أشتاق لروما، وللتفاصيل الصغيرة الجميلة الغائبة عن أغلب سكانها. في روما الجميلة يتذمّر الجميع، يتذمّرون من الزحام ومن الدُّخَان ومن تراكم السكّان ومن الفقر والإرهاق وفشل الساسة وثراء رجال الدين. ثمّ يجتمعون كلّ مساء وتعلوا الضحكات حول عشاء يجمع العائلة، لكأنّ هذا المساء هو عشاء أخير في ختام الدنيا كلّها. في روما، لا أحد تناله وجبته وحيداً ولا يدري أهل روما أنّهم أنفسهم هم جمال هذه المدينة القديمة، وهم روحها التي يقع في غرامها الجميع، كما اصطادتني من أوّل لقاء.


حين زرت روما أوّل مرّة، لفحتني فيها روح دمشق، كما الشام شعرت أنفاسها ودفئها وثراءها بما تحتها. وفي كلّ مرّة زرتها كانت نفحات عتيقة تداعب أضلعي. أمّا پاريس وبرغم كلّ الجمال والأناقة في شوارعها، فكانت في كلّ زيارة أثقل على قلبي من سابقتها، الكذب سمة كبيرة وجزء من هوية الپاريسي، لن يكون صادقاً معك أبداً، ولن يكون صادقاً مع العالم، ولا حتى مع نفسه. الكذب جزء من الطبيعة العنصريّة، والپاريسي يعتقد أنّ الكذب هو الطريق إلى الصدق، وإلى تغيير الواقع القذر.


لن أشتهي عودة لزيارة پاريس بالمطلق. ففي پاريس كلّما ازداد من حولك الناس كلّما شعرت بالوحدة أكثر. على عكس روما، التي يكفي أن تتنفّس الهواء فيها لتذهب عنك كلّ مشاعر الوحدة. مذ غادرت دمشق، يندر أن تَلْفِتَ قلبي مدينة. غير روما التي لمستُ فيها روح دمشق الأزليّة منفوحة بين جدرانها العتيقة. زرت الكثير من المدن وزارتني، ولم تغمرني كما غمرت فيّ روما. في روما ستنال عشاء سعيداً، ولو كان العشاء طبق كاچيو إپه-په Cacio E Pepe البسيط. وهو طبق الپاستا البلديّة لأهل روما ومعنى اسمها جبنة وفلفل وتكون عادة من الپاستا الطويلة الشعريّة الأرفع من السپگيتي متل التونّاريلّي أو البُكَتيني.


بعد أوّل زيارة ويوم غادرت بروكسل بعد أسبوعين تركتها تاركا بعضاً من قلبي على أرصفتها، في زواياً اختطفت ذكرياتٍ منّي وأركاناً سأشتاقها حتماً. زرت بروكسل زيارات خاطفة من قبل، كانت كلّها للعمل، فنجان قهوة على حياء الرسميّات وآراء مغموسة في عروض تقديميّة تنتهي إلى المطار. لم أحظ بفرصة اختلاط الخصوصيّات حتّى زيارة الأسبوعين تلك. كان أسبوعاً تمدّد على ثان، ابتدأ على سكّة القطار، ثمّ تركتها غير راغب في تركها، أحببتها هذه الفوضى الفرانكوفونيّة فلامانية القنطرة فيها، أحببت عنفوانها وتعبها وأفكارها المهمومة بفرص ما وراء الحياة، وأخذتْ في قلبي جيباً ستبق يدها فيه طويلاً، على ما يبدو.



حين غادرت دمشق تركتها على حين غصّة، دون فرصة حتّى لقبلة صباحيّة، نترتها هكذا على خوف ولم أعد. من يومها احتبست قبلات الصباح في نفسي أحملها مغادراً الأمكنة حيث جُلت دون إلتفاتةٍ إلى الوراء. لكن في نهاية تينك الأسبوعين في بروكسل منحتها لثماً كثيراً قبل أن أنتهي إلى قطار يحملني إلى پاريس هذه المرّة. ويوم زرت پاريس ثاني مرّة زرتها لأجل نوتردام، لأجل زيارة مسرح روايتي المفضّلة. لتصويره وللسكون بضع ساعات تحت سقفه. نوتردام كانت الشاهدة على أولى قبلاتي مع غروب الشمس في پاريس. وساحتها، هي حيث أتممت أجمل لقاءاتي في پاريس، مع كلّ زيارة لهذه المدينة كانت نوتردام أوّل من يستقبلني وأوّل من أتّجه إلى قلبه.

قبل خمس سنوات زرت پاريس أوّل مرّة، كانت زيارتي لجبل مونمارتر في الواقع حيث اكتريت غرفتي، ولم تكن بقيّة المدينة في بالي… لتصوّر الأمر، لم أتّجه لزيارة برج إيفيل مثلاً إلا في نهاية الأسبوع الثاني من الزيارة. وعقب وصولي مونمارتر مباشرة رميت حقيبتي في الغرفة وخرجت فوراً لزيارة مقبرة الحيّ، حيث ترقد رُفاتُ المئات من أهل الفنّ والإبداع، وبدأتها بالبحث عن إديث پياف ثمّ صحبتها لزيارة ديكارت المفصول عن رأسه ما بين باريشة سانت جرمان ومتحف الإنسان… وزرت لأجله الاثنتين.

ولم أنس طبعاً المشي عدة مئات من الأمتار بعد المقبرة للوقوف أمام مولان روج. وهذه الأشياء كانت كلّ ما أردت رؤيته فعلاً من معالم المدينة… ومن كفيتيريا متحف الإنسان لحظت برج إيفيل من بعيد والتقطت له صورة، ثمّ تقاعست عن المشي باتجاهه. وفي نهاية الأسبوع الثاني دعتني صديقة لمَشورة، نتمشّى فيها في پاريس ثمّ نتجوّل على سطح السين في قارب. وبينما نحن نمشي في متنزّه فاجأتني بإيفيل على يسارنا… لم أنتبه فعلاً أين كنّا وأين صرنا، فتركيزي كان في مكان آخر، والأشجار تحجب المناظر فوقنا. والتقطتّ له صورة.

في أحد المرّات وبينما أنا جالس على حرف السين شارد في حالي وفي حياتي أكرّر على نفسي {شو لازم ساوي}… بصراحة، وقتها نزلت پاريس هارباً من حالي، ألتهي بالتعرف على ناس جديدة وبدايات حكايات جديدة. في ذلك الشرود في منظر السين مقابلي وشريط المشاكل يمرّ في رأسي، يهطل المطر، وتمرّ الناس من أمامي هاربة من المطر. ومعهم حق، لأنّ مطر پاريس مَلآن بالزبالة. لكن، مشهد الناس تجري والنهر جار بهدوء لا يبالي، حرّكت في رأسي مقارنة… الناس التي تتغيّر بسرعة وتتغيّر مسارات سير حكاياتها بالكامل بسبب مطرة. والنهر غير المبالي بالمطرة، يستوعب كلّ زخّاتها، جار باستمرار ودون تردّد.

من هذا الموقف خرجت بأنّ امتلاكنا لمجرى حكايتنا غالباً صعب، لكن ليس بنفس صعوبة الحياة بعد هروبنا منها. احتواءنا لنقاط الضعف الموجودة في أنفسنا أمر محفوف بالمخاطر، لكن ليس بنفس خطورة التخلّي عن الحبّ والانتماء والمتعة. الاستمتاع هو التجربة التي ترمينا في أضعف حالاتنا، لكن الاستمتاع هو السعادة القصوى.
يعني بالمختصر لمّا نكون شجعان كفاية لاستكشاف مساحات الظلمة، سنكتشف القوّة اللامحدودة للنور في دواخلنا.

اترك تعليقًا