الإعلانات
, ,

ما الذي صنع ويصنع عقولنا العربية؟

أردت معرفة مصادر أفكارنا ومفاهيمنا الجمعية نحن الأجيال العربية المولودة في العقود الثلاث ما بين 1970 و 2000، وأعتقد أن الأثر الأكبر في تكويننا الفكري صنعته برامج الكارتون، تلك التي تابعنا باهتمام بعد المدرسة، ورأيناها مكافأة ممتعة، ليس فيها واجب ولا إكراه.

لأعرف أسماء مسلسلات الكارتون الأكثر تأثيراً في طفولتنا العربية صنعت استطلاعاً في مجموعة معجم اللّهجات العربية على فيٓسبوك، وسألت: ما هي أسماء برامج الكارتون التي تذكرها من طفولتك في بلدك؟

الأسماء التي تذكرها الناس هي للبرامج التي كان لها تأثير واضح فيهم، وهذا أهمّ من إحصاء كمّي تقليدي، لأنّ حفظ الأسماء عبر العقود يعني أنّ هذه أسماء لمسلسلات أثّرت فعلاً في طفولة صاحب الإجابة، فأحبّها، وصنعت شيئاً فيه، باق إلى اليوم.

هذه المسلسلات، بنسختها العربية، نشرت ألحان بعض اللّهجات العربية فصارت مألوفة كلحن للفصحى بين شباب العرب. وهذه المسلسلات كوّنت الكثير من أنماط التفكير العربية، وأثّرت بقوّة في طريقة تعاملنا مع معتقداتنا وآراء الآخرين فينا، وفي طريقة صناعتنا لقرار ردّ الفعل. وبالتالي، صنعت نظرتنا إلى هذه الحياة، وما فيها من موروث إيماني وتقليدي وثقافي.

وإليك نتيجة هذا الاستطلاع الميداني البسيط:

شملت نتيجة الاستطلاع على أسماء 88 برنامج كارتوني للأطفال واليافعين.

بين بلدان الإنتاج والتنفيذ تفوّقت اليابان بكونها مصدر ~83٪ من برامج الكارتون. تليها الولايات المتحدة الأميركية وكندا، ثمّ بلدان من غرب أوروپا، ومصر والكويت.

بلدان الإنناج والتنفيذ

لكنّ مصدر المحتوى المنفّذ هو الأهمّ هنا، فهو مصدر الأفكار التي جسّدتها برامج الكارتون هذه. ومع أنّ اليابان تتفوّق هنا كذلك بنسبة ~45٪ غير أنّ الكثير من إنتاجها هذا اعتمد على أدبيّات غرب أوروپية وأعاد كتابتها. تلي اليابان بلدان غرب أوروپا كمصدر صريح بنسبة ~35٪، وأغلب الروايات المصدر كانت سويسرية باللّغة الألمانية. أو بريطانية. تليها الولايات المتحدة وكندا، بالإضافة إلى مصر وكوريا الشمالية.

بلدان مصدر المحتوى

ويظهر عقد الثمانينيات ذو الأثر الأكبر في الذاكرة العربية بنسبة ~38٪، يليه عقد السبعينيات، ثمّ التسعينيات.

فترات سنوات الإنتاج

أمّا بلدان التعريب، فتتنافس على المقدّمة سوريا ولبنان، بنسبة ~34٪ لسوريا، و~31٪ للبنان، ثمّ الكويت ~14٪، ثمّ الأردن ~13٪، تليهنّ مصر والعراق والسعودية والشارقة. وأستغرب أنّ بلدان المغرب العربي لم تساهم أبداً بتعريب برامج الكارتون المستوردة أو بإنتاج برامجها العربية الخاصّة.

بلدان التعريب (الدبلجة)

عتب بعض المعلّقين أنّ برامج الكارتون في طفولتهم كانت بعربيّة فصحى جميلة، بينما أصبح العديد منها الآن باللّهجات المحلّية.

أشار بعضهم إلى كيف أنّ الرسوم المتحرّكة القديمة كان لها قيمة تعليمية أكبر مقارنة بتلك الحديثة.

أخيراً، لمركز الزهرة في دمشق (سپيستون) الدور في إنتاج أغلب التعريب السوري. وبينما نلاحظ أنّ شركات التعريب القديمة ركّزت على محتوى كلاسيكي وأدب عالمي، يسوّق لقيم فكريّة وأخلاقيّة. ركّز مركز الزهرة وMBC السعودية على محتوى قادر على بيع ألعاب، كشخصيات عنيفة أو محاربة في صراعات تنافسيّة فارغة تبحث عن الأسرع والأقوى والأعنف دون أيّ قيم اجتماعيّة.

مركز الزهرة في دمشق اعتاد تزوير قصّة المسلسل في مرحلة الدبلجة لتكييفها بما يتناسب مع پروپاگندا مستثمري المركز ومصادر التمويل. هذا المشهد سيتغيّر بالكامل، برأيي، مع تعوّد الأجيال الجديدة على منصّات الترفيه الأميركية، التي تقوم بتضمين دبلجة عربيّة أصليّة لبرامجها، مع الحفاظ على تفاصيل القصّة دون تشويه أو تزوير أو تكييف. وفي ذات الوقت، نراها تتيح مصادر متنوّعة لبرامج الكارتون عليها، خارج إطار الاتّكال المطلق على اليابان.

تأثير الأنمي الياباني على العالم العربي وتأثيراته السلبية المحتملة على الأطفال

وهكذا، أظهرت نتيجة الاستطلاع الحضور الساحق للأنمي الياباني في تربية الأجيال العربية المولودة ما بين سنتي 1970 و 2000. وقد يبدو هذا تأثير جيّد، خصوصًا أنّه آت من اليابان، بلد متفوّق على مستوى العالم. لكن، لهذا الحضور أثر سلبيّ خفيّ قد لا نلحظه في حياتنا وآليّة التفكير وقراءتنا للواقع. وأنا هنا لا أتحدّث عن أثر ديني قد يهدّد الإسلام في العالم العربي، بل أتحدّث عن شيء أكبر وبتأثير أعمق بكثير من التأثّر الديني.

الأنمي الياباني في العالم العربي كلّه مدبلج إلى العربية، تلقّاه الطفل العربي بذات اللّغة التي يتفاعل معها في المدرسة والإعلام والمسجد والكنيسة، فاتّخذ المكانة المعنويّة نفسها. وبرغم أنّ هذا يحمي الطفل العربي من التأثير اللّغوي الياباني، غير أنّ الأطفال في العالم العربية غالباً ما يشاهدون الأنمي الياباني حصراً، دون مساحة لتأثير آخر. ولهذا أثر عميق في اللاوعي العربي على مدى العقود القليلة الماضية.

يمكن أن يكون تأثير الأنمي الياباني على الأطفال العرب إيجابيًا وسلبيًا، اعتمادًا على عدّة عوامل. وأخطر التأثيرات المحتملة تشمل الانفصال الثقافي، وتقبّل العنف والمحتوى غير اللائق، بالإضافة إلى التنميط الخاطئ وتكريس أدوار جندرية غير معتادة في البلاد العربية.

قد لا تتماش بعض جوانب الأنمي الياباني مع قيم ومعايير عادات العالم العربي. وهذا يسبّب الارتباك والتوتّر للأطفال حين يحاولون التوفيق بين الرسائل الثقافية المختلفة التي يتلقّونها. ويمكن أن يحتوي بعض الأنمي الياباني على مواضيع عنيفة أو للكبار، والتي قد لا تكون مناسبة للجماهير الصغيرة. ويمكن أن يؤدّي ذلك بشكل محتمل إلى تأثير سلبي على الصحة النفسية للأطفال أو يجعلهم يتساهلون مع العنف بشكل مثير للاضطراب. وقد يعزّز الأنمي الياباني في بعض الأحيان التصوّرات النمطية أو يعزّز الأدوار الجندرية التقليدية، والتي قد لا تتوافق مع التطوّر الاجتماعي للعالم العربي. ويمكن أن يؤثر ذلك في طريقة تصور الأطفال لأنفسهم والآخرين، مما يؤثر على فهمهم للجندر والتوقّعات الاجتماعية.

وأنا هنا لا أنتقص القيم والعادات اليابانية، لكنّني أشير إلى الاضطراب والارتباك الذي يتراكم ويتصاعد في ذهن الطفل العربية، في مرحلة مبكّرة، غير مناسبة لمعالجة هذه القضايا على المستوى النفسي، ممّا يترك أثراً عميقاً من الارتباك، قد يستمر مع التقدّم بالعمر، ويتفاقم. وهو ذات الأثر الذي يتعرّض له الأطفال المغتربين في أعمار المراهقة، فيدفعهم تضارب المفاهيم والعادات ما بين داخل وخارج البيت إلى الغرق في حالتين سيّئتين، هنّ اضطراب اكتئاب المهاجر، والشعور العنيف بالغربة واضطراب تعريف الهويّة… وهي فعلاً حالة شبه عامّة في البلاد العربية.

عزلة واغتراب في الوطن

الآن، عند الأخذ في الاعتبار أنّ الأطفال العرب قد يتعرّضون لفرص محدودة من التواصل مع المحتوى المحلّي، تصبح التأثيرات السلبية المحتملة للإعلام الأجنبي، مثل الأنمي الياباني، أكثر أهمّية. يمكن أن تؤدّي قلّة التأثيرات المحلية إلى عدة مشاكل، مثل فقدان الهُوِيَّة الثقافية وانعدام فهم العادات وفقدان الشعور بالكيان الذاتي والتفضيل المفرط للثقافات الأجنبية وتفسير العناصر الثقافية بشكل خاطئ ما يؤثّر على احترام اللّغة والقدرة على التواصل.

يمكن أن يُسهم انتشار الإعلام الأجنبي، خاصة إذا لم يجار القيم والمعايير الثقافية للعالم العربي، في إضعاف الهُوِيَّة الثقافية بين الأطفال العرب. قد يشعرون بالانفصال عن ثقافتهم وتراثهم حين يتعرّضون بكثافة للآراء والقيم الأجنبية. وبسبب قلّة المحتوى المحلّي المتاح، قد لا يرى الأطفال العرب تمثيلاً واقعياً لأنفسهم أو لثقافتهم بشكل واقعي في الإعلام. وهذا يمكن أن يؤدّي إلى انعدام الشعور بالوجود والشعور بالتهميش، بالإضافة إلى غياب النماذج القدوة من الذين يمثّلون خلفيّتهم الثقافية وتجاربهم. ويمكن أن يؤدّي التعرّض للإعلام الأجنبي بشكل رئيس إلى تفضيل الأطفال للثقافات الأخرى، خاصّة إذا تمّ تصوير هذه الثقافات بتمجيد إيجابي. ويمكن أن ينشأ شعور بالدونية أو السخط على ثقافتهم المحلّية، مما يؤدي إلى رغبة في تبنّي القيم والسلوكيات وأسلوب الحياة للثقافة الأجنبية. 

وبدون سياق ثقافي مناسب، قد يفسّر الأطفال العرب بعض العناصر في الأنمي الياباني أو الإعلام الأجنبي الآخر بشكل خاطئ. وهذا يمكن أن يؤدّي إلى الارتباك أو تبنّي السلوكيّات والقيم غير المناسبة لسياقهم الثقافي. وقد يؤثّر انتشار الإعلام الأجنبي، حتى عندما يتم دبلجته إلى العربية، في طريقة كلام الأطفال وتواصلهم. قد يتبنون تعابير أو لكنات أجنبية، مما يمكن أن يؤدّي إلى انفصال عن تراثهم اللّغوي والثقافي، وحاجة مستمرّة إلى الانقلاب عليه.

لمواجهة هذه التأثيرات السلبيّة، من المهم تعزيز إنتاج واستهلاك المحتوى المحلّي الذي يعكس القيم والتقاليد وتجارب العالم العربي. سيوفّر هذا للأطفال نظامًا غذائيًا إعلاميًا متوازنًا ويساعدهم على تطور التفاهم العميق لثقافتهم وهويّتهم. كما يمكن لأولياء الأمور والمعلّمين العمل على توجيه الأطفال لمشاهدة الأنمي الياباني والإعلام الأجنبي الآخر بشكل معتدل واختياري، وتوجيه الأطفال نحو الأنمي الياباني الذي يحتوي على رسائل إيجابيّة وتعليميّة.

علاوة على ذلك، يمكن تنظيم ندوات وورشات للأهل والأطفال لزيادة الوعي حول التأثيرات السلبية المحتملة للإعلام الأجنبي وكيفيّة التعامل معها. يمكن للمناقشات المفتوحة والتوجيه المناسب أن يساعد الأطفال على تقدير ثقافتهم الخاصة وفهم أنّ الثقافات الأخرى يمكن أن تكون ملهِمة وممتعة دون أن تُهمِّش هويّاتهم وقيمهم.

في النهاية، يجب قَبُول أنّ الأنمي الياباني والإعلام الأجنبي هما جزء لا يتجّزأ من التجربة الإعلامية للأطفال في العالم العربي. ومع ذلك، يمكن اتّخاذ الخطوات اللّازمة لضمان التوازن بين التأثيرات المحلية والأجنبية وتعزيز الهُوِيَّة الثقافية والتقاليد والقيم بين الأطفال العرب. يمكن للتوجيه الواعي والمحتوى المحلّي القوي أن يمنح الأطفال القدرة على التفاعل مع العالم من حولهم بطريقة مستدامة ومفيدة.

كما أنّنا لا نقدر على منع الأطفال عن السكّر، لكنّنا نقدر على توفير وجبات متوازنة وممتعة، تحتوي على السكّر إضافة إلى ما ينفع ويفيد، ويحمي صحّة أطفال العرب العقلية.

الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم