بدءًا من تميّز إصفهان كمركز تجاري في القرن الثامن عشر، مرورًا بصناعة السجاد وفنّ سرد القصص والحياة الريفية، وصولاً إلى تأثير “إصلاحات” رضا شاه والحياة في طهران قبل “الثورة” الإيرانية. في هذه التدوينة أسرد صوراً اجتماعية من التاريخ الإيراني الحديث.

إيران دولة عمرها نحو سبع قرون، تأسّست سنة 1378 على يد آل آق‌ قویونلو التركمان، وعبرت مراحل مختلفة، منها انتقال السلطة إلى يد حزب الإسلاميّين الصفويّين سنة 1501 وفرض التشيّع، ثمّ انتقال السلطة إلى يد حزب القوميّين التركمان سنة 1736، ثمّ الهيمنة الروسيّة على البلد سنة 1828 وفرض التغريب، ثم بدء النفوذ البريطاني في إيران سنة 1857 إلى أن سقطت بكاملها كإيران الروسية تحت الهيمنة الاقتصادية البريطانية سنة 1889، ثمّ نقل بريطانيا السلطة إلى يد حزب القوميّين الفرس سنة 1925، ثمّ انتقال السلطة إلى حزب الإسلاميّين من القوميّين الفرس سنة 1979

وعبر هذه المراحل تغيّرت عواصم إيران عدّة مرّات عبر سبع قرون، أهمّها: 

1. 1403 ديار بكر
2. 1468 تبريز
3. 1555 قزوين
4. 1598 إصفهان
5. 1736 مشهد
6. 1789 طهران

عبر الأزمان، استقرّ في إيران الكبرى سكّان من وسط آسيا ومنطقة القوقاز وجزيرة العرب في مراحل مختلفة من الزمن. يحتفل شعب إيران بتاريخه وثقافته من خلال تقاليد غنيّة في سرد الحكايات وتنوّع المأكولات المستوحاة من آسيا والشرق الأوسط والإمبراطورية العثمانية. كما ألهمت إيران صناعة النسيج التي أنتجت مواد نسيجيّة لا تقدّر بثمن مثمّنة عنها في جميع أنحاء العالم.

حياة الأرمن في إصفهان

في مطلع القرن 18 كانت مدينة إصفهان قلب الإمبراطورية الإيرانية، وفيها كان حيّ نو جلفا أحد أحياء إصفهان الصناعيّة ذو أغلبية أرمنية. كان هؤلاء التجّار والحرفيّين معروفين بمهاراتهم الحرفيّة والتجاريّة. ومع زيادة الطلب الأوروپي على الحرير الخام، شجّع الأرمن أقرانهم على الانتقال إلى الحي لدعم تجارة الحرير والمصالح الاقتصادية الامبريالية. 

مع انتقال السلطة حزب القوميّين التركمان الخراسانيين عانى الأرمن في نو جلفا من التراجع الاقتصادي وعلى الرغم من أنّ هذه المجموعة كانت تتمتّع بحماية أكبر من الحماية التي تلقّتها العديد من جماعات الأقليّات الأخرى. ومع تراجع القوّة السياسية للملكيّة كافح الحرفيّون الذين عرفوا الازدهار الاقتصادي سابقًا. لكن بحلول عام 1725، تفرّقت معظم شركات مجتمع نو جلفا إلى أجزاء أخرى من العالم وهجرت إيران.

الجَلَفان والابتكار البحري

اكتسبت موانئ جنوب غرب إيران أهمّية جديدة مع ازدهار صناعة الصيد البحري. وللتنقّل في مياه الخليج العربي وخليج عمان، قام عرب السواحل، الذين حمل الواحد منهم اسم الجَلَف، ببناء سفينة جديدة أطلقوا عليها اسم اللِّنج، واستُخدمت لصيد الأسماك ونقل البضائع. صنع الجَلَفان القوارب من خشب مقاوم للرطوبة مغطّى بالقار. ولجعل القوارب مقاومة للمياه، شُرّبت خيوط القطن بزيت جوز الهند وزيت السمسم ووُضعت بين الألواح الخشبية التي غطّيت أيضا بالقار. كانت إحدى ميزات تصميم اللِّنجات هي أغطية السطح المفتوحة أو شبه المفتوحة. كان هذا السطح المفتوح أكثر ملاءمة لصيد الأسماك، والذي يتطلّب مساحة للعمل ولتخزين المعدات.

المازندرانيون وعيد نوروز

منتصف القرن 18 كان شمال غرب إيران موطنًا للمازندرانيّين. تضمّنت تقاليدهم التراثيّة الاحتفال بالنوروز يوم 21 آذار معتقدين أنّه رأس السنة الإيرانية، حيث يحتفل المازندرانيون بإعداد الطعام مثل شوربة القراص والنبيذ المحلّي. ويحتفلون بتزيين طاولة هفت-سين، وهي طاولة تعرض سبعة أشياء تبدأ بالحرف س، مثل: سوماگ (السمّاق)، سير (الثوم)، وسيب (التفّاح). مثّلت العناصر السبعة القوانين الأبديّة السبعة للزرادشتية، ديانة إيران القديمة. قبل نوروز، قام الناس ببناء النيران لتقاليد تشهار سانبي سوري (القفز على النار)، حيث كان الأفراد يقفزون فوق النار لطرد الشرّ والترحيب بالعام الجديد بالفرح.

فنّ النقّال في سرد القصص

نهاية القرن 18 كان فنّ النقّال (حكاية الحكايات) شائعًا للغاية، وبخاصّة في دور القهوة. كان ممارسو فنّ النقال يؤدّون وحدهم على المسرح ويمثّلون الملاحم الإيرانية والقصص الرومانسية باستخدام الكلمات والإيماءات والموسيقى. كذلك، كان المؤدّون يشتغلون بشكل خاص في أشهر الشتاء حيث كان الناس ينظّمون أمسيات النقّال في منازلهم. تلك القصص التي أدّاها الحكواتية لم توفّر الترفيه بحسب، بل جمعت الناس احتفالًا بالثقافة الأدبيّة الفارسيّة. تمكّن الناس من فهم هذه القصص بغضّ النّظر عن خلفيّاتهم لأنّ المؤدّين كانوا يروون القصص باللّهجات المحلية مع معرفة بالثقافة المحلية لجمهورهم. ونتيجة لذلك، استمتعت شرائح واسعة من الناس بهذه التقاليد الإيرانية اللطيفة.

نسج السجاد وسلالة القاجاريّين

مطلع القرن 19 أتيحت فترة من الاستقرار السياسي مع بداية سلالة القاجار، واستمرّت طوال القرن. أدّى هذا التوقّف إلى إحياء فنون النسيج المرتبطة تقليدياً بالسجاد الإيراني. استخدم الحرفيّون والحرفيّات مواد غنيّة وألوان جريئة وتصاميم معقّدة. استخدموا موادًّا مثل الحرير والقطن، ولكن في الغالب استخدموا الصوف بسبب متانته وليونته. دمجوا الألوان، مثل البرتقالي والأحمر والأزرق، واستخدموا النقوش والرموز لتوفير الجمال والمعنى. كانت مدينة تبريز مهمّة لصناعة النسيج وشكّلت المركز الرئيسي الذي يصدّر منه التجار سلعهم إلى أوروپا وما وراءها.

حياة اليهود في شيراز

على الرغم من أنّ إيران كانت إسلاميّة بالأغلبيّة، غير أنّ البلاد عرفت جيوبًا صغيرة استقرّت فيها مجموعات دينيّة غير مسلمة. تأسّس الحيّ اليهودي في شيراز، المعروف بـ”المحالة” (المحلّة)، في القرن التاسع عشر عندما اضطرّ اليهود للانتقال والتجمّع في منطقة مخصّصة لهم. وعلى الرغم من الازدهار السابق الذي عاشه اليهود قبل العهد القاجاري، إلا أنّهم واجهوا تحاملاً متزايداً. لم يسمح لهم بالمشاركة في السوق العامّة أو الحياة خارج “المحالة”. وبسبب عزلتهم، غالباً ما لم يتكلّم اليهود الفارسيّة، بل استخدموا لهجة عبرية-فارسية. كانت الكنائس اليهودية تعمل أيضاً كمدارس متخصّصة في التعليم الديني ضمن الحي اليهودي. عمل العديد من الرجال كصائغين وتجّار داخل الحيّ اليهودي، لكن القوانين التمييزيّة التي فرضتها الحكومة القاجارية أوقعت الأغلبية من المجتمع اليهودي في شيراز يعيش في فقر.

الحياة الاقتصادية في إيران في القرن التاسع عشر

بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت اقتصاد إيران لا يزال في معظمه ماقبل صناعي، ومع تواجد حوالي تسعة ملايين نسمة، كانت الأراضي الإيرانية إحدى أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكّان في الشرق الأوسط. عانى الناس من تفشّي الأمراض، مثل وباء الكوليرا في طهران، والذي راح ضحيّته الآلاف خلال خمسينيّات القرن التاسع عشر. تأثّر سكّان المراكز الحضرية بتحرّكات جماعات الرُحّل. كانت هذه الجماعات تتحرّك وتستقرّ حسب سبل عيشها وتفشّي الأمراض. اشتغل معظم الناس يعملون لكسب رزقهم في الزراعة، في حين انخرط آخرون في التجارة أو الحرف اليدوية. كانت النساء اللّواتي يعشن في القرى والبوادي يعملن على إنتاج الأحذية والملابس والمنسوجات.

الإصلاحات التعليميّة

في نهاية القرن التاسع عشر وتحت الهيمنة البريطانية بدأ التعليم في الأراضي الإيرانية يتغير. في السابق، كان الأطفال، إذا تعلّموا على الإطلاق، يتلقّون تعليمًا إسلاميًّا. كانت القدرة على القراءة والكتابة امتياز لطبقات النخبة. حتى أواخر القرن 19، كانت دراسة اللّغات الأوروپية والمحاسبة والتكنولوجيا مقتصرة على مدرسة حكوميّة في طهران. تأسّست المدارس الابتدائية الأولى في تبريز في الثمانينات من القرن 19. وبحلول النصف الثاني من القرن، اتّبع الإيرانيّون نهجًا أكثر علمانيّة في التعليم. سعت الطبقة الحاكمة إلى منافسة أنظمة التعليم العثمانية والعُمانية، ودفعت لتقليل سلطة الجماعات الدينيّة. مع تزايد التفاعل بين الإيرانيّين والأوروپيّين، وُضعت إصلاحات تعليميّة مفصليّة موضع التنفيذ.

الحياة الريفية

في بداية القرن العشرين كان معظم الإيرانيّين يعيشون في المناطق الريفيّة. تكوّنت الاقتصادات الزراعية التي عاش عليها معظم الإيرانيين من إنتاج البزورات والزعفران ومجموعة متنوّعة من الحبوب والفواكه. كانت المجتمعات منعزلة بسبب قلّة البنية التحتيّة. بدون طُرق متطوّرة أو أنظمة سكك حديديّة، لم يكن الناس يقدرون على التحرّك بشكل واسع إلا إذا كانوا أثرياء أو ينتمون إلى مجتمع رُحّل. بالإضافة إلى ذلك، تطوّرت ببطء وسائل الاتّصال مثل الهاتف. بدأت ظروف الناس في التغيير مع الثورة الدستورية في عام 1906 عندما بدأ الناس في الإصرار على مجتمع أكثر حداثة. بدأت هذه الحركة بالتجّار ورجال الدين في طهران، ونجحت في تأسيس برلمان.

رضا شاه وقانون الزيّ الجديد

تحت حكم رضا شاه بهلوي والتبعية المطلقة لبريطانيا، حاولت الدولة إعادة تشكيل حياة الناس. أُدخل زيّ أوروپي النمط للرجال. واستثني رجال الدين المسلمين وغيرهم. كان الهدف هو جعل الملابس في الأماكن العامة أكثر حداثة وموحّدة أكثر. في وقت لاحق، جرى توسيع قانون الزيّ الجديد ليشمل النساء، وهو ما عارضته الشرائح التقليديّة والدينيّة من السكّان. بينما شعرت بعض النساء بالتحرّر، شعرت أخريات بأنهنّ لا يستطعن مغادرة منازلهن. زادت القيود على الحريّات السياسيّة والدينيّة، لكنّ قبضة التقاليد والعادات انخفضت. استمرّ التصنيع وبناء الطرق والتطوير.

الحياة قبل الثورة

بعد أن تولّى محمّد رضا شاه السلطة في عام 1941، استمرّ التحديث، وموّلت عائدات النفط الإيرانية معظمه. كان البعض يعتقد أنّ هذه الإيرادات غير كافية وطالبوا بتأميم صناعة النفط التي كانت تحت سيطرة البريطانيّين، ممّا أثار معارضة بريطانية قوية أدّت إلى الإطاحة بالحكومة الإيرانيّة. في الستّينيّات من القرن 20، تولّى الشاه دور قيادة متزايد. أُعطيت النساء حقّ التصويت. تحوّلت المدن، مع توفير المزيد من فرص العمل وتحسين التعليم. جذبت العاصمة النابضة بالحياة طهران العديد من سكّان الريف. مع مرور الوقت، أدّى عدم المساواة والإحباطات الناجمة عن الحياة الحضريّة إلى تحويل العديد من المهاجرين إلى معارضين للشاه.

بعد كلّ هذه الحكايات أرجو أن تكون قد كوّنت صورة جيّدة عن الحياة الاجتماعية في إيران في القرون 18-19-20.

مراجع ومصادر

1. أبو الفرج الأصفهاني. (1987). كتاب الأغاني. بيروت: دار الكتب العلمية.
2. أمين, سمية. (2003). تاريخ إيران المعاصر: من الفتح العربي إلى الثورة الإسلامية. القاهرة: دار الشروق.
3. كاتوزيان, هوما. (2010). تاريخ الدولة الإيرانية الحديثة: من 1906 حتى الآن. ترجمة أحمد محمود عباس. القاهرة: المركز القومي للترجمة.
4. معزي, أحمد. (2009). الثورة الإيرانية: الجذور والتطور. بيروت: دار الساقي.
5. ميلز, جون. (2009). الإيرانيون: الأصول والتاريخ. بيروت: دار الفارابي.
6. نصر, سيد حسين. (2006). الشيعة والشيعة: العقيدة والتاريخ. بيروت: دار الكتاب الجديد.
7. السلطاني, جواد. (2011). تاريخ إيران: من الفتح العربي إلى الثورة الإسلامية. بيروت: دار المحجة البيضاء.
8. شهيد, مهدي. (2015). نوروز: الأصول والتقاليد والاحتفال. طهران: منشورات زمان.
9. عباس, عبد الرزاق. (2004). الأقليات الدينية والعرقية في إيران منذ الثورة الإسلامية. بيروت: مؤسسة الرسالة.
10. موسوعة إيرانيكا (Encyclopaedia Iranica).

مع مراعاة أنّ بعض المراجع قد تكون باللّغة العربية والأخرى باللّغة الفارسية أو الإنگليزية، يمكن استخدام هذه المراجع كنقطة انطلاق للبحث والاستزادة عن حكايات التاريخ الإيراني الحديث.