, , , ,

أطياف البَشَرَة العربيّة

الإعلانات

قد يكون أكثر ما يشغل أذهان العروبيّين أو القوميّين العرب هو لون البَشَرَة، وتقييم عروبة الناس بناء عليها. هذا يظنّ أنّ العرب في الأصل كذا، وآخر يعاكسه بظنّ مختلف تماماً. وبغضّ النظر عن عنصريّة فكرة تقييم الهويّات والجذور بناء على “اللاحة” و “الهيئة” المتمثّلة بلون البَشَرَة. فأحبّ هنا مناقشة تراث بعض أهمّ أقطاب العرب، طوال القرون العشرين الماضية، وكيف أنّ من شعراء ما قبل الإسلام من العرب من مدح شدّة بياض المرأة العربيّة، ومنهم من مدح سُمرتها! وهذا ردّ بسيط على من يبغبغ، بلا وعي ولا فهم، أنّ العرب كانوا بلون كذا… ثمّ دخلت فيهم الألوان المختلفة.

يقول بعض العرب في لون بشرتهم أنّها خضراء أو خمريّة، وهي تسمية تختلف بمعناها ما بين لهجات العرب المختلفة. وما يجهله أغلب عرب اليوم، بفضل تفاهة الإعلام المعاصر، أنّ التصنيف العلمي للبشرة الخضراء يعطيها درجات، هي في الواقع تمثيل لطيف ألوان بَشَرَة أغلب العرب. من اللّون الحنطي المصفر إلى اللّون البنّي الداكن شديد الدكن، كلّها في الحقيقة مجرّد درجات لذات اللّون، المعروف في اليمن باسم الخمري، والمشهور في علم الإنسان باللّون الزيتوني.

البَشَرَة الزيتونيّة هي في الواقع بَشَرَة تتأثّر بظروف مختلفة، أهمّها UV الشمس وتتغيّر درجاتها ما بين البنّي المحمرّ والأخضر والذهبي والبنّي الفاتح والمعتدل وحتّى الأصفر… وهذا الأخير هو أصفر تَغْلِبُ الذي وصفه شعراء العصور القديمة، لون عاجيّ أبيض مائل إلى الصفرة.

إذاً، جميعها: ما يسمّى بالأبيض بين العرب، وما يسمّى بالبنّي الداكن والأسمر… كلّها طيف لنفس البَشَرَة، نفس الجلدة، نفس الجينات، وقد ينجب البنّي حنطيّ وبالعكس. وفق لظروف البيئة من ضوء ومأكل وغيرها. فأصحاب البَشَرَة الزيتونيّة معروفين بشحوب ألوانهم إذا قلّ تعرّضهم لأشعة الشمس لفترات طويلة، أو إذا تغيّرت درجة الـUV، كما أصابني في برلين. وكذلك تتميّز البَشَرَة الزيتونيّة، مهما كانت فاتحة، بقدرتها السريعة على اكتساب السُمرة. فأصلها داكن، وتعود إليه أسرع من غيرها. مع ذلك، تحتفظ بدرجات من اللّون الأصفر أو الأخضر الواضح. (حسب مسمّيات لهجات العربيّة).

ويتشارك العرب من أصحاب البَشَرَة الزيتونية لونهم هذا وسمات بشرتهم البيولوجيّة مع أغلب سكّان منطقة البحر الأبيض المتوسّط وآسيا وأميركا اللاتينيّة، وبعض الهند وبعض أفريقيا. فقد تجد من يحمل بَشَرَة زيتونيّة بين العرب والإغريق والإيطاليين والصينيّين، وهي أكثر الشعوب تميّزاً بهذه البَشَرَة.

ألوان البَشَرَة الأكثر شيوعاً بين العرب، أطياف البَشَرَة الزيتونية الخضراء الخمرية، وكلّها أسماء لنفس الجلدة
ألوان البَشَرَة الأكثر شيوعاً بين العرب، أطياف البَشَرَة الزيتونية الخضراء الخمرية، وكلّها أسماء لنفس الجلدة

وفي الصورة هنا، تدرّجات طيف البَشَرَة الزيتونيّة، الخضراء الخمريّة، الأكثر شيوعاً بين البشر من حملة البَشَرَة الزيتونيّة. ولو وقعت على عرب بهذه الألوان فهم عرب، وألوانهم متغيّرة ليس بسبب نسب مغولي أو تركي أو أفريقي… هم عرب، ذوي بَشَرَة زيتونيّة، تغيّرت درجة اللّون فيهم، لكنّ لون الجلد واحد.

فلا تكن عنصريّاً على بني جلدتك… “جلدتك”.

وصف اُمْرُؤُ القَيْس حُنْدُجُ بْنُ حُجْرُ بْنُ الحَارِثِ الكِنْدِي نظرته إلى الجمال الأنثوي فقال أجملهنّ امرأة دقيقة الخصر ضامرة البطن غير عظيمة البطن ولا مسترخية، وصدرها برّاق اللون متلألئ الصفاءة كتلألؤ المرآة وجيدها جيد الرئم، وعيونها عيون المها، واللون المحبب هو اللون الأبيض المشوب بصفرة تشبه بيض النعام، وأمّا القامة فإنّها لا يشتكى قصر منها ولا طول، معتدلة في طولها… وامرؤ القيس شاعر وزعيم أخواله من تغلب وبكر من الجزيرة حيث عاش في القرن الأول قبل الهجرة.

لكن، يبدو أن ذوق تغلب تغيّر بعد ثلاث عقود فقط! فالمرأة من وجهة نظر أبُو الأَسْوَدِ عَمْرُو بْنُ كَلْثُوْمٍ التَّغْلِبِي هي امرأة سمينة بذراعين ممتلئتين، وثدي مثل حُق العاج بياضا واستدارة، وقامتها لينة طويلة تتثنى وأردافها ثقيلة تتناغم مع تلك القامة بجمال آسر، يأخذ بالألباب، وأما الأوراك فضخمة ممتلئة لحما، يدل على دلالها، وساقين كأسطوانتين من رخام أبيض أو عاج.

يتّفق ذوق تغلب في كلا القرنين الثاني والأول قبل الهجرة على البياض العاجي المشوب بصُفرة، وهو فعلاً صنف بياض أهل الجزيرة وأهل امتدادها الغربي غرب الفرات حتى اليوم… غير أنّ الحسناء في وصف امرؤ القيس نحيلة أقصر ودقيقة الخصر طويلة الرقبة النحيلة، أمّا في وصف عمرو بن كلثوم فإنها ممتلئة طويلة عظيمة الأرداف والأوراك والصدر.

إذا كانت تغلب وبكر لم تتّفق على صفات الجمال الأنثوي العربي، فهل نتّفق عنهم اليوم؟

الأبيض العاجي المشوب بصفرة، بياض بَشَرَة تغلب
الأبيض العاجي المشوب بصفرة، بياض بَشَرَة تغلب

وبينما يسهل التقاط وصوف الشكل والجمال في قصائد شعراء عرب منطقة الجزيرة القدامى شمال شبه الجزيرة العربية، يصعب ذلك في الموروث من قصائد شعراء عرب جَنُوب شبه الجزيرة العربية، اليمانية. فالعرب اليمانيّة أكثروا من مدح السلوك والتصرّفات والعادات والملابس والحركات، وركّزوا على الآداب قبل أيّ شيء آخر. مع الإقلال من وصف الأشكال. مقارنة بعرب الجزيرة القيسيّة.

لكن، ممّ جمعته حتّى اليوم يمكنني القول أنّ الشكل الأنثوي الممدوح لم يتغيّر عند اليمانيّة ولا في اليمن طوال أكثر من عشرين قرن. فالممدوحة اليوم هي ذاتها الممدوحة أمس، وتكون سمراء خمريّة، بخدود زهريّة متورّدة، وأجفان ذابلة، وشفاه مكنوزة، دقيقة الخصر، ضامرة البطن، ضخمة الأرداف، سمينة الأوراك.

كما أنّ الشعر اليمنيّ القديم مدح استدارة وجه المرأة، تشبيها لها بالقمر البدر… وما كان القصد التشبيه بلون بياض القمر، إذ كان هذا من ألوان العزاء والموت عند القدامى من العرب اليمانية، ومذموم في صفات الشكل وما عدّه الناس من صفات الجمال. لكن، استدارة الوجه كانت هي المقصد المطلوب المرغوب، تزيّنه الأعين الواسعة البلقاء (الحوراء) التي يتمايز فيها بياضها الشديد عن سوادها الداكن.

أمّا في صفة الخمريّة، وهي أكثر الصفات جذباً عند اليمانية، وهم في الأصل أكثر من ربط خمرة مُزر الأعناب بكلّ تفاصيل حياتهم. فقد طرحت السؤال في مجموعة معجم اللّهجات العربية وتبيّن من الإجابات أنّ صفة الخمريّة تحمل أربع معاني مختلفة جدّاً ما بين أقطار بلاد العرب. ففي الجزيرة الخمريّة هي الورديّة، المرأة البيضاء ذات الأطراف الزهريّة وبياضها تشوبه صُفرة. وفي مصر والسودان هي السمراء المائلة بلونها إلى لون القمح الذهبي في موسم الحصاد. أمّا في بلاد المغرب العربي فالخمريّة هي ذات اللّون القمحي كذلك، لكن أظنّها الحنطيّة (بتعاريف الشام) التي تحمرّ خدودها بسهولة ووضوح، وهذه تبدو كأنّها مرشوشة بالذهب تحت سطعة أشعّة الشمس. ولونها فاتح؛ أوّل درجات السُمرة بعد البيضاء مباشرة.

أمّا في اليمن، فالخمريّة هي التي بلون أسمر بنّي محمرّ، سُمرتها أكثر من حنطيّة، وأقل من سمراء. ونرى هذا اللّون ذو انتشار واسع على سواحل المتوسط كلّها، وحول البحر الأحمر كلّه، باختلاف تسمياته. وهو في الواقع لون بَشَرَة الحِميريّين وسبب تسميتهم. لأنّ وجناتهم تبدو تحت سطعة الشمس حمراء لاهبة.

الحنطي-الأسمر البنّي المحمر، خُمرة بَشَرَة حِمير
الحنطي-الأسمر البنّي المحمر، خُمرة بَشَرَة حِمير

هذا اللّون هو النسخة الداكنة من لون البَشَرَة الحِميَري المسمّى في اليمن بالخمري. وكما أسلفت أمس، يختلف خمري اليمن عن خمري باقي العرب.

لكن، لون البَشَرَة هذا منتشر حول سواحل المتوسط كلها، وهو شائع كذلك على سواحل البحر الأحمر، ونجده في الكلدانيين والموارنة، وفي مناطقنا حيث عرب جَنُوب أوزبكستان. ويسمّى بسُمرة عرب المتوسط. والبعض كذلك يسمّيه بالسُمرة الفنيقية.

سمرة الخمري، سُمرة عرب المتوسط
سمرة الخمري، سُمرة عرب المتوسط
الإعلان
الإعلانات

صورة أفاتار مؤنس بخاري
الإعلانات

تعليقات

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم

%d مدونون معجبون بهذه: