دائماً ما تشغلني مسألة {الفصحى} وقيافتها، وقيامتها، وسبب ومبدأ اعتبارها عند العرب اليوم الأصل والتأصيل. ولأنّني على يقين من أنّ هذه القيمة للفصحى ما كانت عند العرب قديماً، ولا في مطلع دولة الإسلام، فلا أتوقّف عن البحث عن النقطة التي بدأت بدفع أدباء العرب لتعظيم اللّهجة الفصحى إلى مرتبة الأصح، ثمّ إلى مرتبة الأصل. على الرغْم من أنّها من صناعة مدرسة نحويّي البصرة، وما كانت قبلها ولا عرفت العرب اسماً للسان كنيته {الفصحى}.
وبينما أطالع كتاب محمّد بن يزيد المبرد {الكامل في اللغة والأدب} استوقفتني هذه الحادثة، التي على ما يبدو (وبغضّ النظر عن صحّتها ووقوعها) كانت البادئة التي دفعت ببعض العرب لتسمية شقّ من لغتهم بالفصحى، ثمّ الاندفاع وراء تعظيمها بطيئاً، قرناً خلف قرن، حتّى وصلت إلى ما وصلناه نحن اليوم.
يروي المبرد فيقول: {وحدّثني من لا أحصي من أصحابنا عن الأصمعي عن شعبة عن قتادة، قال: قال معاوية يوماً: من أفصح الناس؟ فقام رجل من السماط فقال: قوم تباعدوا عن فراتيّة العراق، وتيامنوا عن كشكشة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانيّة حِمير. فقال له معاوية: من أولئك؟ فقال: قومي يا أمير المؤمنين، فقال له معاوية: من أنت؟ قال: أنا رجل من جرم. قال الأصمعي: وجرم من فصحاء الناس.}.
- – معاوية هنا هو الأمير المؤسّس للدولة الأمويّة: أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان الأموي القرشي.
- – السماط تعني عامّة الناس، أدنى الطبقات الأدنى من الخاصّة (الأشراف).
- – جرم قال البعض هي جرهم. وقال برنارد لويس Bernard Lewis أنّها كانت قبيلة عربية تعيش في العصور الوسطى في فلسطين وحوران وساحل مصر. وقال ويليام پوپر William Popper كانت جرم فرع من قبيلة ثعلبة، وهي فرع ثانوي من قبيلة جديلة، والذي هو في حد ذاته فرع من القبيلة العربية الكبيرة طيء. ومع ذلك، لاحظ پوپو أنّ بعض المصادر تنسب قبيلة جرم تنتمي إلى قبيلة قضاعة.
- ـ محمّد بن يزيد المبرد هو أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر المعروف بالمُبَرِّد، عاش في العصر العبّاسي، وهو بصري، وُلد في البصرة وتوفّى في بغداد سنة 899م
ومن الرواة من نسب قول الأصمعي لمعاوية نفسه، وهذا غير صحيح. لا تسجّل التدوينات ردّ معاوية على كلام الجرهمي. ولربّما كانت القصّة كلّها للتنافس ما بين جرم وقريش أيّهم أكثر عروبة. ولا حقيقة لوقوعها.
ومن الرواة من أضاف لاحقاً المزيد من الصفات التي تنتقص الفصاحة في قول الجرمي: فزادوا مثلاً: تلتلة بهراء، وتضجّع قيس، وعجرفيّة ضبة، وكشكشة هوازن، وعجعجة قضاعة… وهؤلاء جميعاً من العرب العاربة، التي أراد الرواة نفي لهجاتهم عن ما سُمّي لاحقاً بالفصحى، بادّعاء أنّ هذه اللّهجات هي انحراف عن أصلٍ جرمي. وأنّ تصحيح اللّغة وتفصيحها يكون بنقض هذه اللّهجات و”تقويمها”.
لكنّ الواقع هو غير ذلك. ما حدث فعلاً هو إضعاف اللّغة العربية عن طريق تبسطيها، بحتّها أكثر وأكثر، وإزالة قطع منها في كلّ حت. حتّى بقيت قطعة صغيرة من البحر الواسع، تسمّى الفصحى.
ما حدث فعلاً هو إزالة لهجات العرب من اللّغة العربيّة وتقزيمها إلى ما ادّعى البعض أنّه لهجة جرهم، أو أدّعى البعض الآخر أنّه لهجة قريش. وكلا الروايتين في رأيي أساطير غير حقيقيّة. فمن أسّس مدرسة نحويّي البصرة كانوا بأغلبهم من كنانة. وهؤلاء مالوا إلى تقويم لغتهم على باقي لغات العرب، بتنصيب لهجة كنانة لغة رسميّة بعد تقعيدها في مطلع عهد الدولة العبّاسيّة.
إذاً ما صُنع في البصرة في القرنين السابع والثامن بعد الميلاد ما كان لهجة قريش، إنّما تطوير لأمّها لهجة كنانة. وما دفع بعض الأدباء لتبرير وجوب “تقديس” نتاج مدرسة البصرة هو روايات من أمثال هذه المرويّة عن معاوية عن الأصمعي… والأصمعي هو أحد علماء مدرسة نحويي البصرة من اشتغلوا فيها بالتصنيف. وتوفّى فيها قبل مجزرة البصرة بنحو أربعين سنة.
تنافست العرب أيّ لهجاتها تكون اللّهجة الأعمّ في دولة الإسلام، فراحت تحت الأرجل في هذه الحرب الكثير من لهجات العرب. واختُزل تاريخها فهبطت مكانتها، فصار أسهل على الآخرين تشويه تاريخ العرب والحطّ منه واللّعب به. طالما أنّ المدارس العربيّة لم تزل تصرّ على تحقير الكثير من بدن اللّغة العربيّة، باعتباره انحرافاً عن الفصاحة.
سيراً على نهج الرواية غير الأكيدة تلك. وصار سهلاً نفي عروبة شعوب كاملة من شعوب العرب. مثلاً، بنفي فصاحة بعض اللهجات العربية القديمة صار سهلاً نفي عروبة اليمن ونفي عروبة البربر ونفي عروبة غيرهم الكثير، فقط لأنّهم ما تحدّثوا الفصحى ولا كانت في دولهم.
ما هو الحلّ برأيك؟
برأيي الحلّ هو في ردّ الاعتبار للّهجات العربيّة والتوقّف عن اعتبار الفصحى كأصل للّغة العربية، والتوقّف عن تصنيف كلام العرب ما بين عامّيّ وفصيح. الأصحّ التصنيف ما بين عارب ومعرّب. فكلّ أهل بلاد العرب عرب.
ولا تصحّ تسمية لهجات العرب بالعامّيّة. فهذا تصنيف يقسم اللّغة ما بين لغة عوام ولغة خواص، وهذا تصنيف طبقي. والتسمية الأصح هي: عربيّة عاربة أو مستعربة. أي كلّ الكلمات المشتقّة عن الجذور العربيّة هي كلمات عربيّة. أمّا الكلمات المعرّبة، وطرق الكلام المعرّبة فهي لهجات مستعربة. مثلاً شيوع كلمة شير، وعنها تصاريف تشيير، وملفات مشيّرة، وشيّرلي… هذه مستعربة. كذلك استعمال كلام عربي وكل الكلمات عربية لكن بقواعد ونحو تركي. هذا مستعرب وليس عارب.
وأنا هنا لا أرفض مكانة الفصحى ودورها في توحيد الشعوب العربية اليوم، وأؤيّد منح الفصحى هذه القيمة التي استعملتها الحكومات العربية قديماً لتوحيد شعوب العرب على لغة واحدة يألفها الجميع. لكن، ما لا يصحّ، في رأيي، هو اعتبار هذه الفصحى أصل للهجات العرب، والباقي انحراف عنها. هذا تشويه لتاريخ اللغة العربية.
اترك تعليقًا