في طفولتي ولمّا نشأت في دمشق في الثمانينيّات، لطالما افتتن الشباب بطبق فرنسي من لحم الدجاج اسمه كوردون بلو، وكمثلهم، نشأت طامعاً بهذا الطبق في كلّ مرّة خرجت فيها مع رفقائي إلى مطعم. يصل الطبق ساخناً إلى مائدتك وعصرة ليمونة مع سلصة الفطر، ليبدأ الالتهام بلا توقّف. ولطالما ظننت مع أهلي من السوريّين أنّ هذا الطبق الفرنسي الجميل قد وصل دمشق مع الاحتلال الفرنسي لسوريا عقب الحرب العالمية الأولى. ثمّ راجعت تاريخه، لتتغير آرائي. وفاجأتني الحقيقية.
طبق كوردون بلو أو شنيتسل كوردون بلو في الواقع، وُلد سنة 1949، بعد جلاء القوّات الفرنسية عن سوريا بثلاث سنوات. إذاً هو لم يحضر إلى البلد مع الفرنسيّين، وما تناولته عائلات الضبّاط الفرنسيّين في سوريا. فما حكاية الكوردون بلو؟
سنة 1938 بدأت دار نشر لاروس Éditions Larousse في پاريس بنشر موسوعة فنّ الطهي الفرنسية Larousse Gastronomique وهي أكبر موسوعة في ميدانها، خاصّة بالطهاة وممتهني الطهي، ولم تزل معلوماتها تنال التحديث باستمرار. والمعلومات من بعد هذه الفقرة مستقاة من هذه الموسوعة.
في فترة الحرب العالمية الثانية، بدأت تنتشر في بارات سويسرا عادة جديدة في طهي طبق الشنيتسل الألماني الشهير، بربط شريحة رقيقة من لحم الدجاج مطوية حول نفسها وفي قلبها قطعة من الجبن السويسري. ثمّ تقلى في مقلاة وتقدّم مع اللّيمون. هذه العادة بدأت من مدينة بريگ Brig-Glis على جبال الألپ أقصى جنوب القسم الألماني من سويسرا.
سنة 1949 نُشر أوّل توثيق مطبوع لوصفة “كوردون بلو الدجاج” وتقول الموسوعة أنّ الاسم يأتي من عبارة دارجة في محكيّات سويسرا بمعنى “أفضل الأفضل” أي أنّ معايير هذا الطبق ونكهته هي أفضل الموجود.
تقول الموسوعة: الكوردون بلو Le Cordon Bleu كان في الأصل شريطاً أزرق عريض يرتديه أعضاء أعلى رتبة في الفروسية الفرنسية، وهم أعضاء سريّة الروح القدس L’Ordre des chevaliers du Saint-Esprit قوّات نخبة النخبة المؤسّسة سنة 1578 من قبل الملك هنري الثالث، ملك فرنسا وپولاندا وليتوانيا. ومن ذلك الوقت صارت الناس وعبر غرب أوروپا، تستعمل مصطلح كوردون بلو على أي شيء لوصفه بأنّه ممتاز وأفضل الموجود.

لاحقاً صارت فرنسا تمنح الطهاة النخبة وشاحاً مزيّناً بشريط أزرق عريض، كمثل ذلك الذي ارتداه أعضاء سرية الروح القدس، سيّما بعد أن خرجت بهذه العادة الجديدة مدرسة Le Cordon Bleu العالية للمطبخ الفرنسي، والتي بدأت العمل منذ سنة 1895، قبل 127 سنة من اليوم. وعليه صار ذات المصطلح يُطلق على الطعام المطهي على مستوى عال جدّاً ومن قبل طهاة متميّزين. وهذا ببساطة سبب منح طبق الكوردون بلو اسمه الطريف.
قُدّمت شريحة كوردون بلو بلحم العجل للمرّة الأولى سنة 1955، ولاحقاً في فترة السبعينيّات قُدّمت من لحم الخنزير.
سنة 1967 وصلت كوردون بلو الدجاج إلى نيويورك في الولايات المتّحدة الأميركية أوّل مرة. وإذ ذاك أضاف لها الطهاة على الطريقة الإسپانيّة شريحة رقيقة جداً من لحم الخنزير المسلوق، توضع ما بين الجبن ولحم الدجاج، ثم صارو إلى قليها في الزيت العميق مغلّفة بغلاف الشنيتسل الألماني ذاته، فتات الخبز. وهذا هو شكل الطبق المنتشر اليوم في أغلب دول العالم.

أمّا كيف وصل الطبق إلى سوريا! فعلى الأغلب أنّ الطهاة السوريّين الذين عادوا إلى البلد بعد دراسة في سويسرا فترة السبعينيات أو الثمانينيّات، أحضرن معهم هذا الطبق اللّذيذ، الذي قُدّم في أفخم مطاعم سوريا على الطريقة السويسرية، شريحة من أفضل قطعات لحم صدر الدجاج ملفوفة على قطعة جبن سويسري ومقلية بالزبدة في مقلاة، لتُقدّم مع قطعة ليمون وطبق سلطة جانبي.
واليوم تقدّمها بعض الدول العربية محشوّة بطبقة رقيقة من لحم البقر أو الغنم، بدلاً عن لحم الخنزير المسلوق في الطريقة الأميركية.
من جهتي، أفضّلها مقلية في مقلاة بزيت الزيتون، ومن دون الغلاف. وأفضّل أن أحشوها بجبن الماعز مع جبن گاودا الهولاندي بدلاً عن الجبن السويسري. ثمّ أقدّمها مع عصرة ليمونة ورشّة من دبس الرمّان، وتبق إلى اليوم من أطباقي المفضّلة.
وأنت، كيف تفضّل الكوردون بلو؟