يظنّ الكثيرون أنّهم يجيدون لغتهم الأم بدرجة مطلقة… غير أنّ هذا مستحيل علمياً وتقنياً، ونحن كبشر بحاجة إلى الاقتناع بهذه الحقيقة لكي نقدر على تطوير مهاراتنا اللّغوية، وتقديم احترام أفضل إلى لغة الأجداد، منجزهم الحضاري، وإلى تنوّع اللّهجات واللّكنات الواسع… وهذه التدوينة لأشرح السبب، ووجهة نظري في الموضوع.
يمكن القول بأنه لا يوجد إنسان يجيد لغته الأم بمستوى 100٪. إذ، حتى المتحدثين الأكثر إلماماً بلغاتهم الأم قد يجدون صعوبة في فهم بعض الكلمات أو العبارات المعقّدة أو المتخصّصة في مجالات معينة أو المحلّيّة في بيئات منعزلة. وعلاوة على ذلك، يمكن أن تتغير اللغة بسرعة عبر الأجيال وبتغيّر العادات، وتُضاف كلمات جديدة وتُلغى بعض الكلمات القديمة التي يبقى تداولها منحصراً في جيل معين، ممّا يجعل من المستحيل معرفة كل كلمات اللغة بشكل كامل. فاللغة هي نظام مفتوح ويتطور باستمرار ويضم عددًا هائلاً من الكلمات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن اللغة ليست مجرد قائمة من الكلمات المعروفة، بل تتألف من قواعد نحوية وصرفية ودلالية تتغيّر هي الأخرى عبر الزمن والبيئة. ما يجعل تعلم والاحتفاظ بجميع الكلمات أمر مستحيل.
علاوة على ذلك، فإن الإنسان يتعرض لعدد كبير من الكلمات الجديدة في حياته اليومية، سواء من خلال القراءة أو الاستماع أو التفاعل مع الآخرين، وهذا يعني أنه من المستحيل معرفة كل الكلمات المستخدمة في لغته الأم بشكل كامل وشامل.
مع ذلك، يتّفق كل مجتمع على عدد من الكلمات التي يتعلّمها أغلب متّحدثي لغة هذا المجتمع، لتكوين القاعدة البسيطة التي تُبنى عليها المعارف اللغوية الشائعة. وتحقيق مستوى مقبول من إجادة لغة، يمكن من خلاله التواصل وفهم الأفكار والمعاني بشكل فعال، هو تحقيق إجادة عالية لهذه القاعدة البسيطة من الكلمات القليلة التي يتّفق عليها مجتمع لغة ما.
لا يمكن تحديد عدد الكلمات التي يعرفها أغلب متحدّثي لغة واحدة بشكل دقيق ومحدّد، إذ يختلف عدد الكلمات التي يستخدمها الأفراد في الحياة اليومية تبعاً لمجالات اهتمامهم وتخصّصاتهم ومستويات تعليمهم وخلفياتهم اللغوية والثقافية.
ومع ذلك، فإن هناك مجموعة من الكلمات التي يتقنها معظم متحدثي لغة، ويمكن الاعتماد عليها في التواصل اليومي، ومنها:

1- الكلمات الشائعة والمستخدمة بشكل متكرر في المحادثات اليومية، مثل “مرحبا” و”كيف الحال” و”شكراً” و”عفواً” و”مع السلامة” و”إلى اللقاء”…
2- الكلمات المستخدمة في وصف الأشياء والأشخاص والأماكن، مثل “كبير” و”صغير” و”جميل” و”قبيح” و”سريع” و”بطيء” و”مريح” و”غير مريح” و”جاف” و”رطب” و”بارد” و”حار”…
3- الكلمات المستخدمة في الحديث عن الزمن والأوقات، مثل “اليوم” و”الأمس” و”الغد” و”الصباح” و”الظهر” و”المساء” و”الليل” و”الآن” و”قريباً” و”لاحقاً”.
4- الكلمات المستخدمة في الحديث عن الأعمال والأنشطة والمهن، مثلاً “طبيب” و”مهندس” و”مدرس” و”طالب” و”عامل” و”تاجر” و”فنان” و”رياضي” و”سائق” و”طيار” و”مضيفة طيران” و”موظف” و”ربة منزل”…
5- الكلمات المستخدمة في الحديث عن العلاقات الاجتماعية والعائلة، مثل “أم” و”أب” و”أخ” و”أخت” و”جد” و”جدة” و”عم” و”خال” و”زوج” و”زوجة” و”ابن” و”ابنة”…
6- الكلمات المستخدمة في الحديث عن الطعام والشراب والمطبخ، مثل “طعام” و”شراب” و”ماء” و”عصير” و”قهوة” و”شاي” و”خبز” و”لحم” و”دجاج” و”سمك” و”خضروات” و”فواكه” و”حلوى” و”ملح” و”فلفل” و”زيت” و”زبدة” و”سكر” و”طحين”…
وبشكل عام، فإنّ هذه الكلمات تشكل جزءاً بسيطاً من اللغة، لكنّها المفردات المستخدمة في الحياة اليومية لمعظم متحدثي اللّغات، ويمكن الاعتماد عليها في التواصل اليومي. إجادة هذه الكلمات من أي لغة وأي لهجة قد تعني فعلياً إجادة نحو 20% من اللغة، لكنّها عملياً إجادة لأغلب الكلمات التي يعرفها ويتداولها أغلب المجتمع؛ قاعدة التواصل الفصيحة: الواضحة البسيطة.
الآن، هل يوجد إنسان يتقن كامل لغته؟ لا هذا مستحيل. فذاكرة الإنسان محدودة بالنسيان، وقدراته في التواصل كذلك محدودة وقصيرة المدى.
لكن، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مساعداً ومعيناً جيداً هنا، لافتقاده القدرة على النسيان. ولو أنّ قدراته على التواصل محدودة بقدرة الإنسان، غير أنّ للذكاء الاصطناعي القدرة على تجميع معلومات مكتسبة من مداخل متعدّدة ومتنوّعة، ما يرفع من مساحة سطح التواصل ومداه.
يمكن للإنسان تعلم اللغة بشكل كامل وشامل إلى حدٍ ما، فكلمة “كامل” هنا تعبّر عن تلك الطبقة البسيطة (الفصيحة) من اللّغة، وكلمة “شامل” هنا تعبّر عن التشعّبات المحلّيّة والتخصّصية غير الشائعة بين أغلب الناس. ولكن الوصول إلى مستوى الإجادة اللغوية الكاملة يعتمد على عدّة عوامل، بما في ذلك:
1- يتطلب تعلم اللغة بشكل كامل وشامل الكثير من الوقت والجهد. على الرغم من أنّ بعض الناس يتعلمون اللغات بسرعة أكبر من الآخرين، إلا أن الوصول إلى مستوى الإجادة الكاملة يتطلب الكثير من التدريب والممارسة المنتظمة.
2- يتأثر تعلم اللغة بشكل كبير بالبيئة المحيطة بالشخص، بما في ذلك العائلة والأصدقاء والمجتمع الذي يعيش فيه. إذا كان الشخص يعيش في بيئة تستخدم اللغة التي يحاول تعلمها بشكل شائع، فإنه سيكون أسهل بالنسبة له أن يتعلم اللغة بشكل كامل وشامل.
3- يجب على الشخص استخدام اللغة بشكل فعّال ومنتظم للوصول إلى مستوى الإجادة الكاملة. يمكن للشخص أن يتعلم جميع القواعد والمفردات والتعابير، ولكن إذا لم يستخدم اللغة بشكل فعال في المحادثات والقراءة والكتابة، فلن يتمكن من تطبيق ما تعلمه بشكل كامل.
4- يجب على الشخص المثابرة على قراءة القواميس والمعاجم وكتب اللغة المختلفة، القديمة والحديثة، بالإضافة إلى المقالات التي تناقش القضايا اللغوية، وتنوّعات اللهجات وتطويراتها.
5- تختلف قدرة الأفراد على استيعاب اللّغة وتعلمها بشكل كامل وشامل. وتتأثر قدرة الشخص على تعلم اللغة بعوامل مثل العمر والخلفية اللغوية والقدرة على التركيز والذاكرة.
بشكل عام، يمكن للشخص تعلم اللغة بشكل كامل وشامل بالتدريب المنتظم والممارسة الفعالة والاستخدام الفعلي للغة في الحياة اليومية. ومع ذلك، فإن الوصول إلى مستوى الإجادة الكاملة يتطلب الكثير من الوقت والجهد والتحمل، وقد يستغرق الأمر سنوات من العمل المنتظم والمستمر.
وبالخلاصة، يستحيل على الإنسان إجادة لغة بدرجة 100% حتى لو كانت لغته الأم، لكنه قادر على توسيع مهاراته اللغوية بالاستمرار بالسعي للاطلاع على كلمات جديدة ومحاولة استعمالها في محادثات يومية.
اترك تعليقًا