الإعلانات
, , , , , ,

المغرب العربيّ العَطِر

في الأمس، ساءني تنازع أهل البلدان المغاربية في التعليقات تحت منشورات #تتبيلة حول أصل خلطة راس الحانوت. التونسي ينازل الجزائري والجزائري ينازل المغربي والمغربي ينازل الاثنين… هذا غير جيّد. راس الحانوت ميراث مغاربي مشترك، لهذا تحدّثتُ عنها بوصفها نكهة الطبيخ المغاربي كلّه. هذا التنازع لا يجوز.

خلطة رأس الحانوت المغربية هي مِزَاج تقليدي من العطور يُستخدم في المطبخ، وتعتبر من أبرز التتبيلات في الطبيخ المغاربي الأصيل. ويصعب تحديد تاريخ دقيق لنشأتها بسبب طبيعتها التقليدية وتطوّرها الشعبي عبر الزمن.

في المشرق، أشهر خلطات العطور هي خلطة السبع بهارات، ومنها نسختين، واحدة تحمل اسم العربية، والثانية تحمل اسم الحلبية. لا يوجد حساسية ولا توتّر حول اسم خلطات السبع بهارات في المشرق، بل إنّ تسمية الخلطة الحلبية ظهرت فقط لتمييزها عن الخلطات الشهيرة باسم العربية، لخلوّ الحلبية من المكوّن العربي الأساسي، الكمّون.

خلطة سبع بهارات حلبية شهيرة جداً في بلدان جزيرة العرب، ويندر أن تجد بيتاً فيه لا يحويها. ولا يقتصر استعمالها على الطبيخ الحلبي وحده. بل إنّ العديد من شركات اليوم تصنعها وتبيعها في المملكة السُّعُودية ولبنان، وكلّ هذه الشركات تحافظ لها على اسمها “خلطة بهار حلبي” أو “سبع بهارات حلبية” ولا تتحرّج من نسبتها إلى أصلها.

على الطرف المقابل نرى خلطة سبع بهارات عربية، هي في الأصل من بنات دمشق، لهذا يسمّيها البعض خلطة سبع بهارات شامية. وهي متداولة في الطبيخ المحلّي في مصر والعراق ولكلّ منطقة تعديلاتها الخاصّة بها، إضافة إلى كلّ بلدان جزيرة العرب. مع ذلك، لا تجد الشامي ينازع أحداً في اسمها، بل يسمّيها خلطة سبع بهارات عربية، أو بهار فقط، كما يفعل أهل دمشق. 

الآن، حول خلطة راس الحانوت، اسمها في الأصل رأس الحُنوط، لأنّ الحنوط هو الاسم العربي المغربي للبهارات، وكلمة الحنوط كلمة عربية تسبق البهارات في الوجود، وهي في الأصل صفة للكمّون والحنّاء. واسمها رأس لأنّها خلطة من أهمّ الحُنوط المباعة في الحانوت أو عند الحانوتي. والحانوتي أو الحنوطي كان يحظى بنفس المكانة التي نمنحها اليوم للصيدلية، لا أقل بل ربّما أكثر.

تحنيط المتوفّى في الأصل هو غسله ثمّ دهنه بالكمّون والحنّاء تجهيزاً لتوديعه إلى خالقه معطّراً في أحسن صورة. وهذه كانت وظيفة الحانوتي في الأساس.

وللبحث في ترث راس الحانوت، من المهمّ القول أنّ فكرة بيع خلطات من العطور المجفّفة ليست وليدة العصر الحديث، بل إنّ أشهر تجاراتها وُلدت في العهد الفينيقي (البونيقي)، وبيعت دائماً على أنّ لها أثر تطبيبي. وهذا لم يتغيّر مع وراثة العهد الروماني للفينيقي. والعهد الروماني شهد ميلاد الكثير من الخلطات، أشهرها مثلاً خلطة الزعتر الفلسطينية (على اسم المعبود زعتر) لزيادة الخصوبة.

وبخلافة الإسلام للعهد الروماني حافظت مجتمعات غرب المتوسّط على ذات التراث، ومع وفادة المزيد من العطور من آسيا وُلدت إذ ذاك خلطات التُرُق. كالترياق الكبير والترياق الصغير، مع استمرار فكرة أنّ في تناولها وقاية من الأمراض وحماية للبدن والعقل، ونجد العديد منها مذكور في كتب التراث الطبّي الأندلسي والمغربي، كمثل كتاب {التيسير في المداواة والتدبير} للطبيب العظيم {أَبُو مَرْوَانْ عَبْدُ اَلْمَلِكْ بْنْ زَهْرِ} الذي عاش في القرن 12 الميلادي (القرن 6 الهجري) وهو صانع علم الصيدلة غرب الأوروپي الحديث.

وابن زهر من عائلة إشبيلية عريقة اشتغلت في ريادة الطبّ في غرب المتوسّط لأربع قرون، من القرن 10 إلى 13، كانت الكلمة من أحدهم آية، والكتاب إذا أخرجوه مرجع. اشتغلوا في خدمة صحّة المرابطين، ثمّ الموحّدين. وفي عهد الخليفة {عبد المؤمن الكومي} حمل ابن زهر وزارة الطبّ في مراكش، وفيها صنع خلطة عطور “ترياق” لطبيخ موائد الخليفة، تقي صحّته وتحميها، ولا تخرّب طعمها.

خلطة الترياق، هي مِزَاج من الأعشاب والبزور العطرية التي كانت تُستخدم قديماً كعلاج شامل للسموم والأمراض. كان الترياق معروفاً في الطبّ العربي القديم، وتكوّن من عدد كبير من المكوّنات المختلفة.

  1. الترياق الكبير: كان يحتوي على عشرات المكونات، بما في ذلك الأفيون وبعض الأعشاب والتوابل النادرة.
  2. الترياق الصغير: كان نسخة أبسط وأقل تعقيداً من الترياق الكبير، وكان يستخدم لعلاج مجموعة متنوّعة من الأمراض.

من المعروف أنّ الأطبّاء في العصور الوسطى، بما في ذلك ابن زهر، كانوا يستخدمون تركيبات معقّدة تتضمّن العديد من الأعشاب والبزور العطرية، ومن الطبيعي أن يشير ابن زهر إلى مثل هذه التراكيب في أعماله.

هذه الخلطة، هي التي انتشرت بين أهل المغرب الكبير، من مراكش، تعطّر الطبيخ في بيوتهم، وتصنع أمزجتهم، وتطوّرت حتّى صارت راس الحانوت. لذا، فلا ضراوة أن نسمّها بكلّ محبّة خلطة راس الحانوت المغربية… ولو عدّلنا فيها، على عادة أهل مدائن الجزائر وتونس. وعاش المغرب العربي الكبير أعطر بلاد العرب بالمطلق، وشكراً للمغرب على منحنا علم الصيدلة العربي الحديث.

خلطة راس الحانوت المغربية
خلطة راس الحانوت المغربية

خلطة راس الحانوت تمثّل رمزاً ثقافيّاً وتاريخيّاً مشتركاً يعبّر عن الوحدة والثراء الثقافي بين دول المغرب العربي. من المهمّ أن نتذكّر أنّ هذه الخلطة ليست مجرّد مِزَاج من العطور، بل هي جزء من تراث طويل يمتدّ عبر العصور، ويعكس تداخل الثقافات والتأثيرات التاريخية التي ساهمت في تشكيل هُوِيَّة المطبخ المغاربي. يجب أن تُعدَّ هذه الخلطة رمزًا للتعاون والتكامل بين دول المنطقة بدلاً من أن تكون سبباً للخلاف. لذا، دعونا نحتفي بتنوّعنا الثقافي ونعمل معاً للحفاظ على هذا التراث الغنيّ ونقله للأجيال القادمة.

مراجع

  1. ابن زهر، أَبُو مَرْوَانْ عَبْدُ اَلْمَلِكْ بْنْ زَهْرِ. التيسير في المداواة والتدبير. القرن 12 الميلادي (القرن 6 الهجري).
  2. جورج سارتون. مقدمة لتاريخ العلم. تَرْجَمَة أحمد زكي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001.
  3. أحمد عيسى. تاريخ الصيدلة والعقاقير في العصور القديمة والوسطى. دار الكتب العلمية، 2009.
  4. علي عبد الله الدفاع. رواد الطب في الحضارة الإسلامية. دار القلم، 1993.
  5. سامي النشار. فلسفة الحضارة الإسلامية. دار النهضة العربية، 1983.
  6. لوسيان لوكلير. تاريخ الطب العربي. تَرْجَمَة محمود الحاج قاسم محمد، دار الغرب الإسلامي، 1997.
  7. ماكس مايرهوف. دراسات في الطب العربي. تَرْجَمَة عبد الرحمن بدوي، دار المعارف، 1974.
الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم