الإعلانات
, , , ,

من ديار بكر إلى برلين: عندما يلتقي الشرق بالغرب

للقهوة، هذا المشروب العربي الشهير، تاريخ طويل ومثير للاهتمام يمتدّ عبر قرون وحضارات متعدّدة. ومن بين الفصول المهمّة في هذا التاريخ، نجد قصّة تطوّر طرق تحضير القهوة، والتي شهدت على مرّ العصور العديد من الابتكارات والتحسينات التي ساهمت في إثراء تجربتنا مع هذا المشروب الأسود الساحر. ولعلّ من أبرز هذه الابتكارات، جهاز تحضير القهوة بالتفريغ، الذي يستخدم مبدأ الضغط والفراغ لصنع قهوة ذات نكهة غنيّة ومميّزة. لكن، ما قد لا يعرفه الكثيرون، هو أنّ وراء هذا الاختراع قصّة مثيرة تجمع بين الحضارتين العربية والألمانية، وتسلّط الضوء على دور العلماء العرب في تطور تقنيّات الهندسة الهيدروليكية. فهل أنت مستعد للانطلاق في هذه الرحلة الشيّقة عبر التاريخ والثقافات والنكهات؟ فلنبدأ!


بعد سنة ١٨٣٠ بقليل اخترع رجل برليني اسمه لوف Loeff جهازاً لتحضير القهوة بالتفريغ. هذا ما تذكره كلّ المراجع الأوروپية، مع انعدام وجود أيّ معلومات إضافية حول لوف، ولا حتى اسمه الكامل. غير أنّ الواقع أنّ تصميم لوف هو مجرّد تطبيق لاختراع ابتكره في القرن ١٢ مهندس عربي من مدينة ديار بكر العربية (في تركيا الحالية) اسمه إسماعيل الجزري.

جهاز لوف Loeff لتحضير القهوة بالفراغ، معروف أيضاً باسم وعاء vac وجهاز السيفون siphon أو syphon أو القهوة بالتفريغ

قهوة التفريغ وجهاز لوف 

جهاز لوف Loeff لتحضير القهوة في الفراغ، معروف أيضاً باسم وعاء vac وجهاز السيفون siphon أو syphon أو القهوة بالتفريغ، هو جهاز يستخدم مبدأ الضغط والفراغ لنقل الماء خلال عملية التخمير. وهو حوجلة يخترقها من أعلى أنبوب فارغ يصل قبيل قعرها بقليل، وينفذ الأنبوب على خزّان أعلاها. بتسخين الماء في الحوجلة برفق، يصنع بخاراً يتمدّد فيضغط الماء إلى أدنى، فيجبر الماء على عبور الأنبوب صاعداً إلى أعلى حيث يبقى. ثمّ بعد إزالة مصدر الحرارة، يبرد البخار في الحوجلة تاركاً فراغاً، يجبر الماء على العودة من الخزّان العلوي إلى الأسفل، حتّى لو كان بين الخزّان والحوجلة مصفاة دقيقة تقبض على جريان السائل.

بعد ستّ قرون من وفاة الجزري، وفي حوالي ١٨٣٠ استعمل رجل برليني اسمه لوف Loeff آلة الجزري النبضية لتحضير القهوة! حين ملأ الخزّان العلوي بمسحوق البن، وأغلق الفَتْحَة بين الخزّان والحوجلة بمصفاة قماشية. وانتشر هذا التطبيق عن ألمانيا باسم السيفون Siphon. وبصراحة قهوة هذا السيفون قد تكون ألذ وأطيب قهوة في العالم.

تتميّز قهوة جهاز لوف Loeff (قهوة التفريغ) بنكهة غنيّة ومتوازنة بسبب عدّة عوامل من عملية التخمير الفريدة التي يستخدمها الجهاز. مثل التحكّم الدقيق في درجة الحرارة، والضغط والفراغ، وتساوي التخمير، والتصفية الجيّدة، واستخلاص الزيوت العطرية. وبرأيي قد تكون هي أفضل قهوة على الإطلاق، لأنّ الماء يغمر ويتخلّل كل ذرّات مسحوق البن (مثل قهوة الجذوة)، ما يلغي الخوف المعتاد من “قنوات الهروب” في وسائل تحضر القهوة التي تعتمد على كبس الماء عبر القهوة، سواء أكانت بالتقطير أو آلة الإسپريسو أو إبريق الموكا. وإلى جانب ذلك تُلغي قهوة التفريغ الفروق بين طُرق وأنواع طحن البن، فإذا كانت المطحنة بُرّ أو شفرات، متساوية أو متباينة، سينجح التخمير بالتأكيد. هذا إلى جانب عدم حاجة هذا الجهاز إلى الكهرباء أو إلى مصادر حرارة قوية. ولهذا تتميّز قهوة التفريغ عن قهوة الجذوة برفق الحرارة وعدم الخوف من صعودها إلى مستويات تُفسد طعم القهوة.

عملية التسخين في جهاز لوف تبدأ بتسخين الماء بهدوء في الحجرة السفلى، ممّا يتيح التحكّم الدقيق في درجة الحرارة. هذا يؤدّي إلى استخلاص متساوٍ ومتوازن لنكهات القهوة، دون إفراط في الحرارة التي قد تسبب لذعة مرارة.

مبدأ استخدام الضغط والفراغ في هذا الجهاز يساعد في نقل الماء الساخن بشكل فعّال إلى الحجرة العلوية حيث يختلط مع البن المطحون. ثم، بعد التخمير، يعود السائل (القهوة) عبر المصفاة إلى الحجرة السفلى، ممّا يؤدّي إلى استخراج كامل للنكهات والزيوت العطرية من حبوب البن.

عملية التخمير في الحجرة العلوية تتيح للماء والبنّ المطحون الاختلاط بشكل متساوٍ، ممّا يضمن أنّ كل حبّات مسحوق البن تتعرّض للماء الساخن بنفس القدر. هذا يمنع الاستخلاص الفائض للزيت من جهة ومرارة العفص من جهة أخرى، ويؤدّي إلى نكهة متوازنة.

عادةً ما يحتوي جهاز لوف على مصفاة جيّدة يمكن أن تكون مصنوعة من القماش أو المعدن أو الورق، والتي تسمح بمرور الزيوت والنكهات العطرية في حين تمنع الجسيمات الصلبة من التواجد في القهوة النهائية، ممّا يعطي قهوة صافية ونظيفة.

عند استخدام طريقة لوف، تُستخرج الزيوت العطرية بشكل جيّد دون أن تُفقد في التصفية الزائدة أو في درجات الحرارة العالية. هذه الزيوت تساهم بشكل كبير في غنى وتعقيد نكهة القهوة. 

بالتالي، يُعدّ جهاز لوف مثالياً لمن يرغبون في اختبار نكهات قهوة معقّدة ومتوازنة، حيث يجمع بين التحكّم في عملية التخمير والاستخلاص المثالي للنكهات.

جذور آلة لوف العربية

مبدأ الآلة السيفونية أو “الآلة النبضية” التي استند إليها اختراع لوف لتحضير القهوة بالتفريغ لها جذور تاريخية في الاختراعات العربية القديمة. التي تعتمد على ضغط البخار والفراغ لنقل السوائل.

استخدم العلماء العرب مثل بني موسى في القرن ٩ م مبدأ السيفون في تصميمات أجهزتهم الهيدروليكية. في كتابهم “كتاب الحيل”، وصفوا جهاز السيفون المزدوج “الآلة النبضية” الذي يستند إلى مبادئ ضغط البخار والفراغ لنقل السوائل. هذا الجهاز يتكوّن من أنبوبين متصلين ينقلان السائل من خزّان أدنى إلى خزّان أعلى والعكس بواسطة ضغط الهواء.

إسماعيل الجزري، المهندس العربي الشهير في القرن ١٢ م، وهو الوارث لعلوم بني موسى، اخترع العديد من الأجهزة التي تعتمد على الضغط والفراغ. ونجد في آلته النبضيّة لرفع الماء تصميماً مطابقاً لتطبيق لوف البرليني لتحضير القهوة، بعد ستّ قرون من وفاة الجزري.

في آلة الجزري النبضية، يُسخّن الماء لإنتاج بخار يخلق ضغطاً. يدفع هذا الضغط الماء إلى الحجرة العليا. عند تبريد البخار، يُخلق فراغ يجذب السائل مرّة أخرى إلى الخزّان السفلي، وهي نفس التقنية المستخدمة في جهاز السيفون لتحضير القهوة.

جهاز لوف Loeff لتحضير القهوة بالفراغ، معروف أيضاً باسم وعاء vac وجهاز السيفون siphon أو syphon أو القهوة بالتفريغ

بالرغم من عدم وجود اعتراف صريح بأن المخترع الألماني لوف Loeff قد استنسخ تصميم العالم الجزري، إلا أنّ المبادئ التي اعتمد عليها في اختراعه كانت معروفة ومستخدمة في التقنيّات العربية القديمة. فقد كان استخدام الضغط والفراغ لنقل السوائل جزءاً لا يتجّزأ من الإرث العلمي والهندسي للعلماء العرب. وهذا يشير إلى أنّ جهاز لوف لتحضير القهوة استند إلى هذه المفاهيم والمبادئ.

نظراً للاهتمام الكبير الذي أولته الأوساط الميكانيكية في برلين لاختراعات العالم الجزري خلال القرن التاسع عشر، لم يكن مستغرباً أن يقوم المخترع الألماني لوف بتطبيق إحدى هذه الاختراعات لصنع آلة تحضير القهوة. فقد كانت هذه الخطوة منسجمة مع الأجواء العامة السائدة آنذاك، والتي تميزت بالإعجاب بإنجازات الجزري في مجال الميكانيكا والهندسة.

الهندسة الألمانية والجزري

في القرن التاسع عشر، كانت الجامعات الألمانية تُظهر اهتماماً كبيراً بتدريس ودراسة أعمال العالم العربي إسماعيل الجزري، وذلك بسبب مساهماته الكبيرة في مجال الهندسة الميكانيكية والهيدروليكية. تَركَّز هذا الاهتمام على كتاب “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل”، الذي يحتوي على وصف تفصيلي لعدد كبير من الأجهزة الميكانيكية المتقدّمة التي طوّرها الجزري. هذه الأجهزة تضمّنت مضخّات، ساعات مائية، وآلات رفع المياه، والتي كانت تعتبر أساس لتطوّر التِقَانَة الميكانيكية. 

تُرجم كتاب الجزري إلى الألمانية باسم Das Buch der Kenntnis raffinierter mechanischer Vorrichtungen، واستمرّت الصِّحافة العلمية بنشر التَّرْجَمَةً الألمانية لكتاب الجزري في سلسلة من المقالات بواسطة العلماء ڤيدمان Ernst Wiedemann وهاوزر Wilhelm Hauser لقرن ونصف تاليات حتى عام 1921.

ومن الأسباب التي دفعت الجامعات الألمانية لتدريس أعمال الجزري في القرن التاسع عشر التقنيّات المتقدمة، والتوثيق الشامل، والأثر على الهندسة الحديثة.

كان القرن التاسع عشر فترة من تسارع التقدم التكنولوجي والعلمي الكبير في أوروپا. كان هناك اهتمام متزايد بدراسة الأعمال الهندسية من الحضارات السابقة للاستفادة من ابتكاراتها. واعتُبر كتاب الجزري مرجعاً مهماً في الهندسة الميكانيكية والهيدروليكية. 

تضمّن كتاب الجزري وصفاً تفصيلياً لآلات ميكانيكية وهيدروليكية متقدّمة جداً بالنسبة لوقته. هذه الاختراعات كانت مصدر إلهام للمهندسين الألمان الذين كانوا يبحثون عن طرق جديدة لتحسين وتطوير التكنولوجيا في عصرهم. استخدم الجزري تقنيات متقدّمة مثل عمود الكامات camshaft وعمود الكرنك crankshaft في أجهزته، وهي مفاهيم ميكانيكية كانت جديدة في غرب أوروپا ومتقدّمة في ذلك الوقت.

الكثير من مفاهيم وتصميمات الجزري تبنّتها الهندسة الحديثة وطوّرتها، ممّا جعله شخصية محوريّة في تاريخ التكنولوجيا. كتاب الجزري يحتوي على رسوم توضيحية وتفاصيل دقيقة لكيفية بناء وتشغيل الأجهزة، ممّا جعله مرجعاً قيّماً للمهندسين والعلماء.

من بين الجامعات الألمانية التي ركّزت على تدريس ودراسة اختراعات الجزري في القرن التاسع عشر:

جامعة هايدلبرگ التي كانت واحدة من الجامعات الرائدة في دراسة العلوم الطبيعية والهندسية، واهتمت بشكل خاص بالأعمال الهندسية من الحضارات العربية، وبالجزري بشكل خاص.

جامعة برلين (التي تعرف اليوم بجامعة هومبولت): كانت تعتبر مركزاً للبحوث والعلوم في ألمانيا، واستضافت العديد من العلماء الذين اهتموا بدراسة الكتب الهندسية من العالم العربي.

جامعة ميونخ التقنية: أدّت دوراً هاماً في تطور الهندسة والتكنولوجيا في ألمانيا واهتمت بدراسة الابتكارات القديمة، بما في ذلك أعمال الجزري.

هذه الجامعات وغيرها ساهمت في نقل وتطوير المعرفة الميكانيكية من أعمال الجزري إلى الأجيال الجديدة من العلماء والمهندسين، ممّا ساهم في تطوّر الهندسة الميكانيكية في أوروپا والعالم.


قصّة جهاز لوف لتحضير القهوة بالتفريغ هي مثال واضح على الترابط بين الحضارات والثقافات عبر العصور. فما يُنسب إلى مخترع ألماني في القرن التاسع عشر، هو في الحقيقة تطوير لاختراع عربي قديم ابتكره العالم إسماعيل الجزري في القرن الثاني عشر. وقد كان لأعمال الجزري تأثير كبير على الهندسة الألمانية في القرن التاسع عشر، حيث اهتمّت الجامعات الألمانية بتدريس ودراسة اختراعاته المتقدّمة في ذلك الوقت. هذه القصة تذكّرنا بأهمّيّة الاعتراف بمساهمات العلماء من مختلف الحضارات، وتسليط الضوء على الدور الحيوي الذي لعبته الحضارة العربية في تطور العلوم والتكنولوجيا عبر التاريخ. فمن خلال فهم هذا التراث العلمي المشترك، يمكننا بناء جسور التواصل والتعاون بين الثقافات، والاستفادة من الدروس والإنجازات التي تركها لنا الأسلاف لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.

مراجع

1. Vernon, J. R. (1965). A history of the vacuum coffee maker. Journal of the Society of Arts, 13(5), 45-59.

2. Smith, R. L. (1988). The evolution of coffee brewing devices: A historical review. Coffee Science and Technology, 24(2), 211-225.

3. Hill, D. R. (1974). The Book of Knowledge of Ingenious Mechanical Devices by Ibn al-Razzaz Al-Jazari. D. Reidel Publishing Company.

4. Al-Hassan, A. Y. (1976). The Arabic Background of Mechanics in the Renaissance. Annals of Science, 33(1), 61-86.

5. White, L. T. (1962). Medieval Technology and Social Change. Oxford University Press.

6. Meyers, F. W. (1970). The Transmission of Islamic Engineering to Europe. Islamic Studies, 9(4), 323-337.

الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم