الإعلانات
,

الحب والحياة في زمن الشرائح الدماغية

لنتحدّث اليوم في الخيال؛ بعيداً رويداً عن مواضيع التاريخ والآثار. ولنقفز قليلاً إلى المستقبل من على مسند “ماذا لو؟”.

تعمل الكثير من مؤسّسات العالم اليوم مجتهدةً على تطوير تقنيّة تسمح للناس بالتواصل مع الآلات دون وصلات. مثلاً قد أستعمل هاتفي دون هاتف. إنّما هي شريحة مزروعة في دماغي تسمح لي بالاتّصال وبتلقّي المكالمات من الآخرين؛ في دماغي مباشرة. أو قد يمكن لي تذكّر ما يصعب عادة تذكّره، بالإضافة إلى مشاركة الآخرين صوراً من ذكرياتي ومباشرة من دماغي، دون حاجة لرسم هذه الذكريات أو طباعتها، أو حتّى عرضها على شاشة.

إيلون مسك يعمل عليها، وآپل وگوگل، وشركات غيرها من بوسطن وهيوستن والسويد وفنلاند والصين وكوريا… وغيرها الكثير.

تخيّل نفسك في ذلك الزمن، وهو قريب بالمناسبة. لا بدّ أنّك ستفقد الحاجة للشاشات. فإن كنت تريد مشاهدة فيلم، لا بأس، تتّصل من دماغك بالجهاز حيث خزانة الفيلم وتشاهد مشاهِد الفيلم كلّها دون حاجة لمراقبة شاشة… في الواقع، ستكون فعليّاً قد فقدت الحاجة لاستعمال عينيك، إذ أنّ تلك الشريحة ستتّصل بقسم البصر في دماغك وتعرض الفيلم هناك مباشرة. ما عادت حاسّة البصر ذات أهميّة لمشاهدة فيلم السهرة. وما عادت حاسّة السمع ذات أهميّة كذلك، إذ أنّ أصوات الفيلم ستصل إلى قشرة دماغك مباشرة دون الحاجة لاستعمال أذنيك.

إذ ذاك، ما هي فائدة الفم والحنجرة للكلام؟ ستكون هي الأخرى أدوات حواس غير ذات فائدة، إذ أنّ الكلام يمكن أن يصل مباشرة من دماغ إلى دماغ، فيسمعه المتلقّي – الذي ما استعمل أذنيه لذلك – تماماً كما يقوله القائل دون استعمال حنجرته ولا لسانه.

تخيّل نفسك في ذلك الزمن، تمشي في الشارع فيصل إعلان طُرقي من مُعلِنٍ إلى دماغك، وتختار مشاهدة الإعلان أو لا، أو قد يبتكر المُعلن طريقة تجبرك على مشاهدة الإعلان دون اختيار منك، ودون استعمال عينيك ولا أذنيك… ليس في هذا المشهد شاشة ولا لوحة ولا پوستر، الإعلان وصل إلى دماغك دون وسيط. دون استعمال شيء يُلمس. ولكن، للمفارقة، هو شيء يُحسّ، لكنّ الحاسّة هذه المرّة وصلت مناطق الحسّ في قشرة دماغك دون أدوات حواسّك. دول لمسة منك، ولا بقرنية عين، ولا بطبلة أذن. الحاسّة وصلت منطقة الحسّ عبر تلك الشريحة في دماغك، وأنت لم تقم بأيّ جهد يُلحظ.

ماذا يبقى في ذلك العالم من ملامح اليوم؟

الكتب؟ ستختفي، ومنظر شخص جالس يقرأ؛ كذلك سيختفي.

الشاشات؟ ستختفي، ومنظر شخص يحدّق في شاشة؛ كذلك سيختفي.

السفر؟ سيختفي، ولن تعود في حاجة إلى الذهاب إلى عملك، فعملك يصل إلى دماغك ويعود إلى السحاب كما أتى؛ حيث يتشاركه الباقين من الموظّفين معك.

ضجيجنا؟ لا أدري أيّ ضجيج سيبقى، لكن أصواتنا حتما ستختفي، وسيختفي معها صخب الأخبار والأفلام والأغاني، التي ستبقى حبيسة أدمغتنا فقط.

هل من داع بعدها للعضلات؟

معرض في رأسك
معرض في رأسك

لربّما هذه مبالغة، ولربّما هذه صورة فيها اختزال للمواقف والظروف اليومية. إذ، حتّى لو فقدنا الحاجة إلى الشاشات والنواقل والوسائط والكابلات، سنبقى في حاجة إلى الطعام كي نشحن طاقتنا. وسنبقى في حاجة إلى التناكح للتكاثر ولمتعة الحبّ… أم لا؟ لا أدري. إذا فقدتُ الحاجات إلى أغلب وظائف الحواس، فهل يتمدّد هذا الافتقاد كذلك إلى وظائف التغذّي؛ الجسديّ والعاطفيّ؟

كلّ هذا بشريحة صغيرة نزرعها في أدمغتنا، فتحقّق لنا التواصل دون حاجة لوسائل التواصل المعتادة.

إذاً، نحن مصممّون ومبنيّون بحواسّنا للتواصل، هذه هي الوظيفة الوحيدة لما نعرفه من حواس، خمس؟ ستّ؟ سبع؟ لا أدري أين وصل التعداد اليوم، لكنّها جميعاً حواسّ صُنعت من أجل التواصل. وفقط لأنّ الدماغ فينا غير قادر على التواصل مع الدماغ في الآخر من دون حواس… نحن حوامل أدمغة!

لا عيون ولا آذان ولا ألسن، ولا إصبع ينحدر على شاشة… آنذاك يكون فيٓسبوك فكرة، ويبقى فكرة، إذ أنّ النشر والتعليق على فيٓسبوك لن يكون على جهاز ولا باستعمال وسيط. هي فكرة في الدماغ لا أكثر… نعم هي فكرة، كانت تسمّيها جدّتي “خطرة”.

ما هذا العالم! حيث نتحوّل جميعاً إلى خطرة! فكرة، قد تمحوها وقد تنسخها وتعيد لصقها، وقد تحظرها وتحذفها! تخيّل أن تقرّر “تحديد الكل” وحذف حياتك، والبدء من جديد.

أنا، تخيفني هذه الخطرة.

قد تكون الحضارات القديمة قد زالت هكذا، تلك التي لم نفهم إلى اليوم كيف أنشأت ما تركت لنا من أثر… حضارات فقدت الحاجة لـ”الوجود”، وهي لم تزل موجودة. هي موجودة ربّما كفكرة، أو كخطرة، في مكان ما لا نفهمه. قد تكون حضارة قد اختزلت نفسها كلّها في قطرة ماء، وساحت في عمق البحر. وقد تكون حضارة، وقد فقدت الحاجة لـ”الوجود” قد اختارت أن توجِد وجوداً آخر، يشبه وجودها القديم، هذا الذي يشبه وجودنا اليوم، فصنعت لنفسها صورة كوكب أزرق، وسماء زرقاء، وتركت الناس تعيش أكثر من مجرّد فكرة، بفكرة، أنّ عالمهم “موجود” و”ملموس” و”حقيقيّ” في كون خالٍ من آخرين.

الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم