الإعلانات
, ,

التخمير الدفيء. من الكيمياء إلى الفنّ، ثورة في عالم القهوة

في قلب كلّ فنجان قهوة، رحلة شغف وإبداع. على مدى سنوات، انغمستُ في عالم القهوة، أبحث عن الأسرار الدفينة وراء النكهات الاستثنائية. وبعد رحلة طويلة من التجارب والاكتشافات، توصّلتُ إلى ابتكار فريد يجمع بين العلم والفنّ: طريقة التخمير الدفيء.

هذه الطريقة المبتكرة تقودنا إلى آفاق جديدة من النكهات المتوازنة والعميقة، حيث تلتقي الدقّة بالشغف في كلّ رشفة. من طريق التحكّم الدقيق بدرجات الحرارة والفهم العميق للتفاعلات الكيميائية، نستطيع استخراج أفضل ما في البن، ونخلق تجربة استثنائية تأسر الحواس وتترك انطباعاً لا يُنسى.

في هذا المقال، آخذك في رحلة اكتشاف إلى عالم قهوة التخمير الدفيء. سنغوص في الأسرار العلمية وراء هذه الطريقة، ونستكشف كيف يمكن للإبداع والشغف أن يحوّلا مشروبنا اليومي إلى تحفة فنّية.

واحدة من أجمل وأحدث طرق تخمير القهوة (تحضيرها)، وهي طريقة لطيفة تنتج قهوة لذيذة بنكهة متوازنة وعميقة. طريقة تحتاج إلى جهاز يضبط حرارة الأجواء فيه لمدّة طويلة. لكنّ النتيجة تستحقّ الانتظار.

يتبع البعض في أوروپا طريقة يسمّونها قهوة سوڤيد Sous Vide لأنّهم يستعملون أجهزة سوڤيد لتحضيرها، وهذه نفسها يسمّيها آخرون في أميركا الشِّمالية قهوة التخمير البارد السريعة… غير أنّها ليست قهوة تخمير بارد وحتماً ليست سوڤيد، ولو أنّ جهاز السوڤيد قادر على المساعدة في تحضيرها. شخصياً أسمّيها قهوة التخمير الدفيء، في مقابل قهوة التخمير البارد.

تخمير القهوة الدفيء يعتمد على التحكّم الدقيق بدرجات الحرارة، سواء في مغطس مائي أو في جهاز تبخير. هذه الطريقة تتيح تحضير قهوة بنكهة أكثر تركيز وتوازن مقارنة بالطرق التقليدية.

لماذا تحبّ قهوة التخمير الدفيء؟

التحكّم الدقيق بدرجات الحرارة يقلّل من احتمال حرق القهوة ويعزّز استخراج النكهات الناعمة. بتوازن وبالتساوي دون لذعة مرارة زائدة. ثمّ أنّ عدم تعريض القهوة للحرارة المباشرة لفترة طويلة يساعد في الحفاظ على صفاء الطعم، وتكون القهوة هكذا أكثر نقيّاً بطعم غنيّ ومعقّد.

تحضير القهوة باستخدام التخمير الدفيء يساعد في استخلاص مجموعة من المواد الكيميائية الموجودة في حبوب البن التي تساهم في تحسين الطعم والنكهة. التحكّم الدقيق في درجة الحرارة يساعد في تحقيق استخلاص متوازن لهذه المركبات. فيما يلي بعض المواد الكيميائية الرئيسة التي تساهم في تحسين طعم القهوة وكيفية تأثير طريقة التخمير الدفيء عليها:

1. الأحماض العضوية: مثل حمض الكلوروجينيك Acidum Chlorogenicum، حمض الكوينيك Acidum Quinic، تساهم في الطعم الحامضي المميّز للقهوة. حمض الكلوروجينيك يتحلّل إلى حمض الكوينيك وحمض الكافيك في أثناء التحميص. يسمح الاستخلاص البطيء والتحكّم الدقيق بدرجة الحرارة بالحفاظ على توازن الأحماض، ممّا يقلّل من الحموضة الزائدة ويحافظ على نكهة حمضية متوازنة.

2. الزيوت العطرية: مثل الكافيول Cafestol، كهويل Kahweol. تساهم في الطعم الغني والعمق العطري للقهوة. التحكّم في درجة الحرارة يمنع تلف الزيوت العطرية الحسّاسة، ممّا يحافظ على النكهات الغنية والمعقّدة.

3. الكربوهيدرات والسكريات: مثل السكّروز، الفركتوز. تساهم في الحلاوة الطبيعية للقهوة وتوازن المرارة. الحرارة المتحكّم بها بدقّة تسمح باستخلاص السكّريات بشكل متوازن دون كرملة زائدة، ممّا يساهم في الحفاظ على الحلاوة الطبيعية ومنع اللّذعة.

4. المركّبات الفينولية Phenolic Compounds: مثل أحماض الفينول Acida Phenolica، التانينات Tannina. تساهم في تعقيد النكهة وتوازن الطعم. توفّر الحرارة المعتدلة استخلاصاً دقيقاً للمركّبات الفينولية، ممّا يؤدّي إلى نكهة متوازنة وغير عفصة.

5. الأمينات الحيوية Bioactive Amines: مثل التريگونيلين Trigonellinum. تساهم في الطعم الحلو والمعقّد، وتتحلّل إلى مركّبات عطرية مثل النيكوتيناميد Nicotinamidum في أثناء التحميص. الحرارة المعتدلة تساعد في استخلاص التريگونيلين دون تحطيمه الزائد، ممّا يحافظ على التعقيد العطري.

6. الألكالويدات Alkaloids: مثل الكافيين. تعطي طعمًا مرّاً خفيفاً وتساهم في تأثير التنبيه. تسمح الحرارة المعتدلة باستخلاص الكافيين بشكل متوازن، ممّا يساهم في المرارة الخفيفة دون أن تكون زائدة. لكنّها تبقى أقل كمّية من كافيين قهوة التخمير البارد.

بهذا، تعتبر طريقة التخمير الدفيء من الطرق المفضّلة لتحضير القهوة عند عشّاق القهوة الذين يفضّلون نكهات متوازنة ودقيقة مع تعقيد عطر طبيعي.

مقارنة كيمياء التخمير الدفيء بطرق التخمير الأخرى:

التخمير التقليدي بالماء الساخن (مثل إبريق الموكا): يتطلّب حرارة عالية تؤدّي إلى استخلاص سريع وغير متوازن، ممّا يمكن أن يسبّب مرارة لاذعة وحموضة مرتفعة. ويمكن أن تؤدّي الحرارة العالية إلى تبخّر الزيوت العطريّة والمركّبات الحسّاسة.

التخمير البارد: يستخرج نكهات مختلفة ولكنّه قد يفتقر إلى التعقيد الموجود في القهوة الساخنة، ويمكن أن ينتج نكهة باهتة. يستغرق وقتاً طويلاً جدّاً ويحتاج إلى تخطيط مسبق.

التخمير في الجذوة (الركوة): يصعب التحكّم بدرجة الحرارة وبتوزيعها، وهو غالباً غير متوازن، ممّا يؤدّي إلى استخلاص غير متوازن. مع أكسدة سريعة.

طريقة التخمير الدفيء لتحضير القهوة تمنح تحكّماً مثاليّاً في درجة الحرارة، ممّا يسمح باستخلاص متوازن ودقيق للمركّبات الكيميائية الهامّة من حبوب البن. هذا يؤدّي إلى نكهات أكثر تعقيداً وتوازناً مقارنة بالطرق التقليدية التي يمكن أن تكون أكثر عدوانية وتتسبّب في استخلاص نكهات غير متوازن.

طريقة التخمير الدفيء

بعد كلّ هذه التفاصيل حان الوقت لنتحدّث في طريقة تحضير القهوة بطريقة التخمير الدفيء.

يمكن أستخدام أي جهاز يثبّت درجة الحرارة ما بين 90-95 درجة مئوية. في مغطس مائي أو في حمّام بخار. مثل أجهزة السوڤيد sous-vide وأوعية الطبخ الإلكترونية أو الذكية متعدّدة استعمالات أو أجهزة التبخير أو أوعية التبخير التقليدية.

مثال عن تخمير القهوة الدفيء في جهاز سوڤيد
مثال عن تخمير القهوة الدفيء في جهاز سوڤيد

نسبة البن المعتدلة للتخمير الدفيء عادة هي 1:15 أي جزء واحد من مسحوق البن إلى 15 جزء من الماء. هذا لا يمنع أن تغيّر النسبة إلى ما يناسب ذوقك الخاص، زيادة أو نقصان. الطحن الناعم أفضل، لكن الأخشن مقبول كذلك.

كل درجة تحميص تمنح نكهة متخلفة، لكنّي وجدت من تجربتي الشخصية أنّ التحميصة الوسط تعطي قهوة ألذ بطريقة التخمير الدفيء.

نسبة البن 1:15
نسبة البن 1:15

يوضع خليط البن والماء في جرّة زجاجية (مرطبان) محكمة الإغلاق، لا تسمح للسوائل بالنفاذ منها أو إليها. ويفضّل أن تُملأ الجرّة دون مجال للهواء الزائد. وتُغمر في حمّام مائي أو بخاري لمدّة تتراوح بين 30 دقيقة وأربع ساعات. المزيد من الوقت يعني المزيد من قوّة القهوة والكثافة.

أخيراً، تصفّى القهوة وتصبح جاهزة للشرب والاستمتاع بلذّتها.

في الولايات المتّحدة الأميركية يفضّلون القهوة خفيفة، بغير قوّة القهوة العربية المعتادة، لذلك يخمّرون على حرارة 65 درجة مئوية لمدّة ما بين ساعتين إلى أربع. هذه طريقة أبطأ ولا تستخرج النكهات بالكامل، لكنّها تقدّم حرارة مناسبة لإضافة الخمور لتحضير مشروبات باردة بطيئة (كوكتيلات). ومناسبة كذلك للمشروبات المحلّاة. 

بكلّ حال، يمكنك التجريب بنفسك، والتخمير على حرارة 70 أو 80 لمدّة ساعة، لاختبار النتيجة، والبناء عليها. نكهة القهوة المفضلة هي مسألة شخصية، لذا من المفيد تجرِبة درجات حرارة وأوقات مختلفة حتّى تجد التوازن الأمثل لك.

مقارنة بغيرها من الطرق الشائعة

قهوة التخمير الدفيء تخرج على حرارة 90-95 درجة مئوية، مناسبة لمن يحبّون القهوة ساخنة. وأقصر زمن لتحضيرها نصف ساعة. نكهتها متوازنة وصافية، تنعدم فيها اللّذعة العفصة وأقل حموضة. وذات قوام ناعم ونقي. تتميّز باستخلاص متوازن للمركبات الكيميائية دون تحطيمها، ممّا يساهم في الحفاظ على نكهات البن الأصلية. الزيوت العطرية محفوظة بشكل جيد بسبب الحرارة المعتدلة.

قهوة التخمير البارد تخرج على حرارة الثلّاجة (البرّاد) 4-5 درجات مئوية، وقد يفضّل البعض تسخينها. أقصر زمن لتحضيرها 12-24 ساعة. نكهتها ناعمة وعميقة تشبه الشوكولا، أقل حموضة وعديمة العفص. قوامها ناعم ورقيق. تتميّز باستخلاص متوازن للمركبات الكيميائية مثل التخمير الدفيء، وتحافظ على الزيوت العطرية بشكل ممتاز. لكنّها تتطلّب كمّية أكبر من مسحوق البن.

قهوة الإسپريسّو تخرج على حرارة 88-96 درجة مئوية. وأقصر زمن لتحضيرها 25-30 ثانية. نكهتها قوية وغنية، بمرارة مميّزة، حموضة واضحة ومكثّفة بسبب الضغط العالي 9-10 بار. قوامها كثيف ذو رغوة ذهبية. تُستخرج معظم المركّبات بسرعة، ممّا يؤدي إلى نكهات مكثّفة ومعقدة. وتتفاعل الزيوت العطرية مع الضغط العالي لتنتج نكهات مركّزة وحاذقة.

قهوة إبريق الموكا تخرج على حرارة عالية (حسب زمن التخمير). وأقصر زمن لتحضيرها 5-10 دقائق. نكهتها غنيّة وقويّة، تشبه نكهة الإسپريسّو بحموضة أقل. قوامها كثيف وقوي. تُستخرج معظم المركّبات بسرعة معتدلة، ممّا يؤدّي إلى نكهات قويّة. وتحافظ على بعض الزيوت العطرية.

قهوة الجذوة (الركوة) تخرج على حرارة عالية (حسب الاختيار). وأقصر زمن لتحضيرها 5-10 دقائق. نكهتها غنيّة ومعقّدة، وفيها حلاوة طبيعية ومرارة معتدلة. قوامها كثيف ذو رغوة ذهبية مع وجود رواسب مسحوق البن الناعم، ممّا يؤدّي إلى استمرار التخمير حتّى بعد صبّ القهوة. تُستخرج معظم المركّبات بسرعة. لكنّها تفقد أغلب الزيوت العطرية بسبب تأكسدها في مرحلة الفوران.

بعد هذه الرحلة الشيّقة في عالم قهوة التخمير الدفيء، يتّضح لنا مدى التفرّد والإبداع الذي جلبته هذه الطريقة إلى عالم القهوة. بواسطة التحكّم الدقيق بدرجات الحرارة والفهم العميق للتفاعلات الكيميائية، استطعتُ ابتكار طريقة تمنحنا نكهات متوازنة وغنيّة، تحافظ على جوهر حبوب البن الأصلية. هذه الطريقة ليست مجرّد وسيلة لتحضير القهوة، بل هي رحلة استكشافية في عالم النكهات والعلم، تدعونا للتأمّل والاستمتاع بكلّ رشفة. 

أدعوك لاحتضان هذه التجربة الفريدة والانغماس في سحر قهوة التخمير الدفيء، وإدراك أنّ الإبداع والشغف يمكن أن يحوّلا مشروبنا اليومي إلى تحفة فنّية تستحقّ الاحتفاء بها. أتمنّى أن تكون هذه الطريقة التي ابتكرتُها بمنزلة إلهام لك، وأن تستمتع بكل لحظة من لحظات الاستكشاف في عالم القهوة الساحر.

الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم