الإعلانات
, , ,

دمشق: التحوّلات الثقافية والسكّانية وأثرها على الهُوِيَّة الدمشقية

ككلّ مدن العالم، يقتني أبناء وبنات دمشق كلمات، لا يفهم معانيها ومقاصدها الدمشقية إلّا أنسال هذه المدينة. لكنّ الكلمات والتقاليد التي أتحدّث عنها هنا قد تكون اليوم باقية حيّة في الشتات أكثر منها في دمشق نفسها. ونحن أبناء دمشق كثيراً ما نميّز بعضنا في البلاد المختلفة بواسطة سَوق هذه الكلمات… ونحن الدمشقيّون مجتمع ومنذ عقود أغلبنا في شتات (مسكوت عنه)، بقيت هذه الكلمات الغامضة عالقة في لهجات المغتربين منّا، في حين تكاد تزول تحت وطأة التغيير الديموغرافي في دمشق.

فمن كلمات الحب والتودّد في دمشق كلمة دَب و دَبّه. وقد تبدو الكلمة غريبة في مكانها واستعمالها وهي تبدو كشتيمة… صح دِب بكسرة تحت الدال هي شتيمة وتعني الشخص الثقيل الذي لا يبالي بأحوالنا. لكن حين نقع في شخص نقول دَبّ على قلبي، أي كأنّه شيء حطّ على القلب وغلّفه… دبّ الكتاب من إيدي، دبّ الحيط ع الأرض… وكذلك، حين يموج الودّ ما بين اثنين سيصفها بقوله دبّه وستصفه بقولها دب. هذه: دب، تُعدّ من ألطف كلمات التودّد التي قد تطلقها دمشقيّة في وجه حبيبها.

Photo by Nada Ghannam on Pexels.com

ودمشق، العاصمة السورية، عانت من تغيرات سكانية هائلة خلال العقود القليلة الماضية، خصوصًا بعد بَدْء الانتفاضة ثمّ الأزمة السورية في عام 2011. مع ذلك، فهذه التغييرات ليست طارئة ولا هي وليدة اليوم، ولو أنّها تسارعت في العقد الأخير. غير أنّها بدأت في الواقع سنة 1960 واشتغلت باستمرار على تهجير النُّخب الدمشقيّة، الثقافية أو المالية. هذه التغيرات لها تأثيرات عميقة على تركيبة السكّان وعلى الثقافة والهوية الدمشقية الفريدة.

1960

في أواخر الستينّات، وبعد انقلاب جماعة الغانم والأسد على جماعة عفلق، قام النظام البعثي الجديد بتنفيذ سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي أدت إلى هجرة كبيرة من الأثرياء والطبقة الوسطى. هؤلاء الأفراد غادروا البلاد بحثًا عن فرص أفضل في الخارج، خاصة في دول الخليج وأوروپا وأمريكا الشمالية. وانتقلت النخبة الدمشقية إلى خارج البلاد.

في الثمانينات والتسعينات، استمرّت الهجرة بسبب الركود الاقتصادي، والاضطراب السياسي، والقمع الحكومي، وصارت هدفاً وطموحاً بذاتها. وكانت هذه الهجرة تشمل مجموعات متنوّعة من الدمشقيّين، بما في ذلك المثقفين والناشطين السياسيّين والأقلّيّات المضّطهدة.

في السنوات الأخيرة قبل الثورة والحرب السورية في 2011، زادت المعاناة الاقتصادية والسياسية، مما أدى إلى موجة أخرى من الهجرة. كانت هذه الهجرة موجهة بشكل كبير نحو دول الخليج وأوروپا، حيث كانت هناك فرص للعمل والحياة الأفضل. وعرفت دمشق انتقال 70٪ من نخبتها العاملة إلى دول الخليج العربي.

2011

واجهت سوريا موجات كبيرة من النزوح الداخلي بسبب النزاع والضغط المستمر. العديد من الناس من مناطق البلاد المختلفة اضطروا للفرار من منازلهم والبحث عن مأوى في دمشق. هذا أدّى إلى تغيير في تكوينه السكّان في المدينة، مع وجود مجموعات جديدة غير مألوفة في المدينة.

ومن جهة أخرى، هاجر العديد من الدمشقيّين الأصليّين بسبب الضغط والنزاع، سواء إلى بلدان أخرى في الشرق الأوسط أو إلى أوروپا وأمريكا الشِّمالية وغيرها من المناطق. هذا أدّى إلى فقدان بعض اللّهجات والتقاليد الدمشقيّة الخاصّة، التي يستمرّ الحفاظ عليها الآن بشكل أكبر في الشتات.

وكان للنزاع السوري أيضا تأثيرات على التحرّر الديني والإثني في دمشق. العديد من الأقلّيّات، مثل الكرد والأرمن وغيرهم من المسيحيّين، تأثّروا بشكل كبير، ممّا أدّى إلى تغييرات في النسيج الديني والإثني للمدينة. بتكرار مشابه لأحداث 1840-1855 التي ذهبت بأكثر من نصف سكّان دمشق، إبادة وتهجير. ودفعت العديد منهم للاستقرار في بيروت، وحتى في الولايات المتحدة الأميركية.

علاوة على ذلك، أدّى النزاع والقصف إلى تدمير كبير في البنية التحتية للمدينة، ممّا أدّى إلى تغيير جغرافيتها وشكلها الفعلي.

تغيير

هذه التغيرات السكانية أثّرت بشكل كبير على دمشق وأهلها، وأدّت إلى تغيير الثقافة والهويّة الدمشقية بشكل كبير. إذ بدأ العديد من الأشخاص بالهجرة بعيدًا عن المدينة وعن سوريا عمومًا بسبب حرب النظام السوري على شعبه والتي بدأت في عام 2011. الأسباب لهذه الهجرة تتراوح من البحث عن أمان واستقرار، إلى البحث عن فرص اقتصادية أفضل، أو الرغبة في الابتعاد عن النزاع والحرب.

الدمشقيّين الذين هاجروا غالبًا ما انتقلوا إلى البلدان المجاورة مثل لبنان والأردن وتركيا، في حين انتقل البعض الآخر إلى أوروپا أو أمريكا الشِّمالية أو أستراليَا. في أماكن الشتات هذه، استمرّوا في الحفاظ على بعض العادات والتقاليد الدمشقية، ولكن في بعض الأحيان، تطوّرت هذه العادات والتقاليد لتناسب الثقافات الجديدة التي أصبحوا جزءًا منها، ودمجوا تراثهم الدمشقي بعادات المهجر.

هذا النوع من الهجرة له تأثيرات كبيرة على دمشق نفسها. أولاً، يؤدّي إلى فقدان بعض أشخاص النخبة الذين كانوا يشكّلون جزءًا من الثقافة والمجتمع الدمشقي. ثانياً، يمكن أن يؤدّي إلى تغيرات في الثقافة والهوية الدمشقية الفريدة، حيث يجري تهجير والحفاظ على بعض العادات والتقاليد الدمشقية بشكل أكبر في الشتات منها في دمشق نفسها. وهذا يدفع إلى غربة الدمشقي المهاجر نفسه عن دمشقه في سوريَا.

وتستمرّ

وعندما أتكلم عن “التحرّر الديني والإثني”، أقصد التغييرات التي تطرأ على التكوين الديني والإثني للمجتمع. في سوريَا ودمشق، هناك مجموعة متنوّعة من الجماعات الدينية والأثنية، بما في ذلك؛ السنّة والشيعة (ومنهم العلويون)، والمسيحيون، والدروز، والكرد، والأرمن، وغيرهم.

في أثناء النزاع، تأثّرت هذه الجماعات بشكلٍ مختلف ومتباين. بعض الجماعات تعرّضت لأعمال عنف أو اضطهاد، مما أدى إلى نزوح أو هجرة العديد من أفرادها. هذا يعني أنّ تكوين الجماعات الدينية والأثنية في دمشق قد تغيّر بمرور الوقت، لكن في عدد قليل من السنوات.

على سبيل المثال، قد تكون بعض الأحياء التي كانت في السابق تسكن بشكل أساسي من قبل الأرمن أو المسيحيّين أصبحت الآن تُسكن بشكل أساسي من قبل السنة الذين نزحوا من مناطق أخرى في البلاد. والشيعة الذين وفدوا من بلاد أخرى. والعكس صحيح. هذه التغيرات في التركيبة الدينية والأثنية للمدينة يمكن أن تؤدّي إلى تغيرات في الثقافة والمجتمع والهوية الدمشقية.

هذه التغيرات السكانية أثرت بشكل كبير على دمشق وأهلها، وأدت إلى تغيير الثقافة والهوية الدمشقية بشكل كبير. وفي واقعنا الحالي، تستمرّ دمشق في مواجهة التحديات الكبيرة التي فرضتها التغييرات السكانية والثقافية. الهجرة والنزوح الداخلي والتغييرات في التكوين الديني والإثني، كلها تعمل معًا على إعادة تشكيل المدينة وهويتها. ومع ذلك، تستمرّ الكلمات والتقاليد الدمشقية في العيش، سواء في دمشق نفسها أو في أماكن الشتات حول العالم. تحت الضغوط الهائلة، تستمر دمشق في الثبات وتحافظ على هويتها الفريدة، معبرةً عن القوة والمرونة اللانهائية لأهلها.

الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

3 ردود على “دمشق: التحوّلات الثقافية والسكّانية وأثرها على الهُوِيَّة الدمشقية”

  1. صورة أفاتار 3aynwow
    3aynwow

    لا يسعنا نحن الدمشقيين إلا أن نواسي أنفسنا بقراءة التاريخ الذي يشهد على مثل هذه التغييرات والتحولات عبر العصور؛ فكم من ظالم وعادل مرّ على هذه الأرض.
    شكرا لك استاذ مؤنس.

    إعجاب

    1. صورة أفاتار مؤنس بخاري

      في العمق البعيد لروحي، أشعر بالألم الذي يمكن أن يرافق شعور أبناء دمشق بالعجز عن توجيه مصير مدينتهم العريقة. هو شعور مرير من القلق والأسى، يولد من اللامبالاة القاسية للأحداث التي تتجاوز قدراتنا البشرية للتحكم.

      دمشق، بتاريخها الطويل والممتد، تقف كشاهدة على القوة والصمود التي تتميز بها أرواح أبنائها. ولكن، هذا التأكيد على القوة والمرونة لا يقلل من الحزن الذي يمكن أن ينتاب القلوب عندما يشعرون بأن مستقبل مدينتهم غير محدد.

      Liked by 1 person

      1. صورة أفاتار 3aynwow
        3aynwow

        لا شيء كفيل بأن يقلل الشعور بالأسى على ما يجري في دمشق. تاريخ عريق يتعرض للإساءة وحتى المحو وتغيير ديمغرافي يسعى لتفريغها من الدمشقيين؛ ونحن ها هنا نشهد على ذلك مكتوفي الأيدي. لن نشعر بالامبالاة قط، فعزائنا بابناء دمشق الذين يحملون على عاتقهم التذكير بما حدث سابقاً وبما يحدث اليوم.

        Liked by 1 person

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم