة على مستواها المحلّي. سواء في المشرق أو المغرب. وتفرّقت اللّغة وصار لكلّ بلد نحوه وعربيّته الخاصّة.
هكذا، إلى أن قامت الخلافة العبّاسيّة بالتعاون مع حكومة المماليك في القاهرة سنة 1291م على إنتاج نسخة موحّدة من اللّغة العربيّة، اعتماداً على معجم {لسان العرب} الذي جمع فيه التونسي {ابن منظور} أمّهات كتب اللّغة العربية جميعاً، فسعى للتوفيق ما بين عربيّة المشرق وعربيّة المغرب.
وكانت مقرّرات المماليك في نهاية القرن 13 قد اعتمدت على قرارات سبقتها في القرن 12 بموجب مؤتمر جمع لغويين في دمشق من السلاجقة والعبّاسيين من جهة، ومن الفاطميّين من جهة ثانية، للاتّفاق على عربيّة موحّدة لا فُرقة فيها.
وعلى هذا فأنا أرى أنّ العربيّة الفصحى التي نعرفها قد صُنعت أساساً في القرن الثامن في الدولة العبّاسية ولتلبية حاجات هذه الدولة وأجهزتها السياسيّة، ولم توجد قبلها. فلا تكون هذه العربيّة العبّاسية هكذا لغة معياريّة يقاس عليها تاريخ العرب ولا تاريخ اللّغة العربية، إنّما هي مرحلة واحدة وصغيرة من مراحل اللّغة العربيّة، التي وُجدت في الأساس لتلبية متطلّبات واحدة من دول العرب عبر التاريخ.
وهذا سرد مراحل بناء وتطوّر اللّهجة العربية الفصحى
سنة 656 ميلادية تولّى علي بن أبي طالب الخلافة الإسلامية واستقرّ بها في مدينة الكوفة، ولمّا تسلّم عليّ الخلافة ولّى قضاء مدينة البصرة لرجل من كنانة اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي الكناني. هذا الرجل معروف باسم أبو الأسود الدؤلي.
سنة 657 ترفّع أبو الأسود ظالم الدؤلي فكلّفه عليّ ولاية البصرة كلّها. واستمرّت ولايته عليها حتّى سنة 660. في تلك الفترة طرح أبو الأسود على رئيسه الخليفة عليّ بن أبي طالب، مسألة الخلافات في قراءة القرآن، وطرح عليه حلّاً لها. فوافق عليّ على النحو في منحى أبو الأسود لتفصيح القرآن (أي توضيحه). ثمّ تأجّل المشروع مع انفجار الحرب الإسلامية الأهلية.
سنة 665 وتحت رعاية زياد بن أبيه في عهد معاوية بن أبي سفيان، أعاد أبو الأسود ظالم الدؤلي الانطلاق بمشروع تفصيح القرآن، فموّل زياد بن أبيه المشروع، وأسّس أبو الأسود الدؤلي علم النحو العربيّ، ونقط المصحف بوضع حركات على نهايات الكلمات.
سنة 684 انتقل تمويل المشروع إلى حكومة ولاية البصرة، تحت إشراف والي عبد الله بن الزبير بن العوّام الأسدي القرشي. وكان المشروع قد صار آنذاك مؤسّسة اسمها مدرسة نحويّي البصرة، أو مدرسة النحو العربيّ.
سنة 688 توفّى أبو الأسود ظالم الدؤلي، فخلفه على رئاسة المدرسة عنبسة الفيل، وهو عنبسة بن معدان المهري. وفي عهده وُلدت مهنة الصحّاح، وكان الصحّاح موظّفاً حكومياً تمرّ من تحت يده النصوص الرسميّة والشرعيّة لتصحيحها بنقط الدؤلي.
سنة 694 حكم البصرة الحجّاج بن يوسف الثقفي، الذي نفى الفيل وسلّم رئاسة مدرسة النحو العربي في البصرة إلى نصر بن عاصم الليثي، وهو بن عبد مناة من كنانة. قام اللّيثي بوضع النقاط على الحروف، وهكذا تشكّلت أبجديّة الجزم التي نستعملها اليوم في عربيّتنا.
سنة 708 توفّى نصر بن عاصم اللّيثي فانتقلت رئاسة مدرسة نحويّي البصرة إلى يحيى بن يعمر العدواني البصري، وكان منفيّاً في خراسان من سنة 702 بأمر من الحجّاج. فتسلّم يحيى قضاء مدينة مرو، وانتقلت معه رئاسة مدرسة البصرة إلى مرو؛ إلى حين وفاة الحجّاج سنة 714. آنذاك عاد يحيى العدواني إلى البصرة وعادت واستقرّت فيها المدرسة من جديد حتّى وفاته سنة 746.
في عهد رئاسة يحيى بن يعمر العدواني البصري، قام عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (توفّى 735) بوضع نظام القياس اللّغوي في العربية، وكان شديد التجريد في القياس. ثمّ أسّس نظام الإعراب. ثمّ تبعه عيسى بن عمر الثقفي (توفّى 766) فاشتغل على تقعيد اللّغة العربية. ثمّ تبعه أبو عمر بن العلاء التميمي (توفى 770) وأسّس مدرسة فقه اللّغة العربية.
أخيراً زاملهم الخليل بن أحمد الفراهيدي (718-786) وتلميذه سيبويه. الذي وضع علم العروض، ثمّ وضع علامات التشكيل، ثم وضع كتاب العين، أوّل معجم للّغة العربية في التاريخ. ثمّ وضع علم الموسيقى والأوزان الشعرية.
في القرن 10 وضع إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي كتاب تَاجُ اَلْلُغَةِ وَصِحَاحُ اَلْعَرَبِيَّةِ، الذي سمّي اختصاراً معجم الصحّاح، بسبب اعتماد المصحّحين عليه كمرجع أساسي في ظل حكومة الدولة الصفارية في مدينة نیشاپور (دمشق الصغرى) في خراسان. وصار هذا الكتاب مرجع الترك جميعاً في اللّغة العربية ولهجتها الفصحى.
في القرن 10 كذلك وضع أبو الحسين أحمد بن فارس القزويني الرازي كتاب مقاييس اللّغة، بتكليف من حكومة الدولة السامانية في مدينة قزوين (گسپِن). وصار هذا الكتاب مرجع الفرس جميعاً في اللّغة العربية ولهجتها الفصحى. وكان القزويني قد اشتغل في خدمة السامانيّين الذين كلّفنه وضع مرجع للعربية الصحيحة على سياق معجم الجوهري.

إذاً:
- قبل اشتغال أبو الأسود ظالم الدؤلي على تفصيح القرآن ما كان من عربيّة فصحى بعد.
- أخذت الفصحى اسمها من غاية صناعتها، أي التوضيح، فالفصحى هي الواضحة، التي ليس عليها خلاف.
- استغرقت اللّهجة العربيّة الفصحى حتّى تكاملت ما بين سنوات 665 و 786 = 121 سنة. ولم تُصنع ما بين يوم وليلة.
- انتشرت اللّهجة العربيّة الفصحى بداية في الدول التي اعتمدت وظيفة الصحّاح في مديريّاتها الحكومية. ولم تنتشر في غيرها.
- قبل ميلاد الفصحى، تداولت الدول والولايات العربية لهجات عربيّة مختلفة ولم تلتزم لهجة موحّدة، لا فقهاً ولا أدباً.
- اعتباراً من القرن العاشر، صارت الفصحى هي اللّهجة العربيّة الموحّدة في كلّ أنحاء العالم.
- اعتباراً من القرن 13، اتّفقت الحكومات الإسلامية على اعتماد العربية الفصحى لهجة رسمية، ولا مكانة لغيرها.