الإعلانات
,

تحرير الكلمة: نحو لغة خطاب عربية أكثر نقاءً وفاعلية

تجاوز عمري الأربعين سنة بست أعوام ولم أزل غير قادر على فهم إصرار العربيّ على إلصاق الأسماء عند الحديث عنها بصفات. لماذا يفتقر فنّ الخطابة العربيّ للقدرة على سكب الأسماء مجرّدة دون صفات؟

قام فلان بفعل… يريد فلان هذا الفعل… هذه طريقة مجرّدة واضحة وبسيطة في الإخبار وإبداء الرأي والاعتقاد، تترك حريّة الحكم والتصنيف والاعتقاد للمستمع القارئ المتلقّي.

لكنّ الخطابة العربيّة المعاصرة تصرّ باستمرار على شكل مختلف كثير التحديد باستبداد:

قام فلان الفعول بفعل فعلٍ فعيل… يريد فلان الفعيل هذا الفعل الفعول… ثمّ نجتهد في المزيد والمزيد من الوصف والمبالغة طالمَا عارقْنا الإدمان… فلان الفعول الفعيل ابن الفعاليل فعل هذه الفعلة الفعيلة الفعلاء!

لا يختلف الحال مدح أو ذم. جرّب استبدال هذه الأوزان بما شئت من الصفات.

مع هذا الوصف والتأطير ليس لك بصفة متلقّ إلا تأييد الخبر كاملًا بصفاته؛ أو فتح جبهة معارضة. خياران ليس بينهما سلام ولا هدوء. فأنت بعدها خاضع خنوع أو رافض متمرّد! لماذا؟ لماذا كلّ هذا العنف في أدوات تواصلنا اللّغوية؟

لماذا لا تُترك لي أنا العربيّ خيارات مفتوحة؟ لماذا تُمنع عنّي حريّة اختيار الصفات في ذهني وعقلي دون سجود؟ ولماذا نفرض على أنفسنا بتر التفكير وقَصْر التحليل؟ 

لماذا نجبر بعضنا على التقاتل؟

“قام بشار الأسد بالقتل”… “يريد پوتن احتلال سوريا”. هذه عبارات إخباريّة مجرّدة وواضحة بصياغة بسيطة لا لبس فيها. والنقاش من بعدها يلتزم صُلْب الموضوع، وأهمّ ما يجب أن يُناقش، وهو الفعل المفعول.

“قام بشار الحيوان سليل النصيرية الخونة بالقتل”… وضاع هنا الاهتمام بفعل القتل وقد تضاءل حجمه، وتشتّت النقاش في صفات القاتل وتاريخ الوصوف وواقعيّتها، وتقاتلنا؛ فذبحنا بعضنا بالنيابة عنه. بدل نقاش حقيقة فعل القتل الواقع، بغضّ النظر عن صفات القاتل. فهو في النهاية فاعل؛ والفعل هو الجريمة لا الفاعل، وهذا أهمّ ما في الموضوع.

قد تختلف معي في مثالي الذي استخدمته لتوضيح الفكرة، لكنّه من جانبي هنا؛ مثال عمليّ لا أكثر. وكلّ ما أريد التعبير عنه؛ هو واقع أنّنا نستخدم لغة عربية مشوّهة، شوّهتها قرون من تهافت الخطابة وتدمير أدواتها، حتّى افتقد العربيّ للقدرة على التعبير عن فكرة، فمَا عاد فهم في العالم ألمه أحد.

أدوات الخطابة هي عماد لغة الحِوار، ولمّا فسدت أدواتنا تعطّل بيننا الحِوار.

ولعل أحد أبرز الأمثلة على تأثير هذا الأسلوب في تشتيت النقاش وإضاعة الحقيقة، هو ما نراه في الخطاب السياسي والإعلامي حول كثير من القضايا الساخنة في عالمنا العربي. فبدل أن يركز الحِوار على جوهر المشكلات وأسبابها الحقيقية وسبل حلها، ينشغل بالتراشق بالأوصاف والنعوت والتخوين والتكفير بين الأطراف المختلفة.

وهكذا تتحول الساحة لحلبة صراع بين فرقاء يتبادلون الاتهامات والشتائم، في حين تغيب القضايا الحقيقية ويضيع مغزى النقاش وَسَط زحام الصفات والأحكام الجاهزة. ويخرج المتابع في النهاية فارغ الوفاض، بلا فهم حقيقي لأصل المشكلة أو تصور واضح لطريقة معالجتها.

وفي هذه الأجواء، تنتصر لغة العاطفة الجياشة والشعارات الرنانة، وتتراجع لغة العقل والمنطق. ويتحول الحِوار من تفاعل بنّاء وتلاقح للأفكار، إلى حالة من العمى والصمم وانعدام القدرة على الإنصات أو تقبل الاختلاف.

لذا، فإن أردنا استعادة جدوى حواراتنا وقيمتها، علينا أن نبدأ بإصلاح أدواتنا اللغوية أولًا. وأن ندرك أن الكلمة مسؤولية، وأن أسلوب خطابنا له تداعيات عميقة على مستقبل مجتمعاتنا وقدرتها على مواجهة تحدياتها.

فلنتخلّص من ثقافة إلصاق الصفات والأحكام المسبقة، ولننتقل إلى ثقافة الحقائق والأرقام. ولنترك للمتلقي حرية تكوين آرائه بناء على معطيات موضوعية، لا أن نفرض عليه انطباعاتنا ومواقفنا الشخصية ثم نطالبه بالانصياع لها.

عندها فقط، يمكن أن يستعيد خطابنا العربي مصداقيته وفاعليته، وأن يصبح أداة للتنوير وبناء الإجماع، لا للاستقطاب وتأجيج الصراع. عندها فقط يمكن لحواراتنا أن تكون منطلقًا لتقدمنا لا عائقًا في طريقه.

والطريق طويل وصعب، لكنه ممكن إذا آمنا به وثابرنا عليه. والبداية بالوعي والإرادة والتصميم. فلنشحذ هممنا، ولنبدأ من الْآنَ، كل في موقعه، ليكون خطابنا العربي نبراسًا يضيء لنا طريق النهوض، لا معولًا يهدم كل فرصة للقاء والتفاهم فيمَا بيننا.

وإذا نظرنا بعين فاحصة، سنجد أن هذه الظاهرة ليست حكرًا على الخطاب السياسي والإعلامي فحسب، بل تمتد لتشمل مناحي أخرى كثيرة في حياتنا. ففي مجال الأدب والنقد، كم من أعمال إبداعية تم تجاهل قيمتها الفنية والفكرية، بسبب انشغال النقاد بشخص صاحبها وانتماءاته وصفاته، بدل التركيز على ما تحمله هذه الأعمال من معانٍ وأفكار.

وفي حقل التعليم والتربية، كم من طالب نبوغ تم تثبيطه وإحباطه، بسبب أحكام جاهزة أُلصقت به من قِبَل معلميه، دون النظر بموضوعية لقدراته الحقيقية وإمكاناته الكامنة.

بل حتى في علاقاتنا الاجتماعية اليومية، فإن الكثير من سوء الفهم والتنافر بين الأفراد والجماعات، مردّه إلى هذا الميل المبالغ فيه لإطلاق الأحكام المعممة والصفات النمطية على الآخر، دون إفساح المجال لمعرفته على حقيقته والتعامل معه بصفته إنسانًا فريدًا له ظروفه وتكوينه الخاص.

إن استئصال هذه الآفة من حياتنا، يقتضي منا جهدًا جماعيًا متكاملًا، يبدأ بتغيير أنماط تربيتنا وتعليمنا، ويمر عبر مراجعة شاملة لمنظومتنا الإعلامية والسياسية، ويصل إلى سلوكنا الشخصي وطريقتنا في التعامل مع الآخر. فالأمر لن يتغير بين ليلة وضحاها، لكن المهم أن تكون لدينا إرادة حقيقية للتغيير، مع الصبر والمثابرة اللازمين لتحقيقه.

لكن فوق كل هذا، فإن أهم ما نحتاج إليه هو شجاعة مواجهة الذات والاعتراف بأخطائنا. فكثيرًا ما ننبري للدفاع عن أسلوبنا في الحِوار، بدعوى أنه جزء من ثقافتنا وهويتنا، أو أنه أسلوب بلاغي له جذور تاريخية، أو أنه استجابة طبيعية لما نعانيه من قهر وإحباط. لكن الحقيقة هي أن كل هذه ليست سوى مبررات واهية، تبعدنا عن مواجهة المشكلة الأساسية، وهي تغلغل ثقافة التعميم والإقصاء والتسطيح في أعماقنا.

لذا، فإن أردنا فعلًا النهوض بلغتنا وفكرنا، فمَا علينا سوى الإقرار بأننا جزء من المشكلة، وأن التغيير ينبغي أن يبدأ منا نحن. فقط حين نمتلك هذه الشجاعة، ونعلن من دون مواربة رفضنا لكل أشكال التنميط والتسطيح، مهما كان مصدرها، يمكننا عندها أن نقول إننا بدأنا فعلًا رحلة التغيير.

رحلة ستكون طويلة وشاقة بلا ريب، لكنها الرحلة الوحيدة التي تستحق أن نخوضها، إذا كنا فعلًا نريد لأنفسنا ولأجيالنا القادمة، حياةً وخطابًا أكثر نقاءً وإنسانية، وأقدر على استيعاب تنوعنا وثرائنا وقيَمِنا النبيلة.

هل نحن مستعدون أن نقبل بهذا التحدّي؟ الإجابة متروكة لكلٍّ منّا.

ولعله من المفيد في هذا السياق، أن نستلهم بعض الدروس من تراثنا الفكري والأدبي العربي. فعلى الرغم مما قد يبدو للبعض من هيمنة لغة الإنشاء والبديع في هذا التراث، إلا أن هناك نماذج كثيرة تحتفي بقيم الموضوعية والحياد في الطرح، وتنأى عن مزالق التحيز والمبالغة والأحكام المسبقة.

فها هو الجاحظ، إحدى أعلام أدبنا العربي، يدعونا في كتابه “البيان والتبيين” إلى التحلي بالموضوعية والدقة في النقل والتعبير عن الأفكار، بعيدًا عن التحريف أو المبالغة. ويؤكد على ضرورة الفصل بين الخبر والرأي، وتجنب الخلط بين الحقائق والانطباعات الشخصية.

وفي مقامة بديعة له، يسخر أبو الفتح الإسكندري من هؤلاء الذين يطلقون الأحكام الجاهزة والعبارات المنمقة دون تمحيص أو تدقيق. ويصفهم بأنهم “كالببغاوات يرددون ما يسمعون، وكالقرود يحاكون ما يرون”، في إشارة لاذعة لمن يتنكبون طريق العقل والتفكير المستقل.

أما ابن خلدون، فقد كرس جهدًا كبيرًا في “مقدمته” الشهيرة، لتأصيل مبادئ البحث العلمي القائم على النظر المجرد والاستدلال المنطقي، بعيدًا عن الأهواء والآراء المسبقة. ودعا إلى ضرورة التثبت من الأخبار وعدم التسليم بها دون تمحيص، مشددًا على أهمية النقد وإعمال العقل في كل ما يرد إلينا من معارف ومعلومات.

هذه النماذج وغيرها كثير في تراثنا، تشي بوجود رصيد معرفي وقيمي يمكن البناء عليه في سعينا لتطوير خطابنا المعاصر. فنحن لسنا بحاجة لاستيراد مفاهيم الموضوعية والنزاهة الفكرية من الخارج، بقدر ما نحن بحاجة لإعادة اكتشاف هذه المفاهيم في تراثنا وإحيائها في واقعنا.

وبقدر ما نستطيع تحقيق هذا التناغم بين أصالة الرؤية وضرورات التجديد، بقدر ما سنكون قادرين على تقديم نموذج حضاري متفرد، يساهم بفاعلية في إثراء الحِوار الإنساني ويؤكّد على كونيّة القيم النبيلة التي تنشدها البشرية قاطبة.

فلنجعل من تراثنا منطلقًا لا ملاذًا، ومن واقعنا دافعًا للتغيير لا مبررًا للجمود والاستسلام. ولنؤمن بأن بإمكاننا، بل من واجبنا، أن نقدم للعالم أسلوبًا مغايرًا في الخطاب والتفكير، أسلوبًا يتسم بالعمق والموضوعية والانفتاح، ويتخذ من الكلمة الصادقة الهادفة سبيلًا لتحقيق آمال شعوبنا في الحرية والكرامة والعدالة.

لأن الكلمة في النهاية، هي ميراثنا الذي لا يضاهيه ميراث. وهي سلاحنا الأمضى في مواجهة كل أشكال الظلم والتسلط والتضليل. فلنصنها ولنرتقي بها، حتى تكون دومًا في خدمة الحق والخير والجمال. وحتى يكون خطابنا شاهدًا لنا لا علينا، في محكمة التاريخ والضمير الإنساني.

وفي ختام هذا المقال، لا يسعني إلا أن أؤكد مجددًا على أن معركة إصلاح لغتنا وتجديد خطابنا، هي في حقيقتها معركة من أجل مستقبلنا ومصيرنا كأمّة. فاللّغة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي تجسيد لهويتنا وانعكاس لقيمنا ورؤيتنا للعالم. والخطاب ليس مجرد كلمات تتطاير في الهواء، بل هو الوسيلة التي نشكّل بها وعينا ونصوغ بها تطلعاتنا وآمالنا.

لذا، فإن أردنا فعلًا أن ننهض من كبوتنا وننتصر لقضايانا العادلة، فلا بد أن نبدأ بالنهوض بلغتنا وخطابنا أولًا. وأن نجعل منهما أدوات للتنوير والبناء، لا للهدم والتضليل. وأن نتخلص من كل ما علق بهما من شوائب التحيز والتعميم والسطحية، حتى تستعيد الكلمة قدسيتها ومكانتها اللائقة في حياتنا.

وأنا على ثقة بأننا قادرون على تحقيق ذلك، إذا توفرت لدينا الإرادة والوعي والإصرار. وأننا سنجد في تراثنا الحضاري وقيمنا الأصيلة، ما يلهمنا ويدفعنا لصياغة نموذج خطابي يليق بعظمة أمتنا وحضارتها، ويعبر بصدق عن طموحات شعوبنا وتحدياتها.

المهم أن نؤمن، وأن نبدأ، وأن نثابر. فرحلة الألف ميل، تبدأ دومًا بخطوة.


قد يهمّك أيضاً :: RSS

الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم