يدّعي الشعوبيّون واللاعربيّون أنّ العرب ما كانت لهم حضارة قبل الإسلام، ويُنكرون علينا تحدّثنا بالحضارة العربية وبتراثها، ويجبرننا على تسميتها بالحضارة الإسلامية، على أساس أنّها نشأت بـ”تعريب الحضارات الحقيقية”، وهذا غير صحيح. في البلاد العربيّة، لا يسبق الحضارة العربيّة غيرها.
وجود الحضارة العربيّة يسبق وجود الإسلام، بالتالي لم يبدأ الإسلام الحضارة العربيّة. والفكر الإسلامي نفسه هو إحدى نتائج هذه الحضارة العربيّة. بالتالي الإسلام هو جزء من الحضارة العربيّة، لا كلّها.
واستمدّ هذا الفكر الإسلامي رقيّه من رقيّ الحضارة العربيّة؛ لا العكس. تماماً كحال فلسفات الأديان التي سبقته وانتشرت في العالم عن الحضارة العربيّة. فأساس الحضارة الإسلامية هو الحضارة العربية.
ومن جهة أخرى، الإسلام ومع أنّه اليوم دين الأغلبيّة من العرب. لكن، ليس كلّ العرب مسلمين. وغير المسلمين من العرب كذلك من أهل الحضارة العربيّة.
والدفاع عن الهويّة العربيّة ليس دفاعاً عن القوميّة العربيّة بالضرورة. الهويّة العربية لا تحتاج إلى فكر قومي كي تكون لها معالم وسمات. الهويّة العربيّة واضحة بسماتها وهي التي ظُلمت، وليس القوميّة العربيّة.
الفرق كبير بين أن تردّ لهويّة اعتبارها وبهاءها، وبين أن تدعو إلى أيديولوجيَا قوميّة.
في زمن يهدف فيه الكثيرون إلى الانتقاص من الهويّة العربيّة، أجد أنّ من واجبي الدفاع عنها، وإعطاءها حقّها، ورفعها إلى مكانتها، لأنّها هويّتي وهويّة أولادي من بعدي. ليس في بحوثي وتدويناتي غير الصدق والاعتدال والموضوعية. إنّما هي فقط ردّ الأكاذيب والخرافات عن الهويّة العربيّة. هويّة أصحاب اللّغة التي أكتب وأنشر بها.
أشعر أحياناً أنّ من واجبي التوضيح إلى أنّني لا أدافع عن القومية العربيّة، ولا أدعو إلى القوميّة العربيّة، فأنا من دعاة دولة المواطنة العادلة. لكنّني أدافع باستمرار عن الهويّة العربيّة وعن تراث حضارتها العربيّة، هذا التراث المسلوب، المسروق من العرب، والذي اجتهدتْ الكثير من الجهات لإنكاره على العرب، ولإقناع أجيالهم جيل بعد آخر بهويّة ليست لهم، وبأنّ أجدادهم هم أجداد لغيرهم لا لهم. وبأنّ تاريخ الحضارة على أرضهم ليس من صنع أسلافهم وهو ليس لهم.
من يقول لك أنّ العرب ما كانوا شيئاً قبل الإسلام، هو مردّد للدعاية الشعوبيّة الفارسيّة، ومن صفّ كارهي العرب… من يقول لك أنّ العرب كانوا لا شيء قبل الإسلام، أخرسه فوراً فهو يريد تحطيم الهُوِيَّة العربيّة، ولا يخيفه شيء في هذا العالم كما تخيفه قوّة الهُوِيَّة العربيّة. الهُوِيَّة العربيّة حضارة من بداية وجودها، هي المدنيّة وهي أصل فكرة الحكومة والإمارة والشرع والقانون.
أستغرب من يقول أنّ العرب كانوا لا شيء قبل الإسلام. وحضارة اليمن وما قدّمته من علوم الهندسة والاقتصاد لا شيء!؟ وحضارة النهرين والشام وما قدّمته من علوم الفكر والصناعة لا شيء!؟ والفلسفة والتشريع الطائي قبل الإسلام لا شيء!؟ إن اكتفيت بسيرة طيء ودولها وحدها؛ أفيض في المنجزات الحضارية على ما قدّمته روما والصين وما كان بينهما.
يحتار فيّ بعض الأحبّة حين يجدون منّي دفاعاً عن الهُوِيَّة العربيّة، ثمّ يقرؤون عنّي آراء تعارض العنصريّة القوميّة… أنا أدافع عن الهويّة العربيّة، بغضّ النظر عن الدعوة للانتماء إليها. وأعارض فكرة القوميّة العربيّة، أو أيّ قوميّة كانت.
فالقوميّة في نظري هي أقصى تطرّف أفكار العصبيّة البدائية. وأنا أفصل تماماً ما بين الهويّة والقوميّة. ولا أعتقد أنّ احترام الهويّة يساوي تبنّي الأيديولوجيا القوميّة بالضرورة. والهويّة العربيّة هي هويّة صاحبة حضارة ورسالة، جهلناها اليوم فظلمناها وظلمها بنا الناس.
الهويّة العربّية في نظري هي هويّة أسمى بكثير من الانتماء العصبيّ والشعوبيّ. هي هويّة علم ونمط حضارة. الهويّة العربيّة لا تقوم بالعنصر، ولا تقوم بالتالي على كراهيّة الآخر، بل تسابق الدنيا لاكتسابه وجذبه لتبنّي نمط حياتها ولغتها العربيّة.
وأنا أدافع عنها لأنّي أحبّ أن أحترم الأشياء، أحبّ أن يُعطى كلّ شيء قدره. والهويّة العربيّة هويّة مظلومة تستحقّ الدفاع عنها لتنال حقّها من التقدير.
لو لم يكن في العربيّ جذوة الحضارة السامية من الأساس لما استطاع نشر الإسلام متراً واحداً خارج بلده العربيّ. طالمَا أنّك تؤمن أنّ الإسلام دين مرسل من عند الله، فيجب أن تؤمن كذلك بأنّ الله ما اختار العرب لنشر الإسلام عن فوضى وفراغ. إنّما اختار من يستطيع برقيّ حضارته أن يكون الوجه الأجمل للإسلام.
لا يوجد حضارة معزولة في هذا العالم، الحضارة هي أثر تفاعل الشعوب والأمم. والحضارة العربيّة لم تكن معزولة عن جوارها وقدّمت، كغيرها، الكثير من المنجزات العلميّة، التي لولاها، لما كان في العالم الكثير من عادات اليوم. النقد الدُّوَليّ وأصول التعاملات المالية هي منجز عربي. فكرة التشريع والقانون هي منجز عربي. الفلسفة هي منجز عربي. علم الفلك هو منجز عربي. معدن البرونز هو منجز عربي. التحوّل من الحديد إلى النحاس هو منجز عربي. علم الساعات هو منجز عربي. كل هذا ولم يكن الإسلام قد وُلد بعد.
إنّ الدفاع عن الهويّة العربيّة وإعطائها حقّها، لا يعني بالضرورة الدعوة للقوميّة العربيّة أو العنصريّة. بل الهدف هو تصحيح المفاهيم الخاطئة عن تاريخ وحضارة العرب، وإظهار الإرث الحضاري العربي بموضوعيّة ودون مغالاة. فالدفاع المنطقي عن الهويّة، لا يتنافى مع رفض التعصّب أو الإقصاء.
أضف تعليق