اليوم، تتعلّم كلّ بنت الطبخ عن أمّها وأمّ زوجها، فهل كان هذا هو الحال على الدوام؟ أم في التاريخ أمثلة عربيّة مختلفة؟
في أواخر عهود الأندلس وبعد أن استقلّت عن مملكة مراكش في أربعينيّات القرن 13؛ انقسمت مملكتين، مملكة الأندلس على الغرب، وكانت عاصمتها إشبيلية. والمملكة النصريّة على الشرق، وكانت عاصمتها غرناطة. وفي تلك المملكة الإسلاميّة على الغرب، التي حافظت على اسم المملكة الأندلسيّة شاع منطق وعادات جميلة جدّاً، لم تزل تحافظ عليها دول غرب أوروپا إلى اليوم.
في مملكة إشبيلية، ولتوحيد العادات الاجتماعيّة، نشرت الدولة مفهوم المدرسة لكلّ شيء، وهو مفهوم موروث عن الخلافة العبّاسيّة ومدارس الدولة السلجوقيّة النظاميّة في العراق. لكن، بتطوير أعمق أدخل المدرسة إلى كلّ نواحي الحياة بلا استثناء. حتّى زراعة وتزيين حديقة المنزل كان لها مدرسة. وعادات الضيافة كان لها مدرسة.
كان على البنات مثلاً الذَّهاب إلى مدرسة خاصّة لدراسة آداب الأسرة، ومهارات الحياة المنزليّة، قبل الزواج. البنت التي لم تذهب إلى هذه المدارس لا يخطبها أحد. وفي تلك المدرسة تدرس البنت آداب التواصل والحوار، حسن التصرّف والتدبير المنزلي، فتتعلّم كيف تضبط ميزانيّة البيت وتحرص على المصروف. وتتعلّم كيف تصلح الثياب وتطيل من عمرها، وتتعلّم الطبخ وفنونه حتّى تصبح من المتخصّصات… حتّى ولو كان في بيتها خدم وطبّاخين… وكان للفتيان مدارس مماثلة، لتخصّصات مختلفة.
في الواقع، كانت مدارس الزواج هذه تعمل أحياناً في مثابة مستشار للعلاقات الزوجية. فلو وقع خلاف بين زوجين قد يسير إلى الطلاق، يستشيرون أساتذتهم القدامى في المدرسة لحلّ المشكلة. وهذه تقنية ممتازة لحل المشاكل الأسرية.

هذه المدارس ولو أنّها حافظت على تمييز اجتماعي شديد ما بين الأنثى والذكر، غير أنّها حرصت على التراث وعلى نقل حرفيّ ودقيق لميراث الأجداد المعرفي والعرفي، فكان الجميع خبيراً فيم يفعل، يدرك في منطقه أنّ المعرفة تحتاج إلى مدرسة لتمريرها، وتحتاج إلى أستاذ لاقتباسها. وأنّ المعرفة لا تقتصر على ميراث البيت، لأنّ معارف البيت ناقصة غير مكتملة. هذه العادات أنتجت مجتمعاً علميّاً منفتحاً ذو مناعة قويّة في وجه علم التجهيل (الأغنوتلوجي). وهذا كان سبب ازدهار النهضة العلمية المتفوّقة في الأندلس.
بكلّ حال، شاعت هذه المفاهيم بين الناس وصارت العادات أن يخرج الفتيان والفتيات لتعلّم كل شيء في مدارس متخصّصة، إلى جانب المدارس الأكاديميّة. فلكلّ حرفة مدرسة، ويحقّ لأيّ كان الانتساب إليها لدخول مسار مهنيّ ما. ولكلّ مسؤوليّة من مسؤوليّات الحياة مدرسة متخصّصة كذلك، ينتسب إليها اليافعون جميعاً قبل المتابعة في مراحل الحياة. إذ كان للطبخ مثلاً مدارس مختلفة التخصّصات، خبيز، حَلْوَيَات، مازات، شواء… لكلّ واحدة من هذه التخصّصات مدرسة متخصّصة بها. وكل المهنّ والحرف غيرها على ذات السواء.
هذه العادات نقلتها الممالك القُسطانية عن الأندلس ثمّ نقلتها إلى عموم فرنسا بعد دمج القسطانيّين في فرنسا. ونشرتها فرنسا لاحقاً في عموم غرب أوروپا، ولم تزل هذه المفاهيم، نوعاً ما، مستمرّة تجسّد المنطق الغربي في التفكير. وباعتقادي، هذا كان السبب الحقيقي للنهضة الأوروپيّة التي صارت في بعض مراحلها ثورة صناعيّة غيّرت وجه العالم.
في زهو ازدهار الأندلس العربيّة، كانت المناطق القسطانيّة occitan جَنُوب فرنسا على علاقات وثيقة بالعرب. ما أنتج اللّغة القسطانيّة نفسها دون أن يحكم العرب فرنسا. وهي لغة ناتجة عن اندماج اللّغة الغاليّة الرومانسية باللّغة العربيّة. حتّى أنّ بعض المدن القسطانيّة لم تزل إلى اليوم تحمل أسماء عربيّة مثل مدينة Ramatuelle المُشتق اسمها من {رحمة الله}، ومدينة Almanarre المُشتق اسمُها من {المنارة}. هذه المناطق هي التي نقلت مفاهيم المجتمع الإشبيلي العربي إلى فرنسا، ومن ثمّ إلى غرب أوروپا والحضارة الغربية كلّها.
منذ القرنين 12 و 13 فصاعدًا، كانت فرنسا منشأ إنتاج ثقافي نابض بالحياة امتدّ عبر معظم أوروپا الغربية، بما في ذلك الانتقال من العمارة الرومانية إلى العمارة القوطية (التي نشأت في فرنسا في القرن 12) والقوطية فن؛ تأسيس جامعات العصور الوسطى (مثل جامعات پاريس (المعترف بها عام 1150) ومونبلييه (1220) وتولوز (1229) وأورليانز (1235) وما يسمى {عصر النهضة في القرن الثاني عشر} هو مجموعة متنامية من الأدب الشعبي العلماني (بما في ذلك القصائد الملحميّة، ورومانسية الفروسية، وشعر التروبادور والتروڤير، وما إلى ذلك) وموسيقى القرون الوسطى (مثل ازدهار مدرسة نوتردام لتعدد الأصوات من حوالي 1150 إلى 1250 والتي تمثّل بداية ما يعرف تقليديا باسم الفنّ القديم Ars antiqua).

اليوم، نحن لا نعلم إلا القليل جدّاً عن مملكة إشبيلية الأندلسيّة وتاريخها. لكنّني أظنّ أنّ خلاصة تقدمّ العراق العلمي وتراث دار الحكمة قد تابع تطوّره في هذه المملكة من بعد خراب العراق سنة 1258 وصنع حضارة العالم الغربي. في الوقت الذي فقد فيه الشرق الأوسط هذه المعرفة، بفعل 260 سنة من ضغوط الحكم العسكري الأغنوتلوجي.
كانت إشبيلية في القرن 13 أعظم حواضر الأندلس، وأمنعها حصونًا، وأكثرها سكانًا، ومركزًا لحكومة دولة مراكش الموحّديّة في الأندلس. وتوالت عليها حكومات متعدّدة؛ فتارّة تحت طاعة الموحّدين، وتارة أخرى تخلع طاعتهم، إلى أن ألقت بمقاليدها عن رضى واختيار إلى دولة قشتالة المسيحيّة. سنة 1244 ولحماية استقلاله عن المرينيّين، قام حاكم إشبيلية {يحيى بن عبد الملك بن محمد الحافظ أبى بكر} المعروف باسم {أبو عمرو بن الجد} بتوقيع معاهدة مع قشتالة تنصّ على أن تكون مملكة إشبيلية تابعة لمملكة قشتالة، وأن يحضر اجتماعات البلاط القشتالي لأنّه أصبح أحد ملوك المملكة القشتالية، وأن يؤدّي الجزية لملك قشتالة، وأن يقدّم له العون متى طلب إليه ذلك. ثمّ استجلب حرّاساً حفصيّين من تونس لحماية عرشه واستبداده بالحكم، وكان الحفصيّون قد تعاهدوا مع القشتاليّين كذلك. فثار الناس على {أبو عمرو بن الجد} بعد سنتين وخلعوه وأعلنوا بطلان المعاهدة، ما أغضب الملك القشتالي {فرناندو الثالث} فأمر قوّات غرناطة وقرطبة النصريّة بالزحف واستعادة السلطة في إشبيلية، ونجحت تلك القوّات بعد حصار سنة ونصف وأخضعت إشبيلية للعرش القشتالي، ونفي مسلميها ويهودها إلى غرناطة.
بعد دخول قوّات ملك قشتالة {فرناندو الثالث} إشبيلية نهاية سنة 1248، وكانت قوّات مسلمة بالمناسبة بقيادة حاكم غرناطة {الغالب بالله محمد بن يُوسُف بن محمد بن أحمد بن نصر بن الأحمر}، دخلت مملكة إشبيلية الحماية القشتالية وتغيّرت فيها السلطة إلى أيدي المسيحيّين ولو أنّ الحكومة بقيت مشتركة مسيحية-مسلمة حتّى القرن 15 وعهد طرد المورسكيّين. وبقيت الدولة على حالها ستّ قرون إلى أن قامت إسپانيا بحلّ مملكة إشبيلية سنة 1833 وبدأ من بعدها عهد الإفقار والقمع القومي.
تراثنا اليوم بحاجة ماسّة إلى أكاديمية عربية للطهي. وغيابها يهدّد باندثار تراث عظيم.

يذكر تشارلز پيري أن كتب الطبخ لم تظهر على الساحة الأدبية العالمية حتى بدأ الناطقون باللغة العربية بجمع وصفاتهم في القرن العاشر. وصلت شعبيتها إلى ذروتها في القرن الثالث عشر، وتضمنت كتباً مثل كتاب الطبيخ للوراق، كتاب الطبيخ البغدادي وكتاب الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب الحلبي. هذه الكتب لا تزال مصدراً للمعرفة والاستمتاع للذواقين ولمؤرّخي التراث على حد سواء.
تشارلز پيري Charles Perry هو مؤرّخ طهي متخصص في الطبخ في الشرق الأوسط خلال العصور الوسطى. نشر وناقش تاريخ الطعام في المنطقة وقام بترجمة عدد من النصوص الكلاسيكية إلى الإنگليزية، بما في ذلك كتاب فن الطبخ الأقدم: كتاب الطبيخ.
يُعدّ كتاب الطبيخ للورّاق أقدم كتاب طبخ في العالم، حيث وضعه ابن سيار الورّاق بطلب من الخليفة العباسي وكان مرجعاً لأكاديمية الطبخ الملكية العباسية في بغداد. ويُذكر أنّ الذائقة العباسية سيطرت على مطابخ الشرق الأوسط بين القرنين التاسع والثالث عشر. فرغم أنّ وصفات المنطقة تمثّل استمراراً لتراث مطابخ حضارات المنطقة القديمة، إلا أن العديد من كتب الطبخ من ذلك الوقت تذكر الأمراء العباسيين والخلفاء وزوجاتهم وتأثيرهم على هذه الأكلات.
استمرّ هذا الاهتمام بالذائقة العباسية في الطعام حتى العهد العثماني. ففي القرن السادس عشر وعندما أسّس العثمانيون أكاديمية ملكية للطبخ في القسطنطينية، تُرجم كتاب الطبيخ البغدادي وجرى اعتماده كمرجع أساسي للمطبخ العثماني الحديث، ممّا يدل على استمرار العثمانيين في اتّباع هذه التقاليد والاهتمام بالذائقة العباسية كمصدر رئيسي لوصفات الطعام، ولقرون عديدة بعد القرن الثالث عشر.
وهكذا، يكون المطبخ العبّاسي قد تحكّم بذائقة الشرق الأوسط في الطعام لأكثر من ألف سنة، لم تزل آثارها مستمرّة إلى اليوم.
اترك تعليقًا