فن, إتيمولوجي, تاريخ, عمارة

فنّ التوريق العربي، من حضارة مصر القديمة إلى الزخرفة الإسلاميّة

أحد أجمل الفنون العربيّة، والتي تنتشر حول العالم وإلى اليوم باسم العرب، هي فنّ التوريق أو الرقش أو التزويق، أسماء مختلفة لذات الفنّ، غير أنّ الاسم الأوّل هو التعريف الأموي. وهو فنّ زخرفة ينتشر حول العالم باسمه الأوروپي أرابيسق أو أرابيسك، الكلمة المنحولة التي تشير نسبةً إلى العربيّ. ويندر أن يخلوا قصر أو كنيسة أو زيّ أوروپي من زخارف هذا الفنّ، حتّى دخل التراث الأوروپي نفسه وصار من هويّته، وحافظ على اسمه الأرابيسك.

في وقت يصرّ فيه الكثير من عرب اليوم إلى أنّ هذا الفنّ هو فنّ روماني، يصرّ التراث اللاتيني الروماني نفسه إلى أنّ فنّ العمارة هذا هو فنّ عربي. استوردته أوروپا من العرب، لا العكس.

جزء من لوح الرخام الذي يزيّن منبر المسجد الأموي في دمشق، وهو من أصول عمارة المسجد من عهده الأموي الأوّل.
جزء من لوح الرخام الذي يزيّن منبر المسجد الأموي في دمشق، وهو من أصول عمارة المسجد من عهده الأموي الأوّل.

دخلت كلمة أرابيسق اللّغات الأوروپيّة من اللاتينيّة حين استعمل الرومان كلمة أرابيسچو arabesco (أرابيسقو) لوصف أحد أنواع التصميم الزخرفي (1). وهي كلمة مشتقّة عن الأصل اللاتيني arabo التي تعني عربيّ. كلمة أرابيسچو أشارت إلى النمط العربي باستعمال اللاحقة -esco للتمييز عن الكلمة التي تقصد الشخص العربي arabo.

من اللاتينيّة انتقلت الكلمة إلى الفرنسيّة القديمة بصيغة arabesque اسماً لذات النوع من الفنون، ومنها إلى الإنگليزية. أمّا الإسپانيّة، وبسبب العلاقة المباشرة للإسپان باللّغة العربيّة، فقد انتحلت اسم هذا الفنّ من كلمة {التوريق} الأمويّة، فصارت في الإسپانية ataurique وانتقلت عنها إلى الإنگليزية بذات الشكل، وهو اسم لزخرفة نباتيّة منمنمة للغاية من سمات الفنّ الإسلامي، خاصّة في فنّ الإمارة الأمويّة في قرطبة. ويقول القاموس المرئي للمصطلحات المعمارية أنّ التوريق هو نفسه الفنّ الذي كان يسمّى أرابيسقو في الزمن الروماني (2).

في القرن 16 انتحلت عن الكلمة اللاتينية كلمة إيطالية هي {رَبيسچي} rabeschi التي أشارت إلى زخارف أعمدة تتميّز بزخرفة أقنثيّة (3). والأقنثة ἄκανθος هو فنّ زخرفي من فنون العمارة التي تستخدم شكل ورقة نبتة شَوْكَةُ الرُّنْدِ (4) لتصميم زخرفة بشكل أوراق الشجر والديكور (5). وكلمة rabeschi الإيطالية هي تحوير آخر يعني {نمط عربي}.

يقول المتخصّص في تاريخ الزخرفة پيتر فورينگ Peter Fuhring {الزخرفة التي كانت في القرنين 15 و16 تُعرف باسم الموريسقية moresque وهي المعروفة اليوم أكثر باسم الأرابيسقية arabesque تتميّز بالتفافات متشعّبة تتكوّن من غصون بأوراق نباتيّة متشابكة. ما يميّز الموريسقية، التي هي في الأساس زخرفة سطح، أنّه من المستحيل تحديد موضع بداية النقش ونهايته. هذا الفنّ نشأ في الشرق الأوسط، وتمّ تقديمه إلى القارّة الأوروپيّة عبر إيطاليا وإسپانيا. والنماذج الإيطالية لهذه الزخرفة، التي كانت غالباً ما تُستخدم في تجليد الكتب والتطريزات، معروفة من أواخر القرن 15.} (6)


والأرابيسك العربي عمومًا هو شكل من أشكال الزخرفة الفنّية التي تتكوّن من زخارف سطوح متناغمة من التوازي والتشابك بين أوراق الشجر وعِطافه والخطوط المستقيمة (7). هذه الزخارف المورّقة تنحدر بنمطها من فنّ أسبق استعمل شكل سعف النخيل بعد أن دمجها الفنّان بشكل سيقان النباتات المتعرّشة (8). وعن هذا الفنّ العربي انتشرت تطبيقات واسعة جدّاً عبر آسيا وأوروپا، بما فيه فنّ {التعزيز (الموتيف)}.

جزء من لوحة خزفية من القرن الخامس عشر من سمرقند (أوزبكستان) بخط أبيض على خلفية أرابيسك زرقاء
جزء من لوحة خزفية من القرن الخامس عشر من سمرقند (أوزبكستان) بخط أبيض على خلفية أرابيسك زرقاء

اليوم، مع الأسف، يُستخدم مصطلح {أرابيسك} من قبل مؤرّخي الفنّ كمصطلح تقني لوصف عناصر الزخرفة الموجودة على مرحلتين فقط، هنّ: الفنّ الإسلامي من القرن التاسع إلى اليوم، والفنّ الزخرفي الأوروپي من عصر النهضة وما يليه. مع أنّ هذا الفنّ العربي، ومصطلح أرابيسك بحدّ ذاته، قد انتقل إلى أوروپا من العرب في العهد الروماني، في زمن يسبق الإسلام ويسبق القرن التاسع بعشر قرون.

وصحيح أنّ التوريق (الأرابيسك) هو عنصر أساسي في الفنّ الإسلامي، غير أنّ العرب دأبوا على تطوير هذا الفنّ من قبل الإسلام بوقت طويل جداً. الاستخدام الأوروپي لمصطلح الأرابيسك مرتبك ومن خارج السياق. فبعض الأرابيسك الغربي مستمدّ من الفنّ الإسلامي، لكن البعض الآخر يعتمد على أنماط زخارف انتشرت من الزمن الروماني القديم. والرومان استوردوا هذا الفنّ من العرب قبل الإسلام بنحو ألف عام. 

لوحة طِلُّس من مذبح أغسطس السلام في روما، منحوت سنة 27. الجزء السفلي من اللوحة هو مثال على فن الأرابيسك العربي في العهد الروماني
لوحة طِلُّس من مذبح أغسطس السلام في روما، منحوت سنة 27. الجزء السفلي من اللوحة هو مثال على فن الأرابيسك العربي في العهد الروماني

في الفترة التي سبقت المسيحية والإسلام تطوّر فنّ التوريق (الأرابيسك) العربي بتكوينات حملت عناصر فلسفيّة نسمّيها اليوم بالسمات الميثرائية (الميثرانية) نسبة إلى ديان الشمس السابقة بين العرب والترك للمسيحية، وهي سمات، إن جاز التعبير، تصحّ تسميتها بالسمات الميسانيّة، طالما أنّ الدول التي رعت تطوّر هذه الديانة صارت، ومن العهد السلوقي، تحمل اسم إميسان. ولو أنّ السمات الزخرفيّة العربية هذه انتشرت في وسط وغرب آسيا من فترة تسبق الدولة الأخمينيّة وتسبق بالتالي نشوء أوّل مملكة حملت اسم إميسان. هذه العناصر الميسانيّة (الميثرانية) اختفت من الشرق الأوسط بنشوء الإسلام، بينما حافظت عليها منطقة الصُغد، حتّى بعد تحوّلها إلى الإسلام، ودمجت هذه العناصر بالسمات الإسلامية الوافدة في القرن العاشر من العراق.

ما بدأ فكرة التوحيد في التوريق وحركة الكون بما فيه من كواكب وأجرام سماوية تدور حول المركز الواحد، هو ديانة الشمس، مي، التي يسميها البعض ميثرانية أو ميثرائية أو ميسانية أو أمينيّة أو أميّة… وغيره. سمات هذا الفن قبل الإسلام هي وجود تصوير لكائنات ذات أرواح غير النبات. بالإضافة إلى تكوينات نباتية من وحي مقدّسات العرب، العنب للنبيذ ودم شره ابن عشتار، النخل وتمره، زهرات صَرِيمة الجَدي الجنائزية والسعد البردي وزنبق الماء المصري الأبيض (اللّوتس النمري) والزنبق العربي، والطيور والحيوانات المقدّسة… كلها عناصر من فلسفة العربي الروحية وحياته. ثم جاءت الدولة العباسية التي حرّمت استعمال رموز “حيّة” كالبشر والحيوانات، واقتصرت الزخارف على النباتات فقط.

هذه الرائعة هي زخرفة عربية بنمط التوريق (الأرابيسك) وهي صفحة فاتحة من كتاب الشاهجهان تفتح صفحات السلطان شهاب الدين. ومرسومة حوالي سنة 1630.

هذا الشكل الزُخرفي يسمّى {الشمسة} وهو أحد عناصر فنّ التوريق العربي، وهذه الصفحة مصمّمة بدقّة وعناية ومطلية بألوان زاهية ودرجات متعدّدة من الذهب، وثريّة برسومات من النمط الميثراني من الورود والطيور والحيوانات. والنقش في الوسط مخطوط بأسلوب الطغراء
هذه الرائعة هي زخرفة عربية بنمط التوريق (الأرابيسك) وهي صفحة فاتحة من كتاب الشاهجهان تفتح صفحات السلطان شهاب الدين. ومرسومة حوالي سنة 1630.
هذا الشكل الزُخرفي يسمّى {الشمسة} وهو أحد عناصر فنّ التوريق العربي، وهذه الصفحة مصمّمة بدقّة وعناية ومطلية بألوان زاهية ودرجات متعدّدة من الذهب، وثريّة برسومات من النمط الميثراني من الورود والطيور والحيوانات. والنقش في الوسط مخطوط بأسلوب الطغراء

بسبب الطبيعة غير التصويريّة للفنّ الإسلامي، وبسبب التزام الفنّ الإسلامي استخدام تقنيات التوريق وحدها في الزخارف المعمارية، غلبت بصرياً حتّى ظنّ الأوروپي أنّ فنّ التوريق (الأرابيسك) هو فنّ إسلامي وفقط، دون العودة إلى الماضي الذي سبق الإسلام. وبسبب الأهمّيّة العالية لفنّ التوريق (الأرابيسك) في العمارة الدينيّة الإسلاميّة، وأصولها في نظرة الإسلام للعالم. وفي غياب تدوينات تاريخيّة عربيّة توضح جذور هذا الفنّ قبل اعتماده إسلامياً، درج البعض إلى درجة اعتبار هذا الفنّ فنّاً رومانياً أوروپياً استعاره المسلمون لتكوين ما صار يُنسب لهم فيما بعد. هذه كلّها فرضيّات شعبيّة، سطحيّة وساذجة، غير مطّلعة بعمق على سياق تطوّر الأرابيسك (9).

وعلى ذات السياق يرفض بعض مؤرّخي الفنّ الأوروپيّين علاقة الأرابيسك بالعرب قبل الإسلام من باب أنّ صناعة هذه الزخارف تتطلّب معرفة عميقة بعلم الهندسة الرياضيّة، وهي ما ينكرون توفّرها بين أيدي العرب قبل الإسلام. على الرغم من وجود أدلّة واضحة في بعض الحالات على امتلاك العرب لهذه المعرفة، ومن وقت طويل جداً (10). ومن المنطق، لا يمكن أن تكون المعرفة الرياضيّة العميقة قد ظهرت فجأة بين المسلمين العرب، إنّما هي امتداد لمعرفة قديمة وتطوّر لها. في الواقع، إنّ تطوّر علوم الرياضيّات الإسلاميّة أتى تلبية لحاجة تطوير الأنماط الهندسيّة الفنيّة التي يتكوّن منها التوريق (الأرابيسك). لا العكس (11).

فنّ الزخرفة بسعف النخيل، البادئ لفنّ التوريق (الأرابيسك) في جذوره، يعود في الأساس إلى جذور قديمة جداً في مصر والعراق، هذه الحضارات التي قدّرت نخلة التمر، ونشرت زخارفاً تمثّلها في كلّ مكان. وما تطوّر في الأصل تمهيداً لظهور فنّ الزخرفة النخيليّة هو استنباط نقش زخرفي قابل للتكرار، هذا النقش مستوحى من شكل سعف شجرة النخيل ومختلف عناصرها.

صفحة تظهر فيها الرسوم التوضيحية المختلفة لسعف النخيل، من كتيب زخرفة بقلم فرانز ماير Franz Meyer (1898)
صفحة تظهر فيها الرسوم التوضيحية المختلفة لسعف النخيل، من كتيب زخرفة بقلم فرانز ماير Franz Meyer (1898)

وبشكل ملفت، تصاحب زخارف سعفة النخيل القديمة على الدوام نقوش مستوحات من شكل زهرة {صَرِيمة الجَدي (العسلة)} كما لو كانت هذه التصاميم تنادي لجذب حشرات التخصيب. ويمكن كذلك مقارنة تصاميم زخارف هذه الزهرة وسعف النخلة كذلك بشكل تميمة يد {خمسة وخميسة} (12) التي ظهرت لأوّل مرة في قرطاج الفنيقيّة في تونس المعاصرة (13).

بكلّ حال، يُعتقد اليوم أنّ فنّ الزخرفة بسعف النخلة قد بدأ في مصر والعراق قبل نحو 4500 سنة (14) وأثّر هذا الفنّ بشكل عميق في العمارة العربيّة الفنيقيّة لينتقل التأثير من بعدها إلى عرب اليمن والإغريق والرومان. وكانت العناصر الأصليّة لهذا الفنّ تعتمد على سمات زهرات مختلفة بما فيها السعد البردي وزنبق الماء المصري الأبيض (اللّوتس النمري) والزنبق العربي، قبل أن يقترن بشجرة نخلة التمر.

من بعد اقتران عناصر فنّ الزخارف القديمة بنخلة التمر، صارت العناصر الكلاسيكيّة تتخذ عدّة أنماط. تحتوي جميعاً على أوراق سعفة النخل، خمسة على الأغلب أو أكثر. وفي بعض الحالات تتدلّى عناقيد التمر من كلا جانبي التكوين وتحت الأوراق السفلية. هذا النمط الفنيقي-المصري استمرّ في العمارة النبطية، وانتقل إلى الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد وزيّن الكثير من المعابد، طالما أنّ الإغريق آنذاك كانوا على ديانة فنيقية.

إفريز أيوني لإريخثوم (أثينا)، 421-406 قبل الميلاد، الآن في Glyptothek (ميونيخ، ألمانيا)
إفريز أيوني لإريخثوم Erechtheum (أثينا)، 421-406 قبل الميلاد، الآن في Glyptothek (ميونيخ، ألمانيا)

من القرن الخامس قبل الميلاد، شاع في تصاميم سعف النخيل أن تكون لها أوراق متباعدة بشكل كبير. ثمّ من القرن الرابع قبل الميلاد صارت نهايات الأوراق تميل إلى الالتفاف إلى الداخل لتشكيل ما سمّي بتصميم {السعفة المشتعلة}. هذا هو التصميم الذي تمّ اعتماده في العمارة الهيلينستية وصار مشهوراً جداً على نطاق جغرافي واسع. فوصل هذا التصميم إلى الهند وأفغانستان في القرن الثالث قبل الميلاد.

"السعف المشتعلة" حول زهرة اللوتس، في عاصمة ثور رامبورفا، الهند، القرن الثالث قبل الميلاد
“السعف المشتعلة” حول زهرة اللوتس، في عاصمة ثور رامبورفا، الهند، القرن الثالث قبل الميلاد

استمرّ تطوّر هذا الفنّ الزخرفي متفرّعاً في بلدان شتّى حول المنطقة العربيّة، سيّما في منطقة وادي السند، وفي الإمبراطورية الأشكانية، وحول البحر المتوسّط في الإمبراطوريّة الرومانيّة. ففي العهد البيزنطي تطوّر فنّ التوريق العربي إلى القاعدة التي بنيت عليها أغلب العمائر الأمويّة. ثمّ جاء عهد الإسلام الذهبي ليتّخذ من هذا الفنّ واجهة للفنون الإسلامية كلّها.

بدأت سمات فنّ التوريق (الأرابيسك) الإسلامي تتّخذ هويّتها الخاصّة في بغداد القرن العاشر، سيّما في ألواح الرخام المنحوتة زينةً للقصور والمساجد (15). أعاد الإسلام دمج ما تفرّق في الشرق والغرب في العهدين {السلوقي-الپطولمي-القرطاجي} و {الأشكاني-الروماني} بناء على التقاليد الراسخة للتكرارات النباتية.  وكان اعتمد فنّ المرحلة الأموية على ما كان موروثاً في الدولة البيزنطية من الأرابيسك، وفي العمارة النبطية من التوريق.

في ذات الوقت ظهر تأثير يمنيّ واضح في فنّ التوريق الأموي. إذ أضيفت عناصر عربيّة يمانيّة من النباتات والتكوينات، كالتوأمة التناظرية والكرمة. اكتمل تطوّر هذه الأشكال إلى فنّ إسلامي مميّز بحلول القرن الحادي عشر، بعد أن كانت قد بدأت في القرن الثامن أو التاسع في أعمال مثل واجهة المشتى. وهي جزء مزخرف من قصر المشتى الأموي السكني؛ الواقف في بادية الشام في المملكة الأردني. وفي مراحل التطوير المختلفة مالت أشكال النباتات إلى الرمزيّة وإلى التنميق بشكل متزايد (16)(17).

واجهة قصر المشتى الأموي في متحف الپيرگامون Pergamonmuseum في برلين
واجهة قصر المشتى الأموي في متحف الپيرگامون Pergamonmuseum في برلين

في الواقع، دخلت عناصر الزخرفة اليمانيّة في مدارس التوريق (الأرابيسك) من فترة تسبق الإسلام بنحو سبع قرون. وكانت قد دخلت في زخارف التوريق القبطية منذ القرن الخامس، واكتسبت قيم مسيحيّة برمزيّتها إلى خمر القدّاس (18). وكان للعنب مكانة مرموقة في نقوش زخارف القصور التدمريّة في البادية الشاميّة من مطلع القرن الأوّل قبل الميلاد. ولأنّها ظهرت في تدمر في ذلك الزمن فقد اعتقد البعض أنّ هذه الزخارف دخلت تدمر بتأثير روماني، غير أنّ الواقع أنّ تدمر لم تدخل مجال النفوذ الروماني قبل سنة 14 ميلادية (19)، أي بعد عقود كثيرة من شيوع استعمال العنب ورمزيّته في زخارف التوريق التدمرية. 

توريق معماري مع تعزيز بالعنب من تدمر
توريق معماري مع تعزيز بالعنب من تدمر

يحتفظ متحف القاهرة للفنّ الإسلامي بقطعة حشوة من الخشب لزخرفة توريق (أرابيسك) نباتية من أوراق العنب وعناقيده، كان قد عُثر عليها في جنوب سوريا المعاصرة وتعود إلى القرن السابع. وتذكّرنا هذه القطعة بزخارف توريق قبّة الصخرة في القدس وقصر المشتى في بادية الشام في المملكة الأردنية. أطلق الفنّان المسلم يده في استخدام ورق العنب كموضوع لزخارف التوريق التي أخذت بالتطوّر تدريجياً نحو سمات مميّزة إسلاميّة. إذ مع أنّ حركة اندماج الأغصان المذكورة تُعتبر ابتعاداً عن الطابع الهيلينستي؛ إلّا أنّها كانت ما تزال محتفظة ببعض العناصر الهيلينستية والبيزنطية، مثل أوراق الشجر البيضاوية ذات المحيط المسنّن، وتعريق سعف النخيل وأوراق العنب الخماسيّة وعناقيده (20).

قطعة حشوة من الخشب لزخرفة توريق (أرابيسك) نباتية من أوراق العنب وعناقيده، كان قد عُثر عليها في جنوب سوريا المعاصرة وتعود إلى القرن السابع. متحف الفن الإسلامي في القاهرة
قطعة حشوة من الخشب لزخرفة توريق (أرابيسك) نباتية من أوراق العنب وعناقيده، كان قد عُثر عليها في جنوب سوريا المعاصرة وتعود إلى القرن السابع. متحف الفن الإسلامي في القاهرة

في منتصف القرن التاسع بدأ العرب باستعمال خطّ الجزم العربي كعنصر إضافي إلى زخارف التوريق (الأرابيسك)، أضاف رونقاً وجمالاً باهراً في الزخارف العربية، شجّعت غير العرب لنسخ هذه الزخارف كما هي، حتّى أنّها وصلت إلى غير المسلمين في أوروپا نسخاً بحروفها العربية، ولو أنّ الناسخ لم يفهم ما هو المكتوب. إنّما، اعتبره من العناصر الجمالية المميّزة للنقش، والضروريّة للزخرفة (21).

إناء خزفي مزخرف بالخط العربي.
إناء خزفي مزخرف بالخط العربي.

في وقتنا المعاصر تطوّر مبدع زخارف التوريق (الأرابيسك) إلى استعمال الأدوات الحديثة، من ماكينات الحفر CNC إلى أدوات القطع بالليزر، بتصاميم تساير الذوق العربي والغربي. غير أنّ استعمالات الأدوات الحديثة للإبداع في عالم التوريق لم يزل في طور الحبو، في غياب الأكاديميّات الفنّيّة التي تقدّم دراسات متكاملة عن تراث هذا الفنّ الرائع. مع الاعتماد كلّيّاً على مصادر ومراجع غرب أوروپيّة قديمة استنكرتها الأكاديميّات الأوروپيّة نفسها، لما فيها من تشويه عنصري لتاريخ فنّ التوريق (الأرابيسك) العربي الرائع.

هذا الفُليم القصير يشرح ببساطة سبب اهتمام العرب منذ القدم بعلوم الحساب والرياضيّات، ولماذا جلّ فيهم هذا العلم حتّى أبدعوا فنّ التوريق العربي، الأرابيسك، الذي رفع عمدان عمارة أوروپا وكلّ العالم القديم. ثمّ لمّا حلّ الإسلام صار هذا الفنّ أساس لفنون العمارة الإسلامية جميعاً.

عظُمت حضارة العرب حين أجلّ فيهم العارف علوم الحساب والرياضيّات. وخابت العرب يوم تخلّت عن هذا العلم. ولا عودة لمجدها بغير استعادة الرفعة لشأن علوم الحساب والرياضيّات.


Animation by Cristóbal Vila (2019)
Music: “Heartbeat” by Cedric Baravaglio (2012), from the album Atmostra III

قد تهمّك قراءة موجز من {حكاية الزليج المغربي، من مصر القديمة إلى فاس} من هنا

وفي هذه الحال، لا بدّ أن تتعرّف بحكاية {القمرية العربية نافذة اليمن إلى قمر السماء} من هنا

المراجع

1 “Arabesque | Definition of Arabesque by Lexico”. Lexico Dictionaries | English.

2 Diccionario visual de términos arquitectónicos. Adoración Morales Gómez; editorial Cátedra, Madrid, 2008

3 Osborne, Harold (ed), The Oxford Companion to the Decorative Arts, 1975 p. 34.

4 أحمد عيسى، 1931. معجم أسماء النبات. وزارة المعارف العمومية، القاهرة. الطبعة الأولى. ص 3.

5 Lewis, Philippa; Darley, Gillian (1986). Dictionary of Ornament. New York: Pantheon. 

6 Fuhring, Peter, Renaissance Ornament Prints; The French Contribution, in Karen Jacobson, ed (often wrongly cat. as George Baselitz), The French Renaissance in Prints, 1994, Grunwald Center, UCLA. p. 162.

7 Fleming, John; Honour, Hugh (1977). Dictionary of the Decorative Arts. Penguin

8 Rawson, Jessica, Chinese Ornament: The Lotus and the Dragon, 1984, British Museum Publications. p. 236

9 Tabbaa, Yasser, The transformation of Islamic art during the Sunni revival, I.B.Tauris, 2002. p. 74-77

10 Tabbaa, Yasser, The transformation of Islamic art during the Sunni revival, I.B.Tauris, 2002. p. 88

11 Canby, Sheila, Islamic art in detail, US edn., Harvard University Press, 2005. p. 20-21

12 “Silver jewelry, judaica and Christian gifts – Sterling Silver Jerusalem Hamsa”. Caspi Silver.

13 Kashgar. “The Hamsa (Khamsa)”.

14 E.H. Gombrich, The Sense of Order, A study in the psychology of decorative art, PHAIDON second edition, London 1984 page 181

15 Bloom, Jonathan; Blair, Sheila S.; Blair, Sheila (2009). Grove Encyclopedia of Islamic Art & Architecture: Three-Volume Set. Oxford University Press. p. 65. 

16 Tabbaa, Yasser, The transformation of Islamic art during the Sunni revival, I.B.Tauris, 2002. p. 75-88

17 Canby, Sheila, Islamic art in detail, US edn., Harvard University Press, 2005. p. 26

18 نشأت حسن محمّد جابر، الزخارف النباتية ورمزيّتها في الفنون المسيحية. 2020. 

19 Bryce, Trevor (2014). Ancient Syria: A Three Thousand Year History. Oxford University Press. p. 278

20 دراسة تحليلية لبعض العناصر الزخرفية الأموية في كلّ من مصر والشام. مجلة التربية النوعية لجامعة المنصورة، عـ34 نيسان أبريل 2014

21 Razwan Baig – London UK. Qur’anic History and the Role of Islamic Calligraphy. 2016

الإعلان

4 رأي حول “فنّ التوريق العربي، من حضارة مصر القديمة إلى الزخرفة الإسلاميّة”

      1. كل التوفيق أستاذي الكريم كم أنا فخور بك وبخوضك في هذا المجال الفني الرائع الملهم للقارئ العربي والتنويري في آن واحد .فهل هناك علاقة بين فن المعمار واللباس ؟

        إعجاب

      2. شكراً جزيلاً على كلامك الجميل أخ عبد الله. دائماً وعبر التاريخ ما ارتبطت زينة الملابس بفنّ المعمار، فكليهم من الفنون البصرية، والعين تتأثر وتعتاد.

        إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s