الإعلانات
, , , , ,

شريط حياة الرقّة ما بين تراجع وازدهار

عبر التاريخ، شهدت مدينة الرقّة في سوريا (المعاصرة) فترات من الازدهار والتراجع، تأثّرت خلالها بتعاقب الحضارات والإمبراطوريات التي حكمتها. فمنذ نشأتها كمركز لعبادة الإله داگون (دجن) قبل حوالي 4000 سنة، مروراً بأوجها كعاصمة للخليفة هارون الرشيد في العصر العباسي، وصولاً إلى واقعها المعاصر المَلآن بالتحدّيات، تجسّد قصّة الرقّة التقلّبات التي طبعت مسيرة المدن والحضارات عبر الزمن.

في هذه التدوينة، نستعرض التطوّرات التي شهدتها الرقّة عبر العصور، ونسلّط الضوء على العوامل التي ساهمت في فترات ازدهارها وتراجعها. سنرى كيف تفاعلت هذه المدينة مع الإمبراطوريات والقوى المختلفة التي تعاقبت على حكمها، وكيف تركت هذه التفاعلات بصماتها على هويّتها وتراثها. كما نتطرّق إلى الأحداث الأخيرة التي شهدتها المدينة في سياق الحرب السورية، وتداعياتها على واقع سكّانها وآفاق مستقبلهم.

فلنبدأ رحلتنا عبر شريط حياة الرقّة الممتدّ عبر عشرات القرون من التاريخ، لنكتشف دروساً وعِبَراً حول قدرة المدن والبشر على الصمود والتجدّد في مواجهة التحدّيات.

شريط حياة الرقّة ما بين تراجع وازدهار
شريط حياة الرقّة ما بين تراجع وازدهار

في القرن التاسع قبل الميلاد، ازدهرت مدينة تُتُّل 𒋫𒂍𒂍 (الرقّة) عاصمة مقدّسة لعبادة الإله داگون (دجن)، ديانة الفينيقيّين والإغريق ومن في فلكهم، تحت حكم الإمبراطورية الآشورية الحديثة. لكن في القرن السابع قبل الميلاد، تراجعت المدينة بسقوط الإمبراطورية الآشورية وأصبحت تحت حكم الإمبراطورية البابلية الحديثة… حتّى أنّ قداسة تُتُّل انتقلت إلى حمص.

في عام 333 قبل الميلاد، ازدهرت المدينة مرّة أخرى، وأصبحت تُتُّل (الرقّة) تعرف باسم نقفوريون Νικηφόριον تحت حكم الإمبراطورية المقدونية (الأخمينية سابقاً) والمقدونيّين بالأساس على ديانة داگون (دجن). وفي عام 323 قبل الميلاد، تقسّمت الإمبراطورية المقدونيّة، لكن نقفوريون استمرّت بالتطوّر والازدهار بشكل ملحوظ تحت رعاية الإمبراطورية السلوقية بدءاً من عام 312 قبل الميلاد.

في عام 200 قبل الميلاد، بلغت نقفوريون (الرقّة) ذروة ازدهارها كمركز هلنستي تحت حكم الإمبراطورية السلوقية والسلوقيّين بالأساس على ديانة داگون (دجن). لكن في عام 64 قبل الميلاد، تراجعت المدينة بضمّها إلى الإمبراطورية الرومانية، الذين نقلوا قداستها إلى الجهة المقابلة على نهر الفرات في مدينة الرصافة.

في القرن الثالث الميلادي، ازدهرت مدينة الرقّة مجدّداً كمستوطنة رومانية مهمّة تحت حكم التغالبة تحت اسم قَلّينِكُم Καλλίνικον. لكنّها تراجعت مرّة أخرى عام 540 ميلادي بغزو الساسانيين لها وطرد بني تغلب منها غرباً إلى المعرّة.

في عام 640 ميلادي، عادت المدينة للازدهار بعد فتح العرب المسلمين لها، وأصبحت تعرف رسميّاً باسم الرقّة (الرگّة) تحت حكم الخلافة الراشدة وعودتها عاصمة للجزيرة العليا بحكم تغلب. وبلغت ذروة ازدهارها عام 772 ميلادي عندما أصبحت عاصمة للخليفة هارون الرشيد في ظلّ الخلافة العبّاسية.

لكن في عام 1258 ميلادي، تراجعت الرقة بغزو المغول لها وأصبحت تحت حكم إيلخانات بلاد فارس. واستمرّ تراجعها بشكل حاد عام 1400 ميلادي بغزو التيموريّين لها في ظلّ حكم سلطنة المماليك، فهجرها أهلها نزوحاً بأغلبهم إلى حلب، ودخلت الجزيرة العليا مرحلة الفلت.

عادت الرقّة للاستقرار والازدهار عام 1683 ميلادي تحت الحكم العثماني. لكنّها تراجعت مجدّداً في عاميّ 1800 و 1816 ميلادي بغزو فصائل كردية مسلّحة للرقّة تحريضاً من بريطانيا.

شهدت الرقّة فترة ازدهار عام 1960 مع قيام مشروع سدّ الفرات في ظلّ الجمهورية العربية المتّحدة. لكنّها عانت من تراجع كبير عام 2013 باندلاع الحرب السورية وسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية داعش عليها. وفي عام 2017، تراجعت أوضاع المدينة بشكل حاد مرّة أخرى باحتلال قُسُد قوّات سوريا الديمقراطية لها.

يبقى أن أقول أنّ اسم الرقّة مستمدّ من تشبيه تلّتها بالسلحفاة، واسم السلحفاة في الفرات هو الرگّة. أمّا أسم المدينة الأوّل تُتّل 𒋫𒂍𒂍 فمنعناه تلال، لأنّها مجموعة تلال.

تفاصيل الأحداث التي أصابت الرقّة في الفترة من 1800 إلى 1816

في الفترة من 1800 إلى 1816، هاجمت عدة فصائل كردية مدينة الرقة، وكان من أبرز هذه الفصائل: شباب قبيلة الميران وقبيلة البرزانيين وقبيلة الجاف. بزعامة عبد الرحمن باشا الجاف وأحمد باشا الميران الذي تعاون مع البريطانيين علانية.

السبب المعلن الذي تداوله الناس علانية للهجمات الكردية على الرقة في الفترة من 1800 إلى 1816 كان مرتبطًا بالصراعات القبلية والإقليمية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. مثل المطالب بالأراضي الأميرية التي ادّعى إقطاعيّون أكراد أنّ السلطة العثمانية منحتها للبدو العرب بعد أن سلبتها من الأكراد. مع أنّ أراضي الرقّة لم تكن في الواقع ملكاً لأحد في القرن 17 وغير مستثمرة. وكانت الهجمات تُعزى إلى الصراعات القبلية بين العشائر الكردية والقبائل العربية المحلية. وكانت هذه الصراعات تتعلق بالسيطرة على الموارد والمراعي والمناطق الاستراتيجية.

بعد أحداث الانقلابات في القسطنطينية استغلت الفصائل الكردية ضعف الإدارة العثمانية المحلية وعدم قدرتها على فرض النظام والسيطرة الكاملة على المنطقة. وكانت هناك أيضًا أسباب مرتبطة بالاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، حيث كانت الفصائل تسعى إلى تحسين وضعها الاقتصادي من طريق نهب الممتلكات والسيطرة على طرق التجارة، وهي من قبائل امتهنت القرصنة والتهريب وفرض الإتاوات.

هذه الأسباب العلنية كانت تُستخدم لتبرير الهجمات والكسب التعاطف والدعم من السكان المحليين أو الأطراف الخارجية التي كانت تتبع الوضع في المنطقة. أما الأسباب غير المعلنة فيمكن تلخيصها بالتالي:

  • كانت الإمبراطورية البريطانية تسعى إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة وإضعاف سيطرة الإمبراطورية العثمانية في أعقاب المعاهدة العثمانية-الروسية. وقدمت بريطانيا دعمًا لوجستيًا وماديًا لهذه الفصائل الكردية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
  • كانت بعض العشائر الكردية تسعى إلى توسيع نفوذها والسيطرة على مناطق جديدة، بما في ذلك الرقة، بهدف تحقيق استقلالها وتكوين كيان سياسي مستقل عن الحكم العثماني.
  • بالإضافة إلى الدوافع السياسية والاستراتيجية، كانت هناك أيضًا صراعات قبلية وإقليمية دفعت هذه الفصائل إلى مهاجمة الرقة.

تعرّضت الرقة للنهب والتدمير، مما أدى إلى تدهور كبير في الاقتصاد المحلي. ونزح العديد من السكان بسبب العنف وعدم الاستقرار. وأدت الهجمات المتكررة إلى تدهور الأوضاع الأمنية وزيادة حدة الاشتباكات بين الفصائل الكردية والقوات العثمانية المحلية.

هذه الهجمات كانت جزءًا من صراعات أوسع نطاقًا في المنطقة خلال تلك الفترة، حيث كانت العديد من القوى الإقليمية والدولية تسعى إلى تحقيق مصالحها على حساب استقرار المناطق العثمانية.

مراجع

  1. Bartl, K., & al-Maqdissi, M. (Eds.). (2014). New Prospecting in the Orontes Region: First Results of Archaeological Fieldwork. Orient-Archäologie, 30. Leidorf.
  2. Burns, R. (2009). The Monuments of Syria: A Guide. I.B. Tauris.
  3. Heidemann, S. (2006). The history of the industrial and commercial area of ‘Abbasid Al-Raqqa, called Al-Raqqa Al-Muhtariqa. Bulletin of the School of Oriental and African Studies, 69(1), 33-52.
  4. Jayyusi, S. K., Holod, R., Petruccioli, A., & Raymond, A. (Eds.). (2008). The City in the Islamic World (Vol. 1 & 2). Brill.
  5. Liverani, M. (2014). The Ancient Near East: History, Society and Economy. Routledge.
  6. Matthews, J.F. (1984). The tax law of Palmyra: evidence for economic history in a city of the Roman East. Journal of Roman Studies, 74, 157-180.
  7. Segal, J. B. (1955). Edessa: The Blessed City. Journal of Hellenic Studies, 75, 190-191.
  8. Toumanoff, C. (1963). Studies in Christian Caucasian history. Georgetown University Press.
  9. ياقوت الحموي (القرن 12-13م). معجم البلدان. طبعة دار صادر.
  10. ابن شداد، عز الدين محمد (القرن 13م). الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة. طبعة المكتب التجاري للطباعة والنشر.
الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم