النسر، الذي تتغنّى به أغلب الرموز السياسيّة اليوم، على أنّه تراث روماني أو إغريقي، هو في الواقع من التراث العربي… لم يعرف التاريخ بلداً عربياً قديماً لم يتّخذ من النسر رمزاً له، قبل الإغريق وقبل الرومان، ومن عصر المورو. حتّى أنّ المدن العربية كانت تضع رمز النسر على مداخلها بديلاً عن اسم الهُوِيَّة العربية.
الصورة هنا من القرن الأوّل، نحت نبطي لنسر يحمل البرق تحت مخالبه، كان النسر رمز شائع مرتبط بالإله العربي الأعلى دُسارة أو دوشرع (ذو الشرى)، وتركت العرب الدواسر له منحوتات على نطاق واسع في مقابر الحجر في البتراء بصفة مصدر للحماية الإلهية ضدّ اللصوص وتجده في كلّ مكان إن جلت حوران أو الأرْدُنّ أو فلسطين أو السُّعُودية، وكذلك في العديد من المدن المهجورة في الجزيرة العربية.
وذو الشرى هو ابن عشتار، استمرّت عبادته عند بعض العرب من العهد السومري حتّى العهد المسيحي، وبأسماء مختلفة. وفي آخر عهوده العربية عُرف عبدته باسم الدوسريّين، وكان منهم والد الإمبراطور الروماني فيليپ العرب. حتّى يكاد علم الآثار أن يقول أنّ الديانة المسيحيّة التي حاول فيليپ تحويل روما إليها هي في الواقع ديانة ذو الشرى نفسها.
{ذو الشرى} 𐢇𐢎𐢕𐢏𐢄𐢇 هو اسمه المعيني اليماني، أمّا اسمه النبطي فكان {دوشرع} 𐢅𐢈𐢝𐢛𐢀، وفي بعض اللّهجات اليمانية كذلك {ذو سراة} و {دوسرات} ومنه اسم جبال السرات والسروات الممتدّة اليوم في المملكة السُّعُودية واليمن، وعلى أعلى قممها تتربّع مدينة المحجّ القديمة لذو الشرى: مدينة القليس؛ صنعاء.
اسمه السومري هو {شره} 𒀭𒁈 (شرع، ساره) وهو ابن {إننّة} العذراء؛ التي عُرفت ومنذ العصر البابلي باسم عشتار، بتشكيلاته المختلفة. وكان شره هو القمح وهو الشعير وهو واهب الخير والحبوب، ومن جسده أكلت الناس خبزاً كافياً كلّ يوم (خبز الشعير) ومن دمه شربت الناس خمراً شافياً كلّ يوم (البيرة ولاحقاً نبيذ العنب).
قدّست العرب النسر والطير منذ العهد الموري الأوّل، عهد المورو (الأمو، الأموريّين) الذين كانوا إذا مات منهم أحد، رفعوا جسده إلى أعلى قمم الجبال لتأكلها النسور، وظنّوا هكذا أنّ الخالق يستعيد الجسد المَيِّت فترفعه إليه النسور. وعليه عدّوا أن النسر المحلّق هو عين اللّه ترقب الناس من العُلا، فهو الرقيب من يخبر اللّه عن العصاة كي ينولوا العقاب. وهو العتيد من يحمل البرق كي يضرب به المفسدين في الأرض. وهو الرسول من يحمل شرع اللّه إلى أهل الأرض فتنتظم حياتهم.
يعود استعمال النسر كرمز سياسي بين العرب إلى أكثر من خمس آلاف سنة، طالمَا أنّه كان بالأساس رمزاً دينياً وإلى زمن يعود عمقاً إلى ثماني آلاف سنة على الأقل.
قدّس قدامى العرب كل شيء حي من حولهم تقريباً، وفي عرفهم كان الحيّ هو ما يتحرّك ويتغيّر، وغير الحي هو الجامد الذي لا يتغيّر. لذا، فالكواكب والنجوم مثلاً في أعراف قدامى العرب كانت أشياء حيّة لأنّها تتحرّك وتتغيّر مواضعها، وكذلك الأنهار والأراضي الشاش والعدن، لأنّ غطاءها النباتي يتغيّر مع المواسم.
وعلى هذا فالعرب فعلاً قدّسوا قديماً كلّ شيء حي، ولا أرى هذا الفكر العربيّ القديم من السذاجة والجهل. إنّما أراه من رهافة الحسّ وتقديس الحياة نفسها. فالعربيّ القديم رأى نفسه جزء من كلّ شيء حيّ، مكمّل للحياة وهي متمّمة له. لذا رأى العربي القديم قيمة عالية لكلّ صنف من أصناف الحياة من حوله.
طبعاً، يختلف مفهوم التقديس عند العربيّ القديم عن مفهومه المعاصر. فمع أنّ العربيّ القديم رأي أنّ لكلّ شيء حيّ تأثير على حياته، بحكم أنّه هو نفسه جزء من منظومة متكاملة بالحياة، لكن، لم تصل فكرة تقديس الأحياء عند العربيّ القديم إلى التأليه، إنّما كانت أقرب إلى التقدير والامتنان. فلم يعتبر كلّ ما قدّسه آلهة.
مراجع
- كتاب “الأديان العربية في الجاهلية” لجواد علي – يعد هذا الكتاب مرجعًا مهمًا في دراسة الأديان والمعتقدات العربية قبل الإسلام.
- كتاب “ثقافة العرب قبل الإسلام” لتوفيق الطويل – يوفر نظرة على الحياة الدينية والثقافة في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.
- كتاب “معجم الآلهة والأساطير في الشرق القديم” – يحتوي على تفاصيل حول الآلهة والأساطير في الحضارات القديمة بشبه الجزيرة العربية.
- كتاب “النبطيون: تاريخ وحضارة” – يتناول تاريخ النبطيين ودورهم في المنطقة ويشير إلى استخدام الرموز مثل النسر.
- المقالات العلمية المنشورة في مجلة “الآثار العربية” – تشمل دراسات في النقوش والرموز الدينية.
- مقالات موقع “الموسوعة البريطانية” – تحتوي الموسوعة على مقالات حول النسر كرمز في الحضارات القديمة.
- الموقع الرسمي لمكتبة الكونغرس الأمريكية – يمكن البحث عن صور ووثائق تاريخية مرتبطة بالبتراء واستخدام النسر كرمز.
- كتاب “الحضارة السومرية” – يقدم معلومات عن الديانات والآلهة في العصر السومري، بما في ذلك علاقتها بالآلهة الأخرى كعشتار.
- كتاب “الأموريون والشرق القديم” – يتناول تاريخ الأموريين والممارسات الدينية المرتبطة بهم.
- موسوعة الديانات العالمية – تقدم معلومات حول مختلف الديانات وممارساتها في الشرق الأوسط القديم.
اترك رداً على روان ياسين إلغاء الرد